|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() قصة الخليل إبراهيم وشيء من عبرها (2) عبدالله بن عبده نعمان العواضي إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها المسلمون، تناولنا في خطبة ماضية الحديث عن الخليل إبراهيم عليه السلام، وتحدثنا في تلك الخطبة عن الجانب الشخصي من حياته عليه السلام؛ فبينا التعريف به، وبأسرته، وبيان مكانته وثناء الله عليه، وذكر بعض العظات والعبر من ذلك. واليوم سنتحدث -بعون الله تعالى- عن الجانب الدعوي في قصة إبراهيم عليه السلام؛ فقد ذكر الله تعالى أكثر الآيات المتحدثة عن خليله في هذا الجانب. عباد الله، إن الدعوة إلى الله هي المهمة التي بعث الله تعالى لأجلها أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ليعرف الناسُ بها طريق الحق فيسلكوه، وطريق الباطل فيتنكبوه. فمضى الأنبياء والرسل في دعوة الناس مبشرين ومنذرين، وكان من بينهم الخليل إبراهيم عليه السلام؛ فقد دعا أباه، ووصى ذريته، ودعا قومه المشركين عبدة الأصنام في بابل، ودعا المشركين عبدة الكواكب حينما خرج عن بابل إلى أرض الفينيقيين في حوران من مدينة دمشق. فبدأ نبي الله إبراهيم عليه السلام دعوته إلى توحيد الله بدعوة أبيه آزر الذي كان يعبد الأصنام مع قومه؛ فبين له الخليل أن عبادة الأصنام ضلال واضح، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74]. وتلطف في دعوته له تلطفًا عظيمًا، وسلك معه سبيل الموعظة الحسنة فبين له أن الأصنام التي يعبدها وقومه لا تستحق العبادة؛ لكونها عاجزة لا تنفع ولا تضر، وذكر له أن الله قد أعطاه-يعني إبراهيم- من العلم ما يستحق أن يتبعه أبوه ليهديه به إلى الحق، وأعلمه أن عبادة الأصنام هي عبادة للشيطان لكونه الداعي إلى ذلك، وزاد في حرصه على دعوته كونه يخاف عليه عذاب الله، ويخشى أن يكون قرين الشيطان في النار. لكن الأب المشرك لم يتقبل هذه الدعوة من إبراهيم إلا بالجفاء والوعيد، حيث توعد ولده الموحد النبي بالقتل رميًا بالحجارة إن لم ينته عن سب الأصنام، غير أن إبراهيم رد عليه رداً جميلاً بأنه لن يصل إليه منه مكروه، وسيدعو له بالهداية والمغفرة، وقد دعا له، لكن لما تبين أنه عدو لله ترك الاستغفار له. قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: 41-48]. من هذه الآيات الكريمات يستفاد: أن أولى الناس بدعوة الداعي إلى الحق أهله وذووه، لكن عليه أن يدعوهم باللطف وحسن الأسلوب، وأن يتحمل جفاءهم، وأن لا يصل إليهم منه مكروه، وأن يدعو لهم بالهداية والمغفرة. وأن هجر البيئة الضالة مما ينبغي فعله، ولكن بعد دعوة أهلها، وظهور عدم استجابتهم، فالحفاظ على رأس المال أولى من الأرباح. أيها الأحباب، وبعد أن هجر إبراهيم أرضه وقومه وأهله وهب الله له الذرية الصالحة؛ لتكون عوضًا عن أهله الذين فارقهم من أجل الله، فرزقه الله إسماعيل وإسحاق ومن جاء من نسلهم من الصالحين. وقد كان من دعوة إبراهيم لذريته أن أوصاهم بلزوم ملة الإسلام وكلمة التوحيد، وتمام الاستسلام والانقياد لله تعالى، قال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132-133]. فإبراهيم وأبناؤه" لحرصهم [على ملة الإسلام] ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم"[2]. وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الزخرف: 28]. وهذا يعلمنا أن نلزم الانقياد التام لله تعالى، ونوصي أولادنا أن يكونوا كذلك. ونتعلم من الآيات أن على الآباء أن يحرصوا على وصية أولادهم بما يضمن استمرارهم على جادة الحق، و" لما كان من شأن أهل الحق والحكمة أن يكونوا حريصين على صلاح أنفسهم وصلاح أمتهم؛ كان من مكملات ذلك أن يحرصوا على دوام الحق في الناس متبعًا مشهوراً، فكان من سننهم التوصية لمن يظنونهم خلفًا عنهم في الناس بأن لا يحيدوا عن طريق الحق ولا يفرطوا فيما حصل لهم منه؛ فإن حصوله بمجاهدة نفوس ومرور أزمان، فكان لذلك أمراً نفيسًا يجدر أن يحتفظ به"[3]. أيها المسلمون، لقد اتجه إبراهيم عليه السلام بعد دعوة أبيه إلى دعوة قومه المشركين، وقد واجه خليل الرحمن ثلاثة أصناف من المشركين: صنف يعبدون الأصنام، وهم أهل بابل، وصنف يدعي الربوبية، وهو نمرود ملك بابل، وصنف يعبدون الكواكب، وهم أهل حوران في دمشق. وكان من توفيق الله تعالى لإبراهيم أن أعطاه قوة الحجة، وحسن المناظرة، ومعرفة البراهين العقلية التي احتج بها على خصومه، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 83]. فمضى إبراهيم عليه السلام إلى الصنف الأول عبدة الأصنام ليقيم عليهم الحجة ببطلان عبادة تلك المعبودات الزائفة، وقد سلك في مهمته هذه عدة طرق: الأولى: توجيه السؤال إليهم، وهو تمهيد بين يدي المناظرة، وقد أراد به سماع جوابهم عن اعتقادهم، ومن ثَم ينتقل لإبطاله بالحجج والبراهين. ففي سورة الأنبياء قال لهم: ﴿ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 52]، فكان جوابهم: ﴿ وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53]، فاحتجوا على عبادتهم لها بالتقليد الأعمى للآباء، " وجاؤوا في جوابه بما توهموا إقناعه به وهو أن عبادة تلك الأصنام كانت من عادة آبائهم فحسبوه مثلهم يقدس عمل الآباء ولا ينظر في مصادفته الحق"[4]. وفي سورة الشعراء قال لهم: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ [الشعراء: 70]. فكان جوابهم: ﴿ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴾ [الشعراء: 71]، فبينوا بهذا الجواب شدة تعلقهم بها باستمرارهم في عبادتها، وعكوفهم عندها. وفي هذا بيان قوة تعلق أهل الباطل بباطلهم. وأما في سورة الصافات فابتدأهم بسؤال مردَف بسؤالين آخرين، غير منتظر منهم الجواب؛ لأنه أراد الإنكار عليهم وتوبيخهم، فقال: ﴿ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 85-87]. الطريقة الثانية: الحكم عليهم بالضلال، وتسفيه أحلامهم ومعبوداتهم الباطلة، فإنه حينما سماع جوابهم بأنهم يقلدون آباءهم في ذلك قال لهم: ﴿ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنبياء: 54]، ولما اعترفوا له بكون أصنامهم عاجزة عن النطق قال لهم: ﴿ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 66-67]. الطريقة الثالثة: بيان عيوب تلك المعبودات الباطلة، وأنها بتلك النقائص لا تستحق العبادة، فأصنامهم لا تنفع ولا تضر، فلذلك قال لهم: ﴿ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ ﴾ [الأنبياء: 66]، وأخبرهم أن أصنامهم لا تسمعهم إذا دعوها، ولا تنفعهم إذا رجوها، فقال: ﴿ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ [الشعراء: 72-73]، وبيّن لهم أن أصنامهم لا تملك لعابديها رزقًا، وإنما يملكه الله وحده؛ فلذلك قال لهم: ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 17]، وذكّرهم أن أصنامهم إنما صنعوها بأيديهم فكيف يصح أن تكون آلهة ويترك الله الذي خلقهم وما يعملون؟! فلذلك قال لهم: ﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 95-96]. الطريقة الرابعة من طرق دعوة إبراهيم قومه عبدة الأصنام: بيان صفات الله المعبود الحق، التي بها وبغيرها استحق أن يكون ربًّا وإلهًا للخلق، فقد بيّن لقومه المشركين بأن إلهه الذي يعبده ويدعوهم إلى عبادته هو ربهم ورب السماوات والأرض الذي خلقهن، فقال لهم: ﴿ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 56]. كما ذكر لهم أن المعبود الحق الذي يدعوهم إلى عبادته هو الذي خلقه، وهو الذي يطعمه ويسقيه بما سخر له في الأرض من أسباب ذلك، وهو الذي يشفيه إذا مرض، وهو الذي يميته ويحييه، وهو الذي يطمع في مغفرته. فقال: ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: 78-82]. وأخبرهم أيضًا بأن الله المعبود الحق هو الذي ينشئ الخلق من العدم ثم يعيده بعد فنائه، وأنه يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، وإليه يرجع الخلق للحساب، وأنه لا يفوته من يطلبه، وليس له من دونه ولي ولا نصير يخلصه، ومن كان كذلك فهو الذي يستحق أن يعبد لا تلك المعبودات العاجزة، فقال لهم: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ﴾ [العنكبوت: 19-22]. الطريقة الخامسة: إعلان البراءة من الأصنام، وإبداء العداوة والبغضاء لعابديها حتى يؤمنوا بالله وحده، قال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: 4]. الطريقة السادسة: تحطيم الأصنام؛ لبيان عجزها عن نصرة نفسها، فكيف ستدفع عنهم أو تنفعهم، وقد استغل إبراهيم عليه السلام خلو البلد من الناس حيث خرجوا ليوم عيد لهم، فأقبل على تلك الأصنام فكسرها إلا كبيرها؛ ليقيم عليهم الحجة به. فقد أسرع إبراهيم بعد خروج قومه إلى قبو أصنامهم فجعل يسألها مستهزئًا-والطعام أمامها-: ﴿ أَلا تَأْكُلُونَ ﴾ ﴿ مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ ﴾ [الصافات: 91-92]. ثم انهال عليها تكسيراً وتحطيمًا حتى جعلها قطعًا صغيرة، تاركًا كبيرها ليرجعوا إليه فيسألوه، قال تعالى: ﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴾ [الصافات: 93]، وقال سبحانه: ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأنبياء: 58]. فماذا سيكون رد قومه المشركين، وكيف سيتعاملون مع هذا الفعل الذي لم يفعله أحد بمعبوداتهم قبل إبراهيم عليه السلام؟ لقد بلغهم الخبر فرجعوا مسرعين غاضبين فسألوا عن الفاعل فأُخبروا أنه إبراهيم، فطلبوا إحضاره أمام الناس ليشهدوا على اعترافه، وهذا ما أراده إبراهيم عليه السلام؛ حتى يقيم عليهم الحجة، ويبين عجز معبوداتهم الباطلة أمام الحاضرين أجمعين، فلما سألوه أحال الجواب على كبير الأصنام؛ لعلهم أن يعرفوا ضلالهم بعجز الصنم عن النطق، فصاروا في حيرة من أمرهم، ثم غلبهم شركهم فقالوا: إن صنمهم لا ينطق، وهنا وصل إبراهيم إلى غايته وهي كيف تسمح لكم عقولكم بعبادة شيء هذا شأنه من العجز؟! قال تعالى: ﴿ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 59-67]. فلما عجزوا عن إجابة الحجة بالحجة لجؤوا إلى استعمال الظلم والقوة، فأمروا بقتله حرقًا، حيث أوقدوا ناراً عظيمة في بنيان يستوعب ذلك الحطب، ثم رموا إبراهيم فيها، قال تعالى: ﴿ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 97]، وقال: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68]، غير أن عناية الله كانت تنتظر خليل الرحمن فجعل الله تعالى له النار برداً وسلامًا فلم تحرق منه غير قيده، فخرج منها منصوراً ولم يستطيعوا أن يضروه بشيء بعد ذلك، قال تعالى: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 69-70]. عباد الله، وفي هذه الآيات من العبر: أن الحق يحتاج إلى إظهار حججه للناس، وتنويع طرق إقناعهم به، وأن الحق يقوى بقوة أهله الذين ينشرونه ويدافعون عنه، وأن الباطل لا يمتلك حجة تمكنه من صد دعوة الحق، ولكنه يلجأ إلى استعمال القوة فحسب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: أيها المسلمون، والصنف الثاني الذين دعاهم الخليل عليهم السلام إلى الله تعالى: صنف يدعي الربوبية، وهو النمرود ملك بابل، فقد ناظره إبراهيم مناظرة سريعة، أفحمته عن الاستمرار في جهله وحمقه، وبينت له قلة عقله. قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]. فقد أخبره إبراهيم في مجادلته إياه أن الله يحيي عباده من العدم ويعيدهم بعد الفناء، فردَّ: إنه يميت بالقتل من يشاء، ويحييه بالعفو عنه إن شاء، وهذا تلبيس وتمويه لا يخفى على عاقل، فلم يقف إبراهيم عند هذه المغالطة طويلاً لوضوح عوارها، بل انتقل إلى حجة أخرى لا يمكن للطاغية أن يلبِّس فيها، فقال: ﴿ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ "أي: إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته. فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهاً كما ادعيت فأت بها من المغرب: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ تحير ودهش وغلب بالحجة، لما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام"[5]. وهذه الآية تعلِّم الداعية أسلوبًا من أساليب المناظرة مع المبطلين وهو البدء بتمهيد بين يدي المناظرة، والانتقال من حجة إلى حجة أخرى تفحم الخصم، وتختم بها المناظرة. عباد الله، الصنف الثالث الذين دعاهم إبراهيم إلى توحيد الله هم عبدة الكواكب وهم أهل حوران في دمشق[6]. فقد ناظرهم وبين لهم بطلان عبادة تلك الكواكب وأنها" لا تصلح للألوهية، ولا أن تعبد مع الله عز وجل؛ لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبَّرة مسخرة، تطلع تارة وتأفل أخرى، فتغيب عن هذا العالم، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية، بل هو الدائم الباقي بلا زوال، لا لا إله إلا هو ولا رب سواه. فبين لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب لذلك، ثم ترقى منها إلى القمر الذى هو أضوأ منها وأبهى من حسنها، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء، فبين أنها مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37]"[7]. قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 75-83]. إن إبراهيم عليه السلام في هذا المقام يناظر المشركين فهو في مقام مناظرة وليس في مقام نظر، وقوله في هذه الآيات الكوكب والقمر والشمس: " هذا ربي" ليس من باب الإقرار بل هو من باب المجادلة ليثبت للناس بطلان عبادتها[8]. فإبراهيم عليه السلام إمام الموحدين، الذين نفى الله عنه أن يكون من المشركين في جميع الزمن الماضي، فلا يليق بإمام الحنفاء أن يشك في ربه، ويذهب يبحث عنه بين الكواكب. وسياق الآيات يدل على أنها محاججة، وإثبات لوحدانية الله، ونفي استحقاق غيره للعبادة. فيا أيها المسلمون، ليكن همُّ دين الله حاضراً في أذهاننا، فندعو إليه، وندافع عنه، ونحرص على العمل به وتعليمه، ومن كان لديه القدرة والعلم على مناظرة أهل الباطل لردهم إلى جادة الصواب فليفعل. هذا وصلوا وسلموا على خير البرية.... [1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في: 23/ 11/ 1440ه، 26/ 7/ 2019م. [2] تفسير ابن كثير (1/ 446). [3]التحرير والتنوير (1/ 707). [4] التحرير والتنوير (17/ 69). [5] محاسن التأويل تفسير القاسمي (2 / 3). [6] قصص الأنبياء (1/ 168) (1/ 175). [7] قصص الأنبياء (1/ 174). [8] ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 289)، قصص الأنبياء (1/ 174)، أضواء البيان (1/ 486).
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() قصة الخليل إبراهيم وشيء من عبرها (3) عبدالله بن عبده نعمان العواضي الجزء الثالث[1] إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها المسلمون، تحدثنا في خطبتين سابقتين عن خليل الله إبراهيم عليه السلام، تناولنا في أولى الخطبتين الحديث عن الجانب الشخصي، وفي الخطبة الأخرى ذكرنا الجانب الدعوي من قصة هذا النبي الكريم. واليوم بعون الله سنعيش معًا مع خليل الله إبراهيم وبنائه البيت الحرم، بعد أن استقر إبراهيم عليه السلام في الشام مع سارة وهاجر حملت هاجر بإسماعيل ثم وضعته، فأمر الله خليله عليه السلام أن يمضي بهاجر وإسماعيل رضيعًا إلى مكة المكرمة، فانطلق إلى هناك كما أمره ربه تعالى، فأنزلهما في وادٍ غير ذي زرع، وتركهما وحيدين ورجع هو إلى الشام. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثم جاء بها إبراهيم - يعني: هاجر- وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يتلفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: ﴿ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون ﴾ [إبراهيم:37]"[2]. وفي هذا الموقف نرى مدى التضحيات التي قدمها إبراهيم وهاجر وابنها؛ فقد سارع الخليل عليه السلام إلى تنفيذ أمر الله بوضع زوجته ووحيده في مكان خال من الحياة والأحياء، ثم فارقهما إلى مكان بعيد. وفي موقف هاجر الذي يشف عن اليقين بحماية الله وكفايته ما يدعو إلى الثقة بالله خصوصًا عند العمل مع الله والقيام بطاعته، فما أجمل تلك الكلمة، وما أبرد نداها في تلك البقعة القاحلة الحارة: "إذن لا يضيعنا". عباد الله، عاد إبراهيم عليه السلام من مكة إلى الشام لمواصلة ما كلفه الله به هناك، تاركًا خلفه في أم القرى هاجر وإسماعيل، اللذين سخر الله لهما طيب العيش، وجيرانًا صالحين، فزالت عنهما بذلك الوحشة، ونزلت عليهما الطمأنينة والأنس. وكانت لإبراهيم زيارات متكررة لإسماعيل وأمه، حتى مرت الأيام فشب إسماعيل وتزوج من جرهم وماتت أمه هاجر رحمها الله. قال ابن عباس رضي الله عنهما - بعد أن ذكر مفارقة إبراهيم لهاجر وإسماعيل -: "وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط[3]، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذلك سعي الناس بينهما)، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: صه - تريد نفسها - ثم تسمعت، فسمعت أيضًا، فقالت: قد أسمعتَ إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا معينًا)، قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن ها هنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رُفقة مِن جُرْهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كَداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا - يعني: يتردد على الماء ويحوم - فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس)، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل"[4]. وفي هذه القطعة من خبر ابن عباس من العِبر: أن على المرء أن يسعى في طلب الرزق والبحث عن أسباب العيش وإزالة الآلام والمكاره ولا ينتظر في مكانه، حتى ينزل عليه رزقه ويحصل له زوال ألمه، وأن من سبق إلى مباح كان أولى به، وفي الخبر بيان شهامة هؤلاء الجرهميين الذين لم يتعدوا على هاجر ورضيعها، ويسلبوهما حقهما، بل كانوا جيرانًا صالحين لهما، ومن هذا نتعلم حسن معاملة الضعفاء وخاصة النساء. أيها الإخوة الفضلاء، فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال حان الوقت لتنفيذ المهمة العظيمة التي سيقوم بها مع أبيه الخليل، ألا وهي بناء البيت الحرام، فقد رجع إبراهيم إلى مكة وأخبر إسماعيل بهذه المهمة المشتركة، فوافقه عليها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ثم جاء بعد ذلك - يعني إبراهيم - وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمر ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتًا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾"[5]. قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 125-129]. وفي هذه الآيات الكريمة وخبر ابن عباس: بيان عظم منزلة الكعبة المشرفة؛ حيث صارت قبلة للناس يأتون إليها لعبادة الله تعالى وإدراك الأمان، وأضحت رمزًا لتوحيد الله تعالى، فلا ينبغي أن تكون مكانًا للإشراك به، غير أن الناس في الجاهلية حينما ضلوا عن التوحيد أدخلوا الأصنام إلى الكعبة، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، طهَّرها من تلك الأصنام، وأزالها عنها إلى الأبد، وجعل يقرأ في تلك اللحظة التاريخية قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]. عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيمَ وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال: (قاتلهم الله - يعني المشركين - والله ما استقسما بالأزلام قط)[6]. وفيها أيضًا: يتجلى برُّ إسماعيل عليه السلام بأبيه، فيدعو ذلك كل ابن أن يكون بارًّا بأبيه وعونًا له في الخير. وفيها كذلك أن المؤمن إذا عمل صالحًا، فعليه أن يخلص لله فيه، وأن يدعو الله أن يقبله منه، وألا يكون واثقًا أن ذلك العمل الذي قدمه قد تم قبوله منه، فإبراهيم وإسماعيل عملا هذا العمل الكبير ومع ذلك تضرَّعا إلى الله أن يبقله منهما. وفي بناء البيت منقبة عظيمة لإبراهيم وأسرته، حتى لقد أضيفت هذه الأسرة الكريمة إلى البيت في قوله تعالى: ﴿ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [هود: 73]. ولقد ظل ذكر إبراهيم وإسماعيل وهاجر حاضرًا في أماكن وشعائر مرتبطة بالكعبة وأداء منسكي الحج والعمرة فيها، قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96-97]. أيها المسلمون، وبعد أن أتم إبراهيم عليه السلام بناء البيت أمره الله تعالى أن ينادي الناس ليحجوا بيته العتيق، ويأتوا إليه من كل فج عميق؛ ليقيموا فيه شعائر هذا النسك، ويوحدوا الله ويعظموا حرماته، ويتقربوا إليه بذبح الهدايا ابتغاء وجهه، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 26-30]. وقد روِي أن إبراهيم عليه السلام بعد هذا التكليف من الله تعالى قال: "يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قُبَيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حَجَر ومَدَر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: (لبيك اللهم لبيك)[7]. نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: أيها المسلمون، إن المتأمل في قصة بناء إبراهيم الخليل بيتَ الله الحرام يلاحظ أمرًا جديرًا بأن يلفت عناية المتأمل؛ ليقف عنده يسبر خبره، ويستلهم عِبره، هذا الأمر هو كثرة دعاء الخليل مع ابنه إسماعيل، وهما يبنيان الكعبة، وكثرة دعوات إبراهيم عقب بنائه البيت، وهذا يعلِّمنا درسًا عظيمًا في التقرب إلى الله تعالى بأي طاعة من الطاعات، هذا الدرس هو لزوم كثرة الدعاء أثناء العبادة وعقبها. فما الدعوات التي دعا بها إبراهيم وإسماعيل أثناء بناء البيت، وما الدعوات التي دعا بها إبراهيم بعد الفراغ من البناء؟ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 126-129]. فقد دعا إبراهيم وإسماعيل ثماني دعوات عند بناء الكعبة، وهي: الدعوة بجعل مكة بلدًا آمنًا، وبرزق أهلها من أصناف الثمرات، وبقبول العمل الصالح منهما، وبالثبات على الدين والانقياد لأحكامه، وببقاء دينهما في ذريتهما، وبتبصيرهما كيفية أداء مناسك الحج، وبالتجاوز عن الذنوب والتقصيرِ في هذا العمل الجليل، وبأن يبعث الله رسولًا من الأمة المسلمة من ذريتهما، وقد استجاب الله تعالى لخليله إبراهيم، فجعل مكة بلدًا آمنًا؛ كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت:67]. ورزق أهلها من أصناف الثمرات، فقال: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص:57]. وبعث من ذريته محمدًا عليه الصلاة والسلام نبيًّا ورسولًا لهذه الأمة، فقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]. وأما الدعوات التي دعا بها إبراهيم بعد بناء البيت، فقد قال تعالى عنها: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 35-41]. وهذه الدعوات ممزوجة بالتضرع والشكر، وهي ست دعوات خاصة وعامة، وهي تكرار دعوته السابقة بجعل مكة بلدًا آمنًا، والدعوة بإبعاد إبراهيم وأبنائه عن عبادة الأصنام - وإذا كان إمام الحنفاء يخشى على نفسه الشرك، فكيف غيره! والدعوة الثالثة أن تحن قلوب بعض خلقه إلى أهل البيت شوقًا وودادًا، وأن يرزقهم من أنواع الثمرات، والدعوات الرابعة والخامسة والسادسة: أن يوفقه الله وذريته للمداومة على إقامة الصلاة، وأن يتقبل منه دعاءه، وأن يغفر له ولذريته ولوالديه وللمؤمنين الذنوب يوم القيامة؛ قال بعض أهل العلم في سبب استغفاره لوالديه: "إنما قال ذلك أن يتبيَّن له أنهما من أصحاب الجحيم، وقيل: إن أمه أسلمت فدعا لها، وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء"[8]، والله أعلم. فيا أيها المسلمون، ألا فلنقتدِ بخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام في الانقياد الكامل لشرع الله، والتضحيات العظيمة من أجل دينه، والثقة الكبيرة بالله، خصوصًا إذا كنا في عمل من أجله، ولنتأسَّ به في بر الوالدين، وإخلاص العمل الصالح، وهضم النفس عند القيام بالأعمال الصالحة. ولنقتدِ به عليه السلام في كثرة الدعاء بصلاح حال المكان الذي نعيش فيه - أمنًا وغذاءً - وفي الدعاء بقبول العمل الصالح، والثبات على دين الله، ومعرفة أحكامه وآدابه. ولنتأسَّ به عليه السلام في الدعاء بالبعد عن الشرك ووسائله، والدعاء للنفس والذرية بالاستمرار على طاعة الله، وغفران الذنوب، وقبول الدعاء. ولنقتدِ به - عليه الصلاة والسلام - في الدعاء للآخرين بخيري الدنيا والآخرة، ابتداءً من الدعاء للوالدين والأولاد، ثم الدعاء لسائر المؤمنين. فنسأل الله تعالى أن يجعلَنا من المؤمنين الثابتين على دينه، المضحِّين من أجْله، الواثقين به، كما نسأله جل وعلا لنا ولوالدينا ولإخواننا المؤمنين أن يعطينا وإياهم خيرًا مما نرجو، وأن يؤمِّننا شرَّ ما نخاف، وأن يغفر لنا ولهم جميعًا ذنوبنا يوم يقوم الحساب. هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على النبي المختار. [1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في: 1/ 12/ 1440ه، 2/ 8/ 2019م. [2] رواه البخاري. [3] يعني: يتمرغ ويضرب بنفسه الأرض، وقيل: يحرِّك لسانه وشفتيه كأنه يموت. [4] رواه البخاري. [5] رواه البخاري. [6] رواه البخاري. [7] تفسير ابن كثير (5/ 414). [8] تفسير الخازن (4/ 50).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |