خطبة عن المساجد

[ابوالوليد المسلم]

خطبة عن المساجد
خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني


إن الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.




يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].




أما بعد: فإن أصـدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.




اعلموا أيها الإخوة المؤمنون أن من فضل المساجد في الإسلام أن من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتا في الجنة، فقد روى البخاري ومسلمعنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّةِ»[1].




وروى ابن ماجه بسند حسن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ المؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ[2]، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ[3] بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ[4]، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ»[5].




ومن أسرار المساجد عظَمُ أجر من ينظِّف المسجد؛ لذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم على المرأة التي كانت تكنس المسجد بعد دفنها، فقد روى البخاري ومسلمعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ[6] المسْجِدَ فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَنْهَا - أَوْ عَنْهُ - فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي» قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا - أَوْ أَمْرَهُ - فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ» فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ»[7].




ومن أسرار المساجد أن من قال عند خول المسجد: «أَعُوذُ بِاللهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» حفظه الله من الشيطان بقية اليوم، فقد روى أبو داود بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ المسْجِدَ قَالَ: «أَعُوذُ بِاللهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، قَالَ: أَقَطْ؟[8] قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا قَالَ: ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ»[9].




ومن تطهر في بيته، ثم ذهب إلى المسجد؛ ليصلي فريضة من فرائض الله كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً في الجنة، وكذلك عند رجوعه إلى بيته من المسجد، روى مسلمعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مَنْ بُيُوتِ اللهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً»[10].




أقول قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي، ولكم.



الخطبة الثانية

الحمدُ لله وكفى، وصلاةً على عبدِه الذي اصطفى، وآلهِ المستكملين الشُّرفا، وبعد..

فاعلموا أيها المسلمون أن الصلوات الخمس سبب من أسباب مغفرة الذنوب، فقد روى البخاري ومسلمعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ[11] شَيْءٌ؟» قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا»[12].




واعلموا أن الملائكة تدعو وتستغفر لمن يجلس في المسجد بعد الصلاة، فقد روى البخاري ومسلمعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، وَالمَلاَئِكَةُ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ مَا لَمْ يَقُمْ مِنْ صَلاَتِهِ[13] أَوْ يُحْدِثْ[14]»[15].




اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، أنت المقدِّم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وعلانيتها وسرها، اللهم اغفر لنا وارحمنا، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبِنا...




أقول قولي هذا، وأقم الصلاة.



[1] متفق عليه: رواه البخاري (450)، ومسلم (533).



[2]ورثه: أي: تركه للورثة، وفي معناه: كتب العلوم الشرعية، فيكون له ثواب التسبب. [انظر: شرح سنن ابن ماجه، للسيوطي (1/ 326)].



[3] لابن السبيل:أي المسافر والغريب. [انظر: شرح سنن ابن ماجه، للسيوطي (1/ 326)].



[4]أجراه: أي: جعله جاريا لينتفع به الخلق.[انظر: شرح سنن ابن ماجه، للسيوطي (1/ 326)].



[5] حسن: رواه ابن ماجه (242)، وحسنه الألباني.



[6] تقم: أي تكنس. [انظر: إكمال المعلم، للقاضي عياض (3/ 420)].



[7] متفق عليه: رواه البخاري (460)، ومسلم (956)، واللفظ له.



[8] أقط: أي حسبي. [انظر: النهاية في غريب الحديث (4/ 79)].



[9] صحيح: رواه أبو داود (466)، وصححه الألباني.



[10] صحيح: رواه مسلم (666).



[11] درنه: أي وسخه. [انظر: النهاية في غريب الحديث (2/ 115)].



[12] متفق عليه: رواه البخاري (528)، ومسلم (667)، واللفظ له.



[13] من صلاته: أي موضع صلاته. [انظر: إرشاد الساري (5/ 275)].



[14] يحدث: أي ينتقض وضوؤه. [انظر: إرشاد الساري (5/ 275)].



[15] متفق عليه: رواه البخاري (3229)، ومسلم (649).