العبرة من وداع العام وانقضاء العمر والأيام - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         غزوات أمراء الأندلس في فرنسا هل كانت مغامرات عسكرية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          إسرائيل وإيران.. قراءة في السياق التاريخي وانعكاساته المعاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          الصلاة والرزق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          قيام الليل يجعلك قريبا من رب العالمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          نعمة العقل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 23 - عددالزوار : 2161 )           »          ابدأ بنفسك أولاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          طوق النجاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          شرح النووي لحديث: وأيم الله إن كان لخليقا للإمرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-01-2021, 10:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,858
الدولة : Egypt
افتراضي العبرة من وداع العام وانقضاء العمر والأيام

العبرة من وداع العام وانقضاء العمر والأيام


الشيخ حسين شعبان وهدان








الحمد لله الذي جعلَ اللَّيْلَ والنَّهَارَ خِلْفَةً لمن أَرَادَ أن يذَّكَرَ أو أراد شكوراً، وجعلَ الجنَّةَ للمؤمنينَ جَزَاءً ومصيراً، والنارَ للكافرينَ والعُصَاةِ كُلَّمَا خَبَتْ زادتْ سعيراً، سبحانه.. أقام العباد على مدارجِ الفضلِ والإِكرام، والدُّنْيَا أيامٌ مهما طال فيها المقام، وسبحانه من تفرد بالبقاء وله الدوام.


يا أخا الإسلام:
تَفَكَّرْ في مشيبك والمآبِ
ودفْنِكَ بعْدَ عِزِّكَ في التّرابِ

إذا وافيت قبراً أنت فيه
تقيمُ به إلى يوم الحسابِ

وفي أوصالِ جسْمِكَ حينَ تَبْقَى
مُقَطّعةً مُمزَّقَةَ الإهابِ

فلولا القبرُ صارَ عليكَ سِتراً
لأَنْتَنْتَ الأبَاطِحَ والرَّوَابي

خُلِقْتَ من التُّرابِ فَصِرْتَ حَيّاً
وعُلّمتَ الفصيحَ من الخطابِ

وعدتَ إلى التراب فصرت فيه
كأنك ما خرجت من الترابِ

فطلّق هذه الدنيا ثلاثاً
وبادر قبل موتك بالمتابِ

خُلِقنا للممات ولو تُرِكْنَا
لضَاقَ بِنَا الفَسيحُ من الرِّحَابِ

وعظتُكَ فاستمعْ نُصْحِي وَوَعْظِي
فَمِثْلُكَ قَدْ يُدَلُّ عَلى الصوابِ



وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له الملك الحق المبين، له في أيامه عظاتٌ وعبَرٌ، تستدعي شمول أهل النظرِ بمزيدِ الفِكَرِ، وتستدرُّ كَوَامِنَ المواهِبَ في الطاعةِ وإدراكَ صَرْفِ الزمان، وملاحقةَ الأيامِ والسِّنينَ بصالحِ الأَعْمالِ.


وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، والذي أقام المِثالَ الكاملَ والقدوةَ للمؤمنين في اكتنازِ صُنُوفِ الخيرِ واستلهامِ العِبَرِ من كَرِّ الأيام وتَتَابعِ الأَعْوام.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.


أما بعد:
فهو عامٌ جديدٌ وعلى عملنا شهيد، يشهدُ لأهل الصَّلاحِ بالتقوى ومزيدِ الإيمان، ويشهد على أهل الغواية والعصيان، ولا يجاملُ ولا ينسى وسيؤدى أمانته لربه بعدما تنقضي الأيام وتفرغُ الدنيا من أهلها.


عامٌ جديدٌ من الأرزاقِ والعطايا ومن النعم الموصولةِ التي تَتْرَى ولا تنقطعُ ما دامت الدنيا باقيةً، تستدعي تقييدها بمزيد الشكر لواهبِ الأَعْمَارِ والنِّعِمِ، وهو عامٌ يضافُ إلى عمر الحياة الدنيا وهي كالإنسان والمخلوقات في طريقها إلى الزوال والانقضاء.


والإنسان دائرٌ بجهده ونِيَّاتِهِ في دروب العاجلة يسير ويسير ويضنيه المسير لا تتوقف حركته ولا تنطوي صفحته إلا بعد بلوغ أجله المقدور، ولا بد له في دنياه من عملٍ وَكَدْحٍ ونَصَبٍ إمَّا بالخير والمنفعة وإما بالشَّرِّ والأَذَى، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ﴾ [الانشقاق:6].


وهو كذلك عامٌ من المكاسب أو الخسارة، فكل لحظةٍ تمرُّ على العبد إما أن يكون فيها من الرابحين وإما أن يكون من الخاسرين ولا منزلة بينهما على الإطلاق.


سُرْعَةُ الأيَّامِ والأَعْوَامِ تستَدْعِي المُحَاسَبَة:
وعلى الإنسان في وداع العام أن ينتبهَ قبل فواتِ الأوانِ إلى عجلةِ الأيام وكَرِّ السنين، فما فتئ العَالَمُ يستقبلُ العامُ الفائتُ حتى انصرم من بين أيدينا سِرَاعاً كأنَّهُ لحظاتٌ خاطفةٌ ودارتْ أَطْوَارُهُ متلاحقةً بعضها من وراء بعض، قال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54]، وهكذا العمر بين أطوار الولادة والصبا والشباب والشيخوخة والهِرَمِ ثم الموت، فإذا الطفل من مَيْعَةِ الصِّبَا إلى سنِّ الشَّباب وإذا الشيخُ الفَاني قد واراه التراب كأننا زرعٌ يُحصدُ، ومن وراء ذلك حسابُ يشيبُ من هوله الرضيعُ ويستولي الهولُ على الجميع، قال الله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17]، وقال الله تعالى بياناً لهذه الملحمة التي غفل عنها الغافلون وذكرها قليلٌ من الذاكرين: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24]، وقال الله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [الكهف:45]، وذكر الإمام الطبري تعقيباً على هذه الآية المباركة: [فلا يفخر ذو الأموال بكثرة أمواله ولا يستكبر على غيره بها ولا يغترنّ أهل الدنيا بدنياهم، فإنما مَثَلُها مثل هذا النبات الذي حَسُن استواؤه بالمطر، فلم يكن إلا رَيْثَ أن انقطع عنه الماء فتناهى نهايته، عادَ يابِساً تذروه الرياح فاسداً تنبو عنه أعين الناظرين، ولكن ليعمل للباقي الذي لا يفنى، والدائم الذي لا يبيد ولا يتغير] ( الإمام محمد بن جرير الطبري / جامع البيان في تأويل القرآن ص 18 ج 12 بتحقيق أحمد محمد شاكر ط1 2000م - مؤسسة الرسالة).


وقال الله تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20]، [والمعنى أن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء، وعن عليٍّ قال لعمَّارٍ رضي الله تعالى عنهما: لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء: مأكولٌ ومشروبٌ وملبوسٌ ومشمومٌ ومركوبٌ ومنكوحٌ، فأحسنُ طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثرُ شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضلُ ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضلُ المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضلُ المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال، واللهِ إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها] ( شمس الدين القرطبي/ الجامع لأحكام القرآن ص255 ج8 بتحقيق هشام سمير البخاري ط1 2003م دار عالم الكتب – الرياض).


وعلى هذا يجب الاعتبار بتعاقب الليل والنهار، وما يقلبهما الله على الخلق إلا للوقوف على بدائع قدرته ولطائف صنعته، قال الله تعالى: ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور:44]، وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران: 160]، وسبحان الله، جعل في مرِّ الأيام وتوالي السنين عبرةً لأصحاب الحِجا وأهل النظر، قال الله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ﴾ [الفرقان:62].


فقسم الله تعالى جهودَ البشَرِ إلى طريقيْنِ حيال تتابع الليل والنهار، إما استلهامُ العبرِ وحسنُ التَّذكرِ وإما مقابلةُ النعمةِ وتقييدها بالشكر، وكما يقول العارفون: "الشُّكرُ قيْدُ النِّعَمِ".


وبعد انتهاء الحراك الدنيوي الذي كان لأجل نِيَّاتٍ شتى يقف الإنسان بين مفارق الطرق وقد ضعف بدنه وتضاءلت قوته وظهرت عليه مخايلُ الفِراقُ العاجلِ أو المتأخر قليلاً كما قال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه:
إِذَا اصْفَرَ لَوْنُ الْمَرْءِ وَابْيَضَّ شَعْرُهُ
تَنَغَّصَ مِنْ أَيَّامِهِ مُسْتَطَابُهَا

وَعِزَةُ عُمَرِ الْمَرْءِ قَبْلَ مَشِيبِهِ
وَقَدْ فَنِيتَ نَفْسٌ تَوَلَّى شَبَابُهَا

فَدَعْ عَنْكَ سَوْآتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا
حَرَامٌ عَلَى نَفْسِ التَّقِي ارْتِكَابُهَا




وكلما مر الزمن وتناءت الذكريات كلما اقترب الوعد الحق وآذنت الدنيا من ابن آدم بوداعٍ منها للقاء الملك الأعلى بعد انتهاء رحلة العمر، يقول الحسن البصري عليه رحمة الله: "يا بن آدم إنما أنت أيامٌ مجموعةٌ كُلَّمَا ذَهَبَ يومك ذَهَبَ بعضُك"، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت يوما مثل ما ندمت على يوم غربت فيه شمسه نقص فيه عمري ولم يزد فيه عملي".


وقال لقمان الحكيم لولده في إحدى وصاياه: "يا بُنَيَّ: لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها فإنك لم تخلق لها، وما خلق الله خلقا أهون عليه منها، فإنه لم يجعل نعيمها ثوابا للمطيعين، ولا بلاءها عقوبة للعاصين، يا بُنَيَّ: إن الدنيا بحرٌ عميقٌ، وقد غرق فيه ناسٌ كثيرٌ، فلتكن سفينتُك فيه تقوى الله عز وجل وحشوها الإيمان بالله تعالى وشراعها التوكل على الله عز وجل لعلك تنجو وما أراك ناجياً".


وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه: " أَلا إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً وَالآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلٌ "، ويقول الحسن أيضاً: " المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذُلّها ولا ينافسُ في عِزِّها، له شأنٌ وللناس شأن ".


وعندما تستولي لعاعات الدنيا على قلوب وعقول الخلق فغالباً ما يؤثرونها على الباقية، قال الله تعالى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16 :17]، وقال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: "لو كانت الدنيا تبراً يفنى والآخرة خزفاً يبقى؛ لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني؛ فكيف والدنيا خزفٌ فانٍ والآخرة تبرٌ باقٍ"؟!.


وفي العام الذي يودعنا الآن كانت علينا لله فيه أمانات ومسئوليات وقد سلمناها وأُودِعَتْ عند خالقنا العظيم وسنراجعها بعين اليقين في يوم يبعثون: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ[المؤمنون 102:103].


والعمر كله ما هو إلا حصيلةُ أيامٍ وأعوامٍ ومواقِفَ وأحْوَالٍ، وكل مرحلةٍ لها واجُبُها من العمل الصالح النافع المفيد، وقد قضت سنن الله تعالى أن الكون المعمور يدور حسب خطةٍ إلهيةٍ محكمةٍ قد أوجبها الله تعالى على السماوات والسبع والأرضين السبع والبحار بما حوت والأرض وما حملت والأزمان وما فيها من عطاءات ونقمٍ، قد قام كل كائنٍ فيها في مواسمه بواجبه فأنزلت السماء غيثها بأمر ربها في الشتاء واشتدت عليهم الشمس في وقدة الصيف وعاد الربيع بأسراره من الاعتدال ومظاهر الجمال كما طلع الخريف بيبوسته ونطقت الأرض بخيراتها في موعدها طول العام، ما تخلف عنصر واحدٌ بأداء واجبه والقيام به ما تأخرت الشمس في الشروق ولا تلكأت في غروبها ولا انطمس نور القمر ولا بخلت الأرض ولا السماء في عطاءات الله منها، قال الله تعالى: ﴿ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يّس:40].


وهذا درسٌ هامٌّ للإنسان عليه أن يقتفي هداه وأن يعمل بمحتواه، فلا يؤجل عمل الخير عن موعده، وأن يقوم لله تعالى بما افترضه عليه في جانب التعبد بما يليق به سبحانه، وأن يهرب من خطر الذنب ومغبة المعصية إذا لاحت أعلامها وحمَّ مطلبها بوحي الشيطان وناصره.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-01-2021, 10:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,858
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العبرة من وداع العام وانقضاء العمر والأيام


كشف حساب بين العامين:
وكما مرَّ العامُ علينا شاهداً على أعمالنا فكذلك الحياة ستمرُّ بكل أطيافها وأحلامها العجاف، والخوف كله أن نخرج منها مُثْقَلينَ بوصمات الذنوب والمعاصي، وعند مقابلة الله تعالى سيجد كل فردٍ ما عمل: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30].


ونحن إذن على مفرق عاميْن نقف - إن وقفنا - وقفةَ الاعتبار والتفكر والاستفادة من الأحداث لا وقفة المهنئين، فما نعلم على الحقيقة إن كنا من الفائزين أم من الخاسرين ونحن نقدم كشف حسابٍ عن العام الفائت، وأنَّى لنا بعلم الحقائق في بابِ القبول؟!.

ولهذا.. ينبغي على كل عاقلٍ أن يقف مع نفسه وقفةَ محاسبةٍ يستطلع فيها مرابحَهُ من صالح الأعمال ويقفُ على سوءات معاصيه واجتراحها علَّهُ أن يُصلحَ في قادم الأيام ما أفسده في فوائت الأيام والأعوام.


ذكر ابن أبي الدنيا موقوفاً: (عنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا، أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]) (محاسبة النفس - العاقل من يعمل للآخرة 2).


ومن حكمة الإنسان أن يحاسب نفسه كل يومٍ على خمس صلوات مفروضة في بيوت الله تعالى مع إضافة النوافل والرواتب والسنن حساباً يوجب عليه بعد ذلك عدم التفريط في المرابح "السنن" ناهيك عن رأس المال "الفرائض"، وعلى زكاته وأعدادها وأوقات وجوبها ودقة مصارفها، وعلى أهل الأرحام والتماس أسمائهم وأعدادهم وضبط مواعيد الزيارة لهم حتى لا يدخل بجفوته لهم في عداد القاطعين لأرحامهم، وأن يحاسب نفسه في ماله من أين يكتسبه وفيم ينفقه كما صرحت بذلك الأحاديث الشريفة، وأن يحاسب نفسه على عمره الذي يتسرب منه في أتفه المناشط فضلاً عن أن ينفقه في معصية، وأن يراجع نفسه في شئون أسرته ومجتمعه ووطنه وعن واجبه الذي قصر فيه فيما قد سلف، وان ينظم أصحابَ الحقوق عليه من أهل وأبناء وجيران فلا يطغى مرغوبٌ على مرغوبٍ ولا يشغله واجبٌ عن أوجبٍ، وهكذا في جميع المآخِذِ والمَتَارِكِ والشئون حتى تستقيم له حياته ويطمئن بالله قلبه ويكتب اسمه دوماً في ديوان الموَفَّقِينَ.


وكلما حاسب المؤمن نفسه ازداد من صالح العمل فزاد رصيده عند ربه ونما رأس ماله من الطاعات فتكون الأعوام التي تمر عليه منحةً وعطاءً وزيادةً له من الأجور عند مولاه، [قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: لا خير في الحياة إلا لتائبٍ، أو رجلٍ يعمل في الدرجات، يعني أن التائب يمحو بالتوبة ما سلف من السيئات، والعامل يجتهد في علو الدرجات ومن عداهما فهو خاسرٌ كما قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر 1: 3]، فأقسم الله تعالى أن كل إنسانٍ خاسرٌ إلا من اتصف بهذه الأوصاف الأربعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر على الحق، فهذه السورة ميزان الأعمال يزن بها المؤمن نفسه فيبين له بها ربحه من خسرانه، ولهذا قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: لو فكر الناس كلهم فيها لكفتهم] (الإمام ابن رجب الحنبلي / لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص 400 ط1 2002م بتحقيق عبد الله عامر/ دار الحديث - القاهرة).


غربة المؤمنين في الدنيا:
كان عطاء السلمي يقول في دعائه: " اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غداً بين يديك".


نعم.. نحن في غربةٍ موحشةٍ من هذه الدنيا ولولا يقين الإيمان لتقطعت نفوسنا حسرات، وما لنا في الدنيا إلا ابتغاء الآخرة بحسن العمل.


ولما خُلِقَ آدم أُسكِن هو وزوجته الجنة، ثم أهبطهما منها، ووعدا الرجوع إليها وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبداً يحنُّ إلى وطنه الأول لأنه وارث أبويه في الجنة، كلما ذُكرتْ عنده زاد شوقه وتناهت لوعته لأنه يطمع أن تكون مستقره بعد نقلته من غربة الدنيا إلى نعيم الآخرة:
فحيَّ على جنات عدنٍ فإنها
منازلنا الأولى وفيها المخيمُ

وحيَّ على روضاتها وخيامها
وحيَّ على عيشٍ بها ليس يُسأمُ

ولكننا سبي العدوِّ فهل ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلم؟



وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أخَذ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَنكِبي فقال: "كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ"، وكان ابنُ عُمرَ يقولُ: إذا أمسيْتَ فلا تنتَظِرِ الصباحَ، وإذا أصبحْتَ فلا تنتظِرِ المساءَ، وخُذْ من صحتِك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك) (صحيح البخاري 6416).


وذكر الشيخ السلمان في "موارد الظمآن لدروس الزمان" أن روح الله عيسى عليه السلام يقول: "يَا بَنِي إسرائيل، اجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف فما لكم فِي العَالِم من منزلٍ إن أنتم إِلا عابري سبيل، وَقَالَ: يَا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبَنِي فوق موج البحر دارًا؟! قَالُوا: يَا روح الله من يقدر على ذَلِكَ؟ قَالَ: إِيَّاكُمْ والدُّنْيَا فلا تتخذوها قَرَارًا".


وَقَالَ: "يَا بَنِي إسرائيل تهاونوا بالدُّنْيَا تهن عليكم، وأهينوا الدُّنْيَا تكرم عليكم الآخِرَة، ولا تكرموا الدُّنْيَا تهن عليكم الآخِرَة، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بأَهْل للكرامة، وكل يوم تدعوا إلى الفتنة والخسارة".

♦♦ ♦♦ ♦♦



ومهما طال العمر بالإنسان فإنَّ له مع ربه عز وجلَّ موعدٌ يلقَاهُ فيه ويُفارِقُ الدنيا وأهلها، لأن الله تعالى لم يكتب الخلود لأحدٍ من البشر، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء 34: 35]، فأين قومُ عادٍ الذين بوأهم الله في الخلق بسطةً وأطال أعمارهم ومنحهم القوة التي لا تُضارَع لدرجة أنهم كانوا ينحتون من الجبال قصوراً ومساكن فارهة؟، وأين الأنبياء وقد كانوا نور الدنيا وقفاةَ هدايتِهَا بعد أن عاشَ أطولهم عمراً في دعوته فقط ما يقارب ألفَ عَام، قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 14]، ذهبَ الجميع بعد فناء الأعمار على مدار الأقدار، ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾ [القصص من الآية: 68]:
كُتِبَ الموْتُ على الخلقِ فَكَمْ
فَلَّ من جيشٍ وأَفْنَى من دُولْ

أين نمروذُ وكنعانُ ومنْ
مَلَكَ الأرضَ وولَّى وعَزَلْ

أين من سادُوا وشَادُوا وبنوْا
هَلَكَ الكُلُّ فلمْ تغنِ الحِيَلْ

أين أربابُ الحِجا أهلُ التُّقَى
أينَ أهلُ العِلْمِ والقوْمُ الأُوَلْ

سيعيدُ اللهُ كُلاً منْهُمو
وسَيجزِي فَاعِلاً مَا قَدْ فَعَلْ



وفي الختام:
ستمضي بنا الحياة لا تلوي على شئٍ كعادتها، ونحن على بساطِ الأمل في تشاغلٍ مقيتٍ بالتوافهِ الفانيةِ بينما يباغتنا القدرُ في ذواتِنَا وأحبَّائِنَا بالموتِ أو المرضِ أو الغُرْبَةِ، وهذا شأن الدنيا بأعوامها وأيامها ولياليها، بل نحن الذين نرحلُ ونمرضُ ونرضى ونسخطُ ونعلو ونهبطُ وتدورُ علينا مراسيمُ الحَيَاةِ:
قالوا: سيرحلُ من أعوامنا عامُ
فقلتُ: كيفَ؟ وهذا العُمْرَ أيامُ؟

لاَ يَرْحَلُ العَامُ نحنُ الرَّاحِلُونَ إلى
نهايةِ العُمْرِ والأَعْوامُ أَرْقَامُ



وما أجمل استدراكَ الأمانيِّ بالرَّجَاءِ، مع صدقِ الدُّعَاءِ أن يُغَيِّرَ الله الحالَ إلى أطيبِ حالٍ بعد استنفارِ الهِمَمِ وعدم النكوصِ في حُفَرِ المعاصي والخطأِ كما كانت للناس في العام الفائت سوابق وخوافي من السيئات، والأوْلَى أن تكون سوابقهم في الطاعات.


تغيروا أنتم فما تتغير الدنيا بحالها إلا من أهلها، أشْرِقُوا على أديم الحياة بنور الأخلاق وطهارة القلوب واجتهدوا بالسعي الحثيث للمجدِ الحقيقي بحسن استخلاف الله تعالى في أرضه وعلى الطريق الصحيح الصادق لسيد الأنام صلى الله عليه وسلم لتحسنوا كتابة اسمكم في صفحات التاريخ.. لو كان للإنسانِ فيه ذكرٌ باقٍ.


وليكن الأملُ مُصاحِباً لقلوبِ الصَّالحين من أمتنا المَهْدِيَّةِ في دروبها التي تَعَرَّجَتْ بها السبُلُ بأن يجمع الله تعالى للأمة أمر رشدٍ وهُدى وأن يبعدها عن الضلالةِ والرَّدَى، وأن يُوَفِّقَ أوْزَاعَ الخيْر إلى بذل القدوة العملية للناس ويحدونهم إلى كريم التعامل وجميل الأخلاق والشيم.
وأملنا في الله كبير بقدر جلاله وأسماء جماله وكماله.
وعلى الله بلوغ الأرب.
والحمد لله في المبدأِ والمنتهى.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 85.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 82.96 كيلو بايت... تم توفير 2.17 كيلو بايت...بمعدل (2.55%)]