سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (11) رحلة الطائف - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1430 - عددالزوار : 141215 )           »          معالجات نبوية لداء الرياء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          التربية بالحوار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          صور من فن معالجة أخطاء الأصدقاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          في صحوةِ الغائب: الذِّكر بوابة الحضور (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          آيات السَّكِينة لطلب الطُّمأنينة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (العليم, العالم. علام الغيوب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          سبل إحياء الدعوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          التساؤلات القلبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          الحب الذي لا نراه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 29-01-2021, 12:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,204
الدولة : Egypt
افتراضي سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (11) رحلة الطائف

سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (11) رحلة الطائف


الشيخ د. : إبراهيم الدويش






عناصر الخطبة



1/ حاجة البشر إلى تدبر وتأمل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- 2/ كان عام الحزن بداية لمرحلة جديدة وعصيبة 3/ تأملات في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف 4/ حُسن خُلقه -صلى الله عليه وسلم- وصبره ورحابة صدره 5/ المصائب والأزمات تكشف عن معادن الرجال 6/ دعاء مهموم ملاحَق مطرود 7/ الهدف الأسمى لكل مسلم 8/ بشارات رحلة الطائف النبوية 9/ قمة التفاؤل وقمة اليقين بموعود رب العالمين.


اقتباس

إن في رحلة الطائف النبوية الدعوية دروسًا وعبرًا، إن فيها منهجًا لكل المسلمين في الصبر والتضحيات، وكيف يكون التفاؤل، وكيف يكون بُعد النظر من أجل تبليغ هذه الرسالة رسالة الإسلام والسلام للعالمين… وهو منهج عظيم، كلمات لا يقدر عليها إلا صفوة البشر، كلمات لا يستطيعها إلا من تولَّى الله تربيته وتأديبه، وطبَعه على خُلق عظيم، رجل عظيم، شفيق رحيم، يحمل بين جنباته روحًا طيبة طاهرة، زكية مباركة، لا تعرف أبدًا التشفي والحقد وحب الانتقام، متجردة كل التجرد عن أدنى حظوظها متشبعة بكل أمل وفأل وتحمل وصبر، متقبلة كل المصائب والمكاره والمشاق في سبيل تبليغ رسالته وأداء مهمته!!…










الخطبة الأولى:


الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله على قدوتنا وأسوتنا نبينا محمد أفضل خلق الله أجمعين، ورسول رب العالمين.

أما بعد: عباد الله! فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، كنا قد بدأنا بسلسلة مباركة باستعراض قبسات مختارة من سيرة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- نعرضها ونحللها ونقف معها مستنبطين منها أهم الدروس والعبر، المتصلة بحياتنا اليومية، فإننا على يقين ألا مخرج من الفتن والأزمات إلا باتباع كتاب ربنا وسنة حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-، وإن الأجيال اليوم بأمس الحاجة إلى الوقوف والنظر والاطلاع والتدبر والتأمل في سيرة حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-.

وكنا قد تطرقنا في خطب ماضية إلى وفاة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- أبي طالب على الشرك، رغم حرصه -صلى الله عليه وسلم- الشديد على إسلامه وهدايته حتى نزل قوله تعالى مبينًا أن هداية التوفيق بيد الله –سبحانه-، وهي هبة ربانية ومنة إلهية لا ينالها إلا من سبقت له الحسنى، نسأل الله الكريم من فضله، يقول الله حق عز وجل: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[القصص: 56].

ثم تبع ذلك وفي نفس العام وفاة زوجه الكريمة، رفيقة الدرب أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها وأرضاها-، فعرف ذلك العام بعام الحزن، والذي كان بداية لمرحلة جديدة وعصيبة في حياته -صلى الله عليه وسلم-؛ واجه فيه كثيرًا من المصاعب والمحن مِن قِبل قومه قريش، ونالت منه ما لم تكن تناله قبل ذلك.

ومع ذلك لم تنكسر له عزيمة، ولم يتوقف -صلى الله عليه وسلم- لحظة عن التفكير في مواصلة دعوته وتبليغ رسالته, بل إنه عزم على أن يتلمس آفاقًا جديدة للدعوة إلى الله في بلد غير بلده, وقوم غير قومه, يعرض عليهم رسالته، ويطلب منهم نصرته, رجاء أن يفوزوا بالسعادة الأبدية، ويقبلوا منه ما جاء به من الله -عز وجل-، خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، وهي من أقرب البلاد إلى مكة.

قال البيهقي في دلائل النبوة: "فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ ارْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أَشَدُّ مَا كَانَ، فَعَمَدَ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ رَجَاءَ أَنْ يَأْوُوَهُ، فَوَجَدَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ، هم سَادَةُ ثَقِيفٍ يَوْمَئِذٍ وَهُمْ أُخْوَةٌ: عَبْدُ يا ليل بْنُ عَمْرٍو، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، وَشَكَا إِلَيْهِمُ الْبَلَاءَ وَمَا انْتَهَكَ مِنْهُ قَوْمُهُ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَمْرُقُ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ -أي: أمزق أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ- إِنْ كَانَ اللهُ بَعَثَكَ بِشَيْءٍ قَطُّ.

وَقَالَ الْآخَرُ: أَعَجَزَ اللهُ أَنْ يُرْسِلَ غَيْرَكَ.
وَقَالَ الْآخَرُ: وَاللهِ لَا أُكَلِّمُكَ بَعْدَ مَجْلِسِكَ هَذَا أَبَدًا، وَاللهِ لَئِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللهِ لَأَنْتَ أَعْظَمُ شَرَفًا وَحَقًّا مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللهِ لَأَنْتَ أَشَرُّ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ.

وَتَهَزَّءُوا بِهِ وَأَفْشَوْا فِي قَوْمِهِمُ الَّذِي رَاجَعُوهُ بِهِ وَقَعَدُوا لَهُ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ صَفَّيْهِمْ جَعَلُوا لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ وَلَا يَضَعُهُمَا إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ، وَكَانُوا أَعَدُّوهَا حَتَّى أَدْمَوْا رِجْلَيْهِ، فَخَلَصَ مِنْهُمْ وَقَدَمَاهُ يَسِيلَانِ الدِّمَاءَ، فَعَمَدَ إِلَى حَائِطٍ -أي: بستان- مِنْ حَوَائِطِهِمْ، وَاسْتَظَلَّ فِي ظِلِّ حَبَلَةٍ مِنْهُ، وَهُوَ مَكْرُوبٌ مُوجَعٌ تَسِيلُ رِجْلَاهُ دَمًا فَإِذَا فِي الْحَائِطِ: عتبة بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَلَمَّا رَآهُمَا كَرِهَ مَكَانَهُمَا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَدَاوَتِهِمَا اللهَ وَرَسُولَهُ.

فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَرْسَلَا إِلَيْهِ غُلَامًا لَهُمَا يُدْعَى عداسا وهو نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى مَعَهُ عِنَبٌ، فَلَمَّا جَاءَهُ عَدَّاسٌ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ أَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ؟ قَالَ لَهُ عَدَّاسٌ: أَنَا مِنْ أَهْلِ نِينَوَى، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: مِنْ مَدِينَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَى، فَقَالَ لَهُ عَدَّاسٌ: وَمَا يُدْرِيكَ مَنْ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- -وَكَانَ لَا يَحْقِرُ أَحَدًا أَنْ يُبَلِّغَهُ رِسَالَةَ رَبِّهِ- أَنَا رَسُولُ اللهِ، وَاللهُ تَعَالَى أَخْبَرَنِي خَبَرَ يُونُسَ بْنِ مَتَى".

فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا أَوْحَى اللهُ -عز وجل- مِنْ شَأْنِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى..، جَعَلَ عَدَّاسٌ يُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَهُمَا يَسِيلَانِ الدِّمَاءَ. فَلَمَّا أَبْصَرَ عتبةُ وَشَيْبَةُ مَا يَصْنَعُ غُلَامُهُمَا سَكَنَا، فَلَمَّا أَتَاهُمَا، قَالَا: مَا شَأْنُكَ قَبَّلْتَ قَدَمَيْهِ، وَلَمْ نَرَكَ فَعَلْتَهُ بِأَحَدٍ مِنَّا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ، أَخْبَرَنِي بِشَيْءٍ عَرَفْتُهُ مِنْ شَأْنِ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَيْنَا يُدْعَى: يُونُسَ ابن مَتَى، فَضَحِكَا بِهِ، وَقَالَا: لَا يَفْتِنُكَ عَنْ نَصْرَانِيَّتِكَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ خَدَّاعٌ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى مَكَّةَ".

لقد كان مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطائف عشرة أيام، ولكنها أي أيام، أيام تحمل فيها صنوفًا من الأذى، سُخر به -صلى الله عليه وسلم-، قُذِفَ بالحجارة من السفهاء، شج رأس صاحبه زيد بن حارثة.

ولقد كان وقع ما وجده النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفسه ثقيلاً مريرًا جدًّا، فَمثَلَ في وجدانه ذكرًا سيئًا على مر الزمان، نعم ذكرى سيئة، رحلته إلى الطائف كانت ذكرى سيئة في وجدان الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، ففي الصحيحين: أَنَّ عَائِشَةَ حدّثت: قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ -عز وجل- قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ".

قَالَ: "فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، -ما الذي تريده يا محمد؟ مرني، فإن الله -عز وجل- أمرني أن أستجيب لأمرك-؛ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ -جبلان في مكة، إن شئت يا محمد أن يزول هؤلاء، هؤلاء الذي آذوك وطردوك، وسخروا واستهزءوا بدعوتك وبرسالتك، إن شئت فقد حق عليهم العذاب-.

فإذا بالحبيب -صلى الله عليه وسلم- يقول بقلب الرفيق الشفيق الحنون بقلب المحب الخير للناس: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

ما أروعك وأحلمك وأصبرك يا رسول الله! يا لبعد نظرك أيها الحبيب! هكذا كان خُلقه -صلى الله عليه وسلم- هكذا كان صبره، ورحابة صدره، بل ما أعظم سعة أفقه وبعد نظره، ما أحوجنا لهذا المنهج النبوي في زمن كثر فيه القتل والفرقة والانقسام بين أهل البلد الواحد، بين أهل الملة الواحدة، إن في رحلة الطائف النبوية الدعوية دروسًا وعبرًا، إن فيها منهجًا لكل المسلمين في الصبر والتضحيات، وكيف يكون التفاؤل وكيف يكون بُعد النظر من أجل تبليغ هذه الرسالة رسالة الإسلام والسلام للعالمين.

فقد قطع -صلى الله عليه وسلم- أكثر من ثمانين كيلاً سيرًا على الأقدام ذهابًا إلى الطائف، وهو يتألم من موقف قريش وسادتها تجاه دعوته فخرج للطائف فما زادوه إلا رهقًا، وما وجد عندهم خيرًا، بل سخروا وهزؤوا به وآذوه حتى مشى مسافة كبيرة، فلم يشعر من شدة همومه وغمومه وما لقيه إلا وهو في قرن المنازل..

ثم لم يجد إلا أن يقول في أعدائه بعد أن مكَّنه الله منهم، سبحان الله، ما بينه وبين زوال أعدائه إلا دعوة إلا طلب إلا كلمات ينطق بها لتنطبق عليهم الجبال، لكنه القلب النابض، المحب الخير للناس المحب الهداية، صاحب الفكر العميق والنظر البعيد، ليقول رسالته ويُعلن منهَجَه، «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

منهج عظيم كلمات لا يقدر عليها إلا صفوة البشر، كلمات لا يستطيعها إلا من تولَّى الله تربيته وتأديبه، وطبَعه على خُلق عظيم، رجل عظيم، شفيق رحيم، يحمل بين جنباته روحًا طيبة طاهرة، زكية مباركة، لا تعرف أبدًا التشفي والحقد وحب الانتقام، متجردة كل التجرد عن أدنى حظوظها متشبعة بكل أمل وفأل وتحمل وصبر، متقبلة كل المصائب والمكاره والمشاق في سبيل تبليغ رسالته وأداء مهمته!! صلَّى الله عليك أيها البحر الحنان، -صلى الله عليه وسلم- أيها الرحمة المهداة، أيها النعمة المسداة!
تَحَمَّلَ عِبْئَهَا وَمَضَى بِحَزْمٍ *** وِإِيْمَانٍ يُحِيْلُ الصَّخْرَ تِبْرَا

هكذا هو رسولكم -صلوات الله وسلامه عليه- في زمن كثر فيه القيل والقال وتفريق الصف، في زمن كثر فيه الانقسام والتحزبات، في زمن أصبح ربما الأخ يتمنى زوال أخيه، لو كان الأمر بيده لصفّاه وانتهى منه لمجرد خلاف واختلاف معه، أما الحبيب -صلى الله عليه وسلم- فينظر إلى قريش وإلى أهل الطائف إلى الكافرين إلى من يخالفه في الملة نظرة شفقة ورحمة وحب هداية وخير للناس والعالمين «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

هي دليل من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم-، دليل على صدق رسالته، نعم تحقق ما كان يرجوه، تحقق ما رجا، فهذا المطلب وإن كان بعيد المدى إلا أنه ممكن التحقيق، وهو عظيم النفع لمستقبل الإسلام، كان له -صلى الله عليه وسلم- ما أراد؛ فمن ينظر لمكة والطائف بَعدَهُ -صلى الله عليه وسلم- إلى اليوم يعلم ثمرة هذا الصبر وهذا الكظم للغيظ والعفو؟!

أليس خالد بن الوليد سيف من سيوف الله قد خرج من صلب عدو من ألد أعداء الله ورسوله: (الوليد بن المغيرة)، أليس عكرمة بن أبي جهل خرج من صلب فرعون هذه الأمة، وهكذا عشرات الأمثلة..

أيها المؤمنون: إن المصائب والأزمات تكشف عن معادن الرجال، تختبرها كالكير، فمن كان معدنه من ذهب لا يتغير، أم من كان حديداً فهو يصدأ لأدنى بلل، إي والله يصدأ من أدنى بلل، إنها الفتن والأزمات تَسقطُ دونها جميعُ الأقنعةَ المزيفة، وتُزيحُ ستار المجاملات، وتُبعد لثام النفاق، وتُظهر خباياهم، وتُميزُ النفيس من الخسيس، والطيب من الخبيث، هكذا تكون السيرة حية تسعى بيننا إخوة الإيمان.

تأملوا عباد الله أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-! لم ينس في تلك الظروف العصيبة مفتاح الفرج، وسلاح الأزمات فقد توجه إلى ربه يُناجيه يشكي حاله إليه بدعاء يخلع الفؤاد، نعم اسمعوا لهذا الدعاء، هو مهموم هو محزون، هو ملاحق هو مطرود، يرفع يديه طريداً غريباً فريدًا وحيداً، يشكو لمن، يشكو لربه، يبث الهم لمن، يبث الهم لربه: "اللّهُمّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي وَقِلّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَوْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَحِلّ عَلَيّ غَضَبُك، أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِكَ"(زاد المعاد).

يا لها من دعوات، يا لها من كلمات قلب مفؤود محزون يعرف أين يلجأ وإلى من يشكو، سبحان الله! أي دعاء هذا ليضرب بجذور توحيده -صلى الله عليه وسلم- وروعة تجرده لله، دعاءٌ مشفق من غضب ربه –سبحانه-، خشية أن يكون قصّر في أمر دعوته وبلاغه، دعاءٌ لا يطلب فيه سوى مرضاة ربه فهو الهدف الأعلى لحبيبنا -صلى الله عليه وسلم-، "إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيّ فَلَا أُبَالِي" هكذا يرجو رضا الله، الهدف الأسمى لكل مسلم "رضا الله أولاً" الهدف العظيم، المطلب الأعظم الذي تُسَخَّر له كل المطالب.

عباد الله! إن المصائب مهما اشتدت ما دامت قائمةً على منهج قويم وعلى حب الخير للناس وهدايتهم، فإنها لا شك ستحمل في طياتها بشارات وبشارات كما حصل في رحلة الطائف النبوية، فليست كلاه مرارات، بل فيها بشارات، بدءًا بإسلام عداس، ومرورًا بإسلام بعض الجن.

نعم أيها الإنس، إسلام بعض الجن، لما رفض الإنس، دعوة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- هيَّأ الله له من الجن من يسلم في تلك الرحلة على يديه، ففي طريقه إلى مكة أقام بموضع يقال له وادي نخلة وقَامَ يُصَلّي مِنْ اللّيْلِ فَصُرِفَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْجِنّ فَاسْتَمَعُوا قِرَاءَتَهُ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل عليه قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [سورة الأحقاف: 29- 32] (سيرة ابن هشام).

سبحان الله! رفض الإنس دعوة النبي الكريم، فكان العزاء من رب رحيم، أن آمن به الجن، طردوه من مكة ومن الطائف، فهيَّأ الله له من استمع إليه دون أن يذهب هو إليهم.

والعجيب أنه -صلى الله عليه وسلم- حينما أراد أن يدخل مكة قال له زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَخْرَجُوك؟ يَعْنِي قُرَيْشًا فَقَالَ: "يَا زَيْدُ إنّ اللّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنّ اللّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيّهُ" (زاد المعاد).

تأملوها إخوة الإيمان، اسمعوها مرة أخرى، اسمعوها بقلوبكم، اسمعوها في وقت اشتدت فيه الأزمات على المسلمين، اسمعوها يقول زيد: "كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَخْرَجُوك يا رسول الله؟ يقول الحبيب-صلى الله عليه وسلم- بقلب مليء بالثقة واليقين : "يَا زَيْدُ إنّ اللّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنّ اللّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيّهُ".

قمة التفاؤل وقمة اليقين بموعود رب العالمين، فهيأ الله له مرةً أخرى من ينصره من سادات قريش، بعد وفاة جده وعمه، فإنه وبعد مداولة الأمر قرر -صلى الله عليه وسلم- أن يُرسل رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ إلَى المُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ يسأله: أأَدَخُلُ فِي جِوَارِكَ؟ فَقَالَ له المطعم: نَعَمْ. فدَعَا المطعمُ بَنِيهِ وَقَوْمَهُ فَقَالَ: الْبِسُوا السّلَاحَ وَكُونُوا عِنْدَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ؛ فَإِنّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمّدًا، -أرأيتم كيف ينصر الله عبده برجل كافر، يا الله يا سبحان الله- فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحِرَامِ، فَقَامَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمّدًا فَلَا يَهْجُهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ إلَى الرّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَانْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ وَوَلَدُهُ مُحْدِقُونَ بِهِ بِالسّلَاحِ حَتّى دَخَلَ بَيْتَهُ -صلى الله عليه وسلم-" (زاد المعاد).

سبحان الله كيف ينصرُ عبده؟! كيف يُسخر ويؤيد الدين ورسوله بالرجل الكافر، ففي حياطة المطعم بن عدي وأولاده درس بليغ في سعة فقه النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقديره لمراحل الدعوة في دخوله بعهد كافر، لتقوى عزيمته وتعلو همته لمواصلة تبليغ رسالة ربه..

فيا عجباً لفقه المسألة، إي والله عجبا لفقه المسألة إنه العلم إنه العلم متى حل محل السلاح كان هو السلاح العظيم الذي يقاتل به المسلم، عجبًا لتقدير الله المواقف لنصرة عباده، هكذا المؤمن شأنه عجيب، و"إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ".

لقد كان نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المستقبل بنور الإيمان وقرر مواصلة دعوته وتبليغ رسالته، ومن وفائه-صلى الله عليه وسلم- لم ينسَ هذا الصنيع والموقف المشرف من عدي بن مطعم، بل إنه ذكَره بخير بعد أعظم انتصار له على الكفر، يوم أن فرغ النبيُ -صلى الله عليه وسلم- من غزوة بدر ورجع بأسارى مشركي مكة قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ" (صحيح البخاري).


هذا هو معدن المؤمن الأصيل في الشدائد وفي الانتصارات، لا يتغير أبدًا، يحفظ العهود والذمم، ويفي لكل ذي حق حقه، فاللهم فقهنا في الدين، وثبتنا على الصراط المستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 66.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.90 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.51%)]