شرح اسم الله القابض والباسط - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         مشكلات التربية في مرحلة الطفولة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 14069 )           »          اللامساواة من منظور اقتصادي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 63 - عددالزوار : 34541 )           »          من الانتماء القبلي إلى الانتماء المؤسسي: تحولات الهوية والثقة في المجتمع الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          القواعد الشرعية المستنبطة من النصوص الواردة في اليسر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          خلاف العلماء في ترتيب الغسل بين أعضاء الوضوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          مدارس أصول الفقه: تأصيل المناهج والمدارس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          تخريج حديث: اتقوا الملاعن الثلاثة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الحديث التاسع: الراحمون يرحمهم الرحمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الآيات الإنسانية في القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 11-12-2020, 05:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,798
الدولة : Egypt
افتراضي شرح اسم الله القابض والباسط

شرح اسم الله القابض والباسط
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي





الدِّلالاتُ اللُّغَويَّةُ لاسْمِ (القَابِضِ)[1]:
القَابِضُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ، فِعْلُهُ قَبَضَه يَقْبِضُه قَبْضًا وقَبْضَةً، والقَبْضُ خِلَافُ البَسْطِ، وهُوَ فِي حَقِّنَا: جَمْعُ الكَفِّ عَلَى الشَّيءِ، وهُوَ مِنْ أَوْصَافِ اليدِ وفِعْلِهَا، والقَبْضَةُ ما أَخَذْتَ بجُمعِ كَفِّكَ كُلِّهِ تَقُولُ: هَذَا قُبْضةُ كفي أَيْ قَدْرُ مَا تَقْبِضُ عَلَيْهِ، قَالَ السَّامِرِيُّ: ﴿ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 96]، أَرَادَ مِنْ تُرَابِ أَثَرِ حَافرِ فَرسِ الرسولِ[2]، وعند مُسْلمٍ مِنْ حَدِيثِ إِياس بنِ سَلَمَةَ، عن أبيه رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا... إلى أنْ قَالَ: فَلَمَّا غَشَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَنِ البَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنَ تُرَابٍ مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَقَبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ فَقَالَ: "شَاهَت الوُجُوهُ، فَمَا خَلَقَ اللهُ منْهُمْ إنسَانًا إِلا مَلأَ عَيْنَيْهِ تُرابًا بتلْكَ القَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَهَزَمَهُمُ اللهُ عز وجل"[3].

والقَبْضُ قَدْ يَأْتي بِمَعْنَى تَأْخِيرِ اليدِ وَعَدمِ مَدِّهَا، أوْ عَلَى المعْنَى المُعَاكِسِ وهُوَ تَنَاوُلُكَ للشيءِ بِيَدِكَ مُلامَسةً، كَمَا وَرَدَ عِندَ النَّسَائي، وحَسَّنَهُ الألبَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أنَّ امْرَأَةً مَدَّتْ يَدَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِكتَابٍ فَقَبضَ يَدَهُ، فَقَالتْ: يَا رسُولَ اللهِ مَدَدْتُ يَدِي إِليْكَ بِكتَابٍ فَلَمْ تَأْخُذْهُ، فَقَالَ: "إِنِّي لَمْ أَدْرِ أَيَدُ امرَأَةٍ هِيَ أَوْ رَجُلٍ"، قَالتْ: بَلْ يَدُ امْرَأَةٍ، قَالَ: "لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بالْحِنَّاءِ"[4]، وقَبَضْتُ الشيءَ قبْضًا؛ يَعْنِي: أَخَذْتُه، والقَبْضُ قَبُولُكَ المَتَاعَ وإنْ لَم تُحَوِّلُه مِنْ مَكَانِه، والقَبْضُ أيضًا تَحْويلُكَ المَتاعَ إلى حَيِّزِكَ، وصَارَ الشَّيْءُ فِي قَبْضِتي؛ أَيْ: في مِلْكي، وقُبِضَ المريضُ إذا تُوفِّيَ أو أَشْرَفَ عَلَى الموْتِ.

وعِنْدَ البُخاري مِنْ حديثِ أُسامةَ رضي الله عنه، قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إِليْهِ: إنَّ ابْنًا لي قُبِضَ فَائتنَا[5]، أَرَادَتْ أَنه في حالِ القَبْضِ، ومُعَالجةِ النَّزْعِ، وتَقَبَّضَتِ الجلدَةُ في النَّارِ أَي انْزَوَتْ، وقَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ المنافِقِينَ: ﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67]؛ أَيْ: عَنِ النَّفَقَةِ والصَّدَقَةِ فَلا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[6].

والقَابِضُ سُبْحَانَه هُوَ الذِي يُمْسِكُ الرِّزْقَ وغَيْرَه مِنَ الأَشْيَاءِ عَنِ العبَادِ بِلُطْفِهِ وحِكْمَتِهِ، ويَقبضُ الأَرْواحَ عِنْدَ المَمَاتِ بِأَمْرِهُ وقُدرَتِهِ، ويُضيِّقُ الأسْبَابَ عَلَى قَوْمٍ ويُوَسِّعُ عَلَى آخَرِينَ ابْتِلاءً وامْتِحَانًا[7]، وقَبْضُهُ تَعَالَى وإِمْسَاكُهُ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ لا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ، نُؤْمِنُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ وحَقِيقَتِهِ، لا نُمَثِّلُ ولا نُكَيِّفُ، ولا نُعَطِّلُ ولا نُحَرِّفُ، فَالإِيمَانُ بصِفَاتِ اللهِ فَرْعٌ عَنِ الإِيمَانِ بِذَاتِهِ، والقَوْلُ فِي صِفَاتهِ كالقَوْلِ فِي ذَاتِهِ؛ لأننا ما رَأيْنا اللهَ تَعَالَى ومَا رَأينا لِذاتِهِ مثيْلًا، فَهُوَ أَعْلَمُ بِكَيْفِيَّةِ قَبْضِهِ وبَسْطَهِ أو إِمْسَاكِهِ وأخْذِهِ، وَلَا دَاعِي للتأويلِ الذي اْنتَهَجَهُ المُتَكَلِّمُونَ بِكُلِّ سَبِيلٍ، فَنْؤْمِنُ بما أَخْبَرَ اللهُ بلا تَمثيلٍ ولا تَعْطِيلٍ، وعَلَى هَذَا اعْتِقَادُ السَّلَفِ في جميعِ الصِّفَاتِ والأَفْعَالِ، قَالَ شَيْخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَةَ: "وقَدْ تَوَاتَرَ فِي السُّنَّةِ مَجِيءُ اليدِ في حَدِيثِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فالمفْهُومُ مِنْ هَذَا الكلامِ أنَّ للهِ تَعَالَى يَدَينِ مُخْتَصَّتَينِ بِهِ ذَاتِيَّتَينِ لَهُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، وأَنَّه سُبْحَانَهُ خَلَقَ آدَمَ بِيدِهِ دُوَنَ الملائِكَةِ وإبْلِيسَ، وأَنَّه سُبحَانَهُ يَقْبِضُ ويَطْوِي السَّماوَاتِ بِيَدِهِ اليُمْنَى، وأَنَّ يَدَاهُ مبْسُوطَتانِ"[8].
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67].
وَوَرَدَ عِنْدَ أبي داود، وَصَحَّحَهُ الألبانِيُّ مِنَ حَدِيثِ أبي مُوسى رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ مِنَ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأرضِ، فَجَاء بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأرضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الأحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالحَزْنُ والخَبِيثُ والطِّيبُ"[9].

الدِّلالاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (البَّاسِطِ):
البَاسِطُ اسْمُ فَاعِلٍ فِعْلُهُ بَسَطَ يَبْسُطُ بَسْطًا، والبَسْطُ نَقِيضُ القَبْضِ، وأَرْضٌ مُنْبَسِطَةٌ مُسْتَويَةٌ، وانْبَسَطَ الشَّيْءُ عَلَى الأَرْضِ امتَدَّ عَليهَا واتَّسَعَ، وتبَسَّطَ فِي البِلَادِ؛ أَيْ: سَارَ فِيهَا طُولًا وَعَرْضًا، وبَسِيطُ الوَجْهِ يَعْنِي مُتَهلِّل، والبَسِيطُ هُو الرَّجُلُ المُنبَسِطُ اللِّسَانِ، وبَسَطَ إليَّ يَدَهُ بما أُحِبُّ وأَكْرَهُ، بَسْطُها؛ يعني: مَدُّهَا، وفي الآية: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ﴾ [المائدة: 28]، وبَسْطُ الكَفِّ يُسْتَعْمَلُ عَلَى أنوَاعٍ فَتارةً للطَّلَبِ نحو قَولِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ ﴾ [الرعد: 14]، وتَارةً للأَخْذِ نحو قَوْلِهِ: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ﴾ [الأنعام: 93]، وتارةً للصولةِ والضَّرْبِ، كمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾ [الممتحنة: 2]، وتَارَةً للبَذْلِ والعَطَاءِ نحو قَوْلِهِ: ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64][10]، وبَسْطُ اليَدِ فِي حَقِّنا مَعْلُومُ المعْنَى والكَيْفِيَّةِ، أَمَّا فِي حَقِّ اللهِ فَمَعْلُومُ المَعْنَى، مَجْهُولُ الكَيْفِيَّةِ.
البَاسِطُ سُبْحَانَهُ هُوَ الذِي يَبْسُطُ الرِّزقَ لِعِبَادِهِ بجُودِهِ وَرَحْمَتِهِ، يُوَسِّعُهُ عَلَيْهِمْ بِبَالِغِ كَرَمِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَيَبْتَلِيهم بِذَلِكَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ، فَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ وإنْ شَاءَ قَتَّرَ، فَهُوَ البَاسِطُ القَابِضُ؛ فإِنْ قَبَضَ كَانَ ذَلِكَ لما تَقْتَضِيهِ حِكُمَتُهُ البَاهِرَةُ لا لِشَيْءٍ آخَرَ، فَإِنَّ خَزَائِنَ مُلْكِهِ لا تَفْنى وَمَوادَّ جُودِهِ لا تَتَنَاهَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 12]، وقَالَ: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 27][11].

والبَاسِطُ سُبْحَانَهُ أَيْضًا هُوَ الذِي يَبْسُطُ يَدَهُ بالتَّوْبَةِ لمَنْ أَسَاءَ، وهو الذِي يُمْلي لَهُم فَجَعَلهُم بَيْنَ الخْوفِ والرَّجَاءِ، رَوَى مُسْلمٌ مِنْ حَدِيثِ أبي مُوسَى الأشْعَرِي رضي الله عنه؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ الليلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"[12].

وَبَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَوْجَبَ عَدَمَ إطْلَاقِ البَاسِطِ إلا مُقَارِنًا للقَابِضِ، وأَلَّا يَفْصِلَ بينهما؛ لِأَنَّ كَمَالَ القُدْرَةِ لا يَتَحَقَّقُ إلا بهما مَعًا[13]، وهَذَا الكَلَامُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّ أَسْمَاءَ اللهِ كُلَّها حُسْنَى، وكُلُّها تَدُلُّ عَلَى الكَمَال، وكُلُّ وَاحِدٍ مِنهَا يُفِيدُ المدْحَ والثَّنَاءَ عَلَى اللهِ بِنَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ الأسْمَاءَ الحُسْنَى لا تَخْلُو مِنَ التَّقْييدِ العَقْلِي بالممْكِنَاتِ، فَالقَبْضُ مُقَيَّدٌ بما يَشَاءُ اللهُ قَبْضَهُ، والبَسْطُ كَذَلِكَ، ولِذَلِكَ إِذَا صَرَّحَ النَّصُّ بالتَّقْييدِ ذُكِرَ الوَصْفُ فِيهِ مُفْردًا؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ﴾ [الفرقان: 45، 46]، فَالْقَبْضُ فِي الآيةِ مُقَيَّدٌ بالظِّلِّ، وإِطْلَاقُ القَابِضِ أَيْضًا مُقْيَّدٌ بالممْكِنَاتِ، وهَكَذَا فِي سَائِرِ الأسمَاءِ ودِلَالَتِها عَلَى التَّقْييدِ بالمفْعُولاتِ، وقَالَ تَعَالَى في البَسْطِ: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الشورى: 27]، فَالبَسْطُ مُقَيَّدٌ في الآيةِ بالرِّزْقِ، فاسْمَا اللهِ القَابِضُ والبَاسِطُ كُلٌّ مِنْهُما يُفِيدُ المدْحَ والثَّنَاءَ بِنَفْسِهِ، وإِنْ ذُكِرَا مُقْتَرِنَيْنِ زَادَتْ دِلَالَةُ الكَمَال فِي وَصْفِ رَبِّ العِزَّةِ والجَلَالِ، كَمَا هُوَ الحَالُ عِنْدَ اقْتِرانِ الحَي مَعَ القَيُّومِ، والرَّحْمَنِ مَعَ الرَّحِيمِ، والغَّنِي مَعَ الكَرِيمِ، والقَرِيبِ مَعَ المجيبِ، وغيرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ، فَالْقَولُ بِوُجُوبِ ذِكْرِ الاسْمَينِ مَعًا فِيهِ نَظَرٌ وإنْ كَانَ مُسْتَحْسَنًا.

ثالثًا: وُرُودُهُ فِي الحَدِيثِ الشَّرَيفِ:
وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَنسٍ رضي الله عنه، قَالَ: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، لَوْ سَعَّرْتَ، فَقَالَ: "إنَّ اللهَ هُوَ الخَالِقُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ المُسَعِّرُ، وإنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ ولا يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُها إياهُ فِي دَمٍ ولَا مَالٍ"[14].
وَقْد وَرَدَتْ فِعلًا فِي القُرآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].
وَفِي أَحَادِيثَ كَثيرَةٍ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ، لِيتَوُبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ..."[15].
وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ، ويَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ..." الحَدِيثُ[16].

مَعْنَى الاسْمَينِ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى:
قَالَ الزَّجَّاجِيُّ: "(القَابِضُ) اسْمُ الفَاعِلِ مِنْ قَبَضَ فَهُوَ قَابِضٌ، والمَفْعُولُ مَقْبَوضٌ، وذَلِكَ عَلَى ضُرُوبٍ.
فَأَمَّا فِي هَذِهِ الآيةِ التي ذُكِرَ فِيهَا هَذَا الحَرْفُ فِي سُورَةِ البَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ عز وجل: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ [البقرة: 245]، فَقَالُوا: تَأْوِيلُه: يُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، ويَتَوَسَّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى مِنَ المَصْلَحَةِ لِعِبَادِهِ.
فَالقَبْضُ هَاهُنَا: التَّقْتِيرُ والتَّضْيِيقُ.
والبَسْطُ: التَّوْسِعَةُ فِي الرِّزْقِ والإِكْثَارِ مِنْهُ.
فَاللهَ عز وجل القَابِضُ البَّاسِطُ، يُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، ويُوسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ.
وَمَخْرَجُ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَةِ، أَنَّ أَصْلَ القَبْضِ: ضَمُّ الشَّيْءِ المُنْبَسِطِ مِنْ أَطْرَافِهِ، فيَقْبِضُهُ القَابِضُ إِليهِ أَولًا أَولًا حَتَى يَحُوزَهُ ويَجْمَعَهُ. والبَسْطُ: نَشْرُ الشَّيْءِ المُجْتَمِعِ أَوِ المُنْضَمِّ أَو المَطْوِيِّ.
فَمَنْ قُبِضَ رِزْقُهُ فَقْدَ ضُيِّقَ عَلَيهِ، ومَنْ بُسِطَ رِزْقُهُ فَقْدَ فُسِحَ لَهُ فِيهِ، وَوُسِّعَ عَلَيهِ.
ومِنْ ذَلِكَ قِيلَ: فُلانٌ قَبيضٌ، أَيْ: بَخِيلٌ شَدِيدٌ كَأَنَّه لَا يَبْسُطُ كَفَّهُ بِخَيْرٍ إِلَى أَحَدٍ، ولا يَسْمَحُ بِذَلِكَ، وفُلَانٌ بَاسِطُ الكَفِّ، وبَاسِطُ الجَاهِ، وإِنَّمَا يُرادُ بِهِ السَّخَاءُ وبَذْلُهُ مَالَهُ وجَاهَهُ"[17].

وَقَالَ فِي البَاسِطِ: "البَاسِطُ الفَاعِلُ مِنْ بَسَطَ يبْسُطُ فَهُوَ بَاسِطٌ، فَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا ذَكَرْنَا بَاسِطٌ رِزْقَ مَنْ أَرَادَ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيهِ، وَمُقَتِّرٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ، كَمَا يَرَى فِي ذَلِكَ مِنَ المَصْلَحَةِ لَهُم، وَهُوَ كَمَا قَالَ عز وجل: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 27].
فَهَذِهِ الآيَةُ قَدْ بَيَّنَتْ لَكَ مَعْنَى البَاسِطَ، وبَيَّنَتْ أَيْضًا أَنَّه عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يَقْبِضُ ويَبْسُطُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ المَصْلَحَةِ لِعِبَادِهِ.
والبَاسِطُ أيضًا: بَاسِطُ الشَّيْءِ الذِي لَيْسَ بِمَفْرُوشٍ يَبْسُطُهُ ويَفْرِشُهُ، كَمَا بَسَطَ الأرْضَ للأَنَامِ، وَبَثَّ فِيهَا أَقْواتَهم"[18].
وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: "ومِنْهَا (البَاسِطُ): وَمَعْنَاهُ: النَّاشِرُ فَضْلَهُ عَلَى عِبَادِهِ، يَرْزُقُ وَيُوَسِّعُ ويَجُودُ ويَفْضُلُ ويُمَكِّنُ ويُخَوِّلُ، ويُعْطِي أَكْثَرَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِليهِ".
قَالَ: "ومِنْهَا (القَابِضُ): يَطْوِي بِرَّهُ ومَعْرُوفَهُ عَمَّنْ يُرِيدُ، ويُضَيِّقُ ويُقَتِّرُ أَوْ يَحْرِمُ فَيُفْقِرُ.
ولا يَنْبَغِي أَنْ يُدْعَى رَبُّنا جَلَّ جَلَالُهُ باسْمِ: القَابِضِ، حَتَى يُقَالَ مَعَهُ: البَاسِطُ"[19].

وقَالَ البَيْهَقِيُّ: "(القَابِضُ البَاسِطُ) هُوَ الذِي يُوَسِّعُ الرِّزْقَ ويُقَتِّرُهُ، يَبْسُطُهُ بِجُودِهِ وَرَحْمَتِهِ، ويَقْبِضُهُ بِحِكْمَتِهِ.
وقِيلَ: القَابِضُ: الذِي يَقْبِضُ الَأرْوَاحَ بالمَوْتِ الذِي كَتَبَهُ عَلَى العِبَادِ.
والبَاسِطُ: الذِي بَسَطَ الَأرْوَاحَ فِي الَأجْسَادِ"[20].
وَقَالَ الغَزَالِيُّ: "(القَابِضُ البَاسِطُ) هُوَ الذِي يَقْبِضُ الَأرْوَاحَ عَنِ الَأشْبَاحِ عِنْدَ المَمَاتِ، ويَبْسُطُ الَأرْوَاحَ فِي الَأجْسَادِ عِنْدَ الحَيَاةِ.
ويَقبِضُ الصَّدَقَاتِ مِنَ الأغْنِيَاءِ، ويَبْسُطُ الأرْزَاقَ للُّضعَفَاءِ، ويَبْسُطُ الرِّزْقَ عَلَى الأغْنِيَاءِ حَتَى لا يَبْقَى فَاقَةٌ، ويَقْبِضُهُ عَنِ الفُقَرَاءِ حَتَّى لا يَبْقَى طَاقَةٌ.
ويَقْبِضُ القُلُوبَ فَيُضَيِّقُها بِمَا يَكْشِفُ لَهَا مِنْ قَلَّةِ مُبَالَاتِهِ وتَعَالِيهِ وَجَلالِهِ، ويَبْسُطُها بِمَا يَتقَرَّبُ إليهَا مِنْ بِرِّهِ ولُطْفِهِ وجَمَالِهِ"[21].
وَقَالَ ابنُ الأثِيرِ: "فِي أَسْمَاءِ الله تَعَالَى: (القَابِضُ): هُوَ الذِي يُمْسِكُ الرِّزْقَ وغَيْرَهُ مِنَ الأَشْيَاءِ عَنِ العِبَادِ بِلُطْفِهِ وحِكْمَتِهِ، ويَقْبِضُ الأرْوَاحَ عِنْدَ المَمَاتِ"[22].

وقَالَ فِي أسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى: "(البَاسِطُ): هُوَ الذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لعِبَادِهِ، ويُوسِّعُهُ عَلِيهم بِجُودِهِ ورَحْمَتِهِ، ويَبْسُطُ الأرْوَاحَ فِي الأجْسَادِ عِنْدَ الحَيَاةِ"[23].
وقَالَ قَوَّامُ السُّنَّةِ الأصْبَهَانِيُّ: "ومِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تعَالَى (القَابِضُ البَاسِطُ): قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ [البقرة: 245].
ومَعْنَاهُ: يُوَسِّعُ الرِّزْقَ ويُقَتِّرُهُ، يُبْسُطُهُ بِجُودِهِ ويَقْبِضُهَ بِعَدْلِهِ، عَلَى النَّظَرِ لِعَبْدِهِ، قَالَ اللهُ تعَالَى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الشورى: 27]"[24].
وقَالَ السَّعْدِيُّ: "(القَابِضُ البَاسِطُ): يَقْبِضُ الأرْزَاقَ والأرْوَاحَ، ويَبْسُطُ الأرْزَاقَ والقُلُوبَ، وذَلِكَ تَبَعٌ لِحكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ"[25].

اقْتِرَانُ الاسْمَينِ:
الأدَبُ فِي هَذينِ الاسْمَينِ، أَنْ يُذْكَرَا مَعًا؛ لَأَنَّ تَمَامَ القُدْرَةِ بِذِكْرِهِمَا مَعًا.
أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذا قُلْتَ: إِلَى فُلَانٍ قَبْضُ أَمْرِي وبَسْطُهُ، دَلَّا بِمَجْمُوعِهمَا أَنَّكَ تُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ أَمْرِكَ إِلَيْهِ؟
وتَقُولُ: لَيْسَ إليكَ مِنْ أَمْرِي بَسْطٌ ولا قَبْضٌ، ولا حَلٌّ ولا عَقْدٌ، أَرَادَ: لَيْسَ إِليكَ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَه الزَّجَّاجُ[26].
وقَالَ الخَطَّابِيُّ: "قَدْ يَحْسُنُ فِي مِثْلِ هَذَيْنِ الاسْمَينِ أَنْ يُقْرَنَ أَحَدُهمَا فِي الذِّكْرِ بالآخَرِ، وأنْ يُوصَلَ بِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَنْبَأَ عَنِ القُدْرَةِ، وأَدَلَّ عَلَى الحِكْمَةِ، كقوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].
وإِذَا ذَكَرْتَ القَابِضَ مُفرَدًا عَنِ البَاسِطِ، كُنْتَ كَأَنَّك قَدْ قَصَرْتَ بالصِّفَةِ عَلَى المَنْعِ والحِرْمَانِ.
وإِذَا أَوْصَلْتَ أَحَدَهُمَا بالآخَرِ فَقدْ جَمَعْتَ بَيْنَ الصِّفَتَينِ، مُنْبِئًا عَنْ وَجْهِ الحِكْمَةِ فِيهِمَا.

ثُمَّ قَالَ: فَالقَابِضُ البَاسِطُ: هُوَ الذِي يُوسِّعُ الرِّزْقَ ويُقتِّرُهُ، ويَبْسُطُهُ بجُودِهِ ورَحْمَتِهِ، ويَقْبِضُهُ بِحِكْمَتِهِ، عَلَى النَّظَرِ لِعَبْدِهِ، كَقْولِهِ: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 27].
فَإِذَا زَادَهُ لَمْ يَزِدْهُ سَرَفًا وخَرَقَا، وإِذَا نَقَصَهُ لم يُنْقصْهُ عَدَمًا ولا بُخْلًا.
وقِيلَ: القَابِضُ: هُوَ الذِي يَقْبِضُ الأرْوَاحَ بالمَوْتِ الذِي كَتَبَهُ عَلَى العِبَادِ"[27].
وقَالَ ابنُ القَيِّمِ[28]:
هُوَ قَابِضٌ هُوَ بَاسِطٌ هُوَ خَافِضٌ ♦♦♦ هُـوَ رَافِعٌ بالعَدْلِ والمِيزَانِ

قَالَ الهَرَّاسُ فِي شَرْحِهِ: "هَذِهِ الأسْمَاءُ الكَرِيمَةُ مِنَ الأسْمَاءِ المُتَقَابِلاتِ التي لا يَجُوزُ أَنْ يُفرَدَ أَحَدُهما عَنْ قَرِينِهِ، ولا أَنْ يُثْنَى عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِوَاحِدٍ مِنْهَا إلا مَقْرُونًا بِمُقَابِلِهِ، فَلا يَجُوزُ أَنْ يُفرَدَ القَابِضُ عَنِ البَاسِطِ، ولا الخَافِضُ عَنِ الرَّافِعِ... إلخ".
قَالَ: "لِأَنَّ الكَمَالَ المُطْلَقَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِمَجْمُوعِ الوَصْفَينِ.
فَهُوَ سُبْحَانَهُ القَابِضُ البَاسِطُ، يَقْبِضُ الأرْوَاحَ عَنِ الأشْبَاحِ عِنْدَ المَمَاتِ، ويَبْسُطُ الأرواح في الأجسادِ عند الحياةِ، ويقبضُ الصدقاتِ منَ الأغنياءِ ويَبْسُطُ الأرْزَاقَ للضُّعَفَاءِ، ويَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ حَتَّى لا تَبْقَى فَاقَةٌ، ويَقْبِضُهُ عَمَنْ يَشَاءُ حَتَّى لا تَبْقَى طَاقَةٌ.
ويَقْبِضُ القُلُوبَ فَيُضَيِّقُهَا حَتَّى تَصيرَ حَرَجَا كَأَنَّمَا تَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، ويَبْسُطُها بِمَا يُفيضُ عَلَيْها مِنْ مَعَانِي بِرِّهِ ولُطفِهِ وَجَمَالِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125]"[29].

ثَمَراتُ الإِيمَانِ بِهَذِينِ الاسْمَينِ:
1- إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ القَابِضُ البَاسِطُ، وهُمَا مِنَ الطَّيِّ والنَّشْرِ، والتَّوسِعَةِ والتَّضْييقِ، والأخْذِ والعَطَاءِ، وهُوَ يَتَنَاولُ أُمُورًا كَثيرَةً، كَمَا مَرَّ مَعَنا فِي أَقْوالِ العُلمَاءِ.
قَالَ ابنُ الحَصَّارِ: "وهَذَانِ الاسْمَانِ يَخْتَصَّانِ بِمَصَالحِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، قَالَ اللهُ العَظِيمُ: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 27].
وذَلِكَ يَتَضَمَّنُ قِوَامَ الخَلْقِ باللُّطْفِ والخِبْرَةِ، وحُسْنِ التَّدْبِيرِ والتَّقْدِيرِ، والعِلْمِ بِمَصَالحِ العِبَادِ فِي الجُمْلَةِ والتَّفَاصِيلِ، وبِحَسَبِ ذَلِكَ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ، ويُسَخَّرُ السَّحَابَ، فيُمطِرُ بَلدًا، ويَمْنَعُ غَيْرَهُ، ويُقِلُّ ويُكثِرُ[30].
وكَذَلِكَ يُصَرِّفُ جُمْلَةَ العَوَالِم لِجُمْلَةِ العَالَمِينَ".
وقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: إنَّ أَعْظَمَ البَسْطِ: بَسْطُ الرَّحْمَةِ عَلَى القُلُوبِ حَتَّى تَسْتَضِيءَ، وتَخْرُجَ مِنْ وَضَرِ الذُّنُوبِ، وهَذَا هُوَ الشَّرْحُ المَذْكُورُ فِي قَولِهِ عز وجل: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 22].
وقَوْلِهِ: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾ [الأنعام: 125].
وضدُهُ المَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125].
فَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 44].
وقَوْلُهُ: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾ [الزخرف: 33].
إِلَى آخِرِ المَعْنَى، فَليْسَ بِفَتْحٍ عَلَيهم ولا بَسْطٍ لَهُم، وإنَّمَا حَقِيقَتُهُ: مَكْرٌ بِهم، واسْتِدْرَاجٌ لهم، لِحِرمَانٍ شَاءَهُ بِهم.
كَذَلَكَ لَيْسَ المَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ عز وجل: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ﴾ [التوبة: 16].
وقَوْلِهِ: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 3].
ومَا ذَكَرَ مِنَ خَطِيئَةِ آدَمَ وداود عليه السلام، وبلاءِ أَيُّوبَ عليه السلام، وشِبْهُ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَبْضٍ فِي الحَقِيقَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مِحْنَةٌ عَاجِلةٌ مُوصِلةٌ إلى جُودِهِ المُتَّصِلِ لهم فِي الآجِلِ.
قَالَ القُرْطُبِيُّ مُعَقِّبًا: "قُلْتُ: وهَذَا مِنْ هَذَا العَالمِ إشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا أَصَابَ المُؤْمِنَ مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا نِعْمَةٌ، ومَا أَصَابَ الكَافِرَ مِنَ نِعَمِ الدُّنْيَا فِتْنَةٌ"[31].

2- وقَالَ ابنُ جَريرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]: "يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُه بذلك: أَنَّه الذِي بِيَدِهِ قَبْضُ أرْزَاقِ العِبَادِ وبِسْطِها دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنِ ادَّعَى أَهْلُ الشِّرْكِ بِهِ أَنَّهم آلِهَةٌ، واتَّخَذُوه ربًّا دُونَهُ يَعْبُدُونَهُ، وذَلِكَ نَظِيرُ الخَبَرِ الذِي رُوي عَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم...
عَنِ أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: غَلا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَقَالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، غَلا السِّعْرُ فأَسْعِرْ لنَا، فقَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ البَاسِطُ القَابِضُ الرَّازِقُ، وإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ لَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي نَفْسٍ ومَالٍ"[32].

قَالَ أبو جَعْفَرٍ: "يَعْنِي بذَلِكَ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ الغَلَاءَ والرُّخْصَ والسِّعَةَ والضِّيقَ بِيَدِ اللهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُه تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ يَعْنِي بقَوْلِهِ: ﴿ يَقْبِضُ ﴾: يُقَتِّرُ بِقَبْضِهِ الرِّزْقَ عَمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، ويَعْنِي بِقَولِهِ: ﴿ وَيَبْسُطُ ﴾: يُوَسِّعُ بِبَسْطِهِ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنهم، وإنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بقوْلِهِ ذلك حَثَّ عِبَادِهِ المُؤْمِنينَ الذِينَ قَدْ بَسَطَ عَلَيهم مِنْ فَضْلِهِ فَوَسَّعَ عَلَيهم مِنْ رِزْقِهِ، عَلَى تَقْوِيَةِ ذَوي الإقْتَارِ مِنْهم بِمَالِهِ، ومَعَونَتِه بالإنْفَاقِ عَلَيهِ، وحَمُولَتِهِ عَلَى النُّهُوضِ لِقِتَالِ عَدُوِّهِ مِنَ المُشْرِكِينَ - فِي سَبِيلِهِ - فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَنْ يُقَدِّمُ لِنَفْسِهِ ذُخرًا عِنْدِي بإعْطَائِهِ ضُعَفَاءَ المُؤْمِنينَ، وأَهْلَ الحَاجَةِ مِنْهم مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى القِتَال فِي سبيلي؛ فأضَاعِفَ لَهُ مِنْ ثَوَابِي أَضْعَافًا كَثيرَةً مِمَّا أَعْطَاهُ وقَوَّاهُ بِهِ، فَإنِّي أنا المُوَسِّعُ الذِي قَبْضُتُ الرِّزْقَ عَمَّنْ نَدَبْتُكَ إلَى مَعُونَتِهِ وإعْطَائِهِ، لأبْتَلِيَهُ بالصَّبْرِ عَلَى مَا ابْتَليْتُهُ بِهِ، والذِي بَسَطْتُ عَليكَ لِأَمْتَحِنُكَ بعَمَلِكَ فِيمَا بَسَطْتُ عَلَيكَ فَأَنْظُرَ كَيفَ طَاعَتُكَ إيايَ فِيهِ؟ فأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُما عَلَى قَدْرِ طَاعَتِكما لِي فِيمَا ابتَليْتُكُمَا فِيهِ، وامْتَحَنتُكُمَا فِيهِ، مِنْ غِنًى وَفاقةٍ، وسَعَةٍ وضِيقٍ، عِنْدَ رُجُوعِكُما إلَيَّ فِي آخِرَتِكُما، ومَصِيركُمَا إلَيَّ فِي مَعَادِكُمَا"[33].

3- ثُمَّ حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى مِنَ اسْتِعْمَالِ ما بَسَطَ مِنَ الرِّزْقِ فِي مَعَاصِيهِ فَقَالَ: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وإِلَى اللهِ مَعَادِكُم أَيُّها النَّاسُ، فاتَّقُوا اللهَ فِي أنْفُسِكُم أَنْ تُضَيِّعُوا فَرَائِضَهُ، وتَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ، وأنْ يَعْمَلَ مَنْ بسَطَ عَلَيهِ مِنْكُم فِي رِزْقِهِ بِغَيْرِ مَا أَذنَ لَهُ بالعَمَلِ فِيهِ رَبُّهُ، وأَنْ يَحْمِلَ بالمُقَتِّرِ مِنْكُم فَيَقْبِضَ عَنْهُ رِزْقُهُ إقْتَارهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، والتَّقَدُّمُ عَلَى مَا نَهَاهُ، فَيَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ مِنْهُ - بِمَصِيرِهِ إلَى خَالِقِهِ - مَا لا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ أَليمِ عِقَابِهِ.
وكَانَ قَتَادَةُ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾، وإِلَى التُّرَابِ تُرْجَعُونَ[34].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 155.12 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 153.40 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.11%)]