الإسلام والسمو الروحي للإنسان - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح صحيح مسلم الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 599 - عددالزوار : 70598 )           »          الوصايا النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 16815 )           »          بين الوحي والعلم التجريبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          غزة في ذاكرة التاريخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 9119 )           »          حين تتحول الحماسة إلى عبء بين الجاهل والعالم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          نعمة الأمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 61 - عددالزوار : 32320 )           »          الألباني.. إمام الحديث في العصر الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 2921 )           »          منهجية القاضي المسلم في التفكير: دروس من قصة نبي الله داود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          واجبات الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 27-10-2020, 07:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,183
الدولة : Egypt
افتراضي الإسلام والسمو الروحي للإنسان

الإسلام والسمو الروحي للإنسان (1)


سيد مبارك






الإسلام رسالة الله للعالمين (5)

المبحث الخامس: الإسلام والسمو الروحي للإنسان (1)


الحمد لله رب العالَمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فبادئ ذي بدء نقول: إن الإنسان - كما هو معلوم - روحٌ وجسد، والروح باقية خالدة، تسمو وتترقى في النعيم السرمدي، إن كان صاحبها من أهل اليمين؛ قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ﴾ [المطففين: 18 - 25].

وتَشقى وتُعذَّب في أسفل سافلين في النار، إن كان صاحبها من أهل الشِّمال، والعياذ بالله؛ قال تعالى: ﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 41 - 46].

ومعلوم في عقيدتنا أن الرُّوح سرٌّ من أسرار الله تعالى، حجَب أمرها عن خَلقه، فلا يستطيع الإنسان مهما بلَغ من العلم في دنيا الناس أن يدريَ عنها شيئًا؛ قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 85].

قال السعديُّ: وهذا متضمن لردع مَن يسأل المَسائل التي لا يقصد بها إلا التعنُّت والتعجيز، ويدَع السؤال عن المهم، فيسألون عن الروح التي هي من الأمور الخفية، التي لا يتقن وصفَها وكيفيتها كلُّ أحد، وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد.

ولهذا أمَر الله رسوله أن يجيب سؤالهم بقوله: ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [الإسراء: 85]؛ أي: من جملة مخلوقاته، التي أمرها أن تكون فكانت، فليس في السؤال عنها كبيرُ فائدة، مع عدم علمكم بغيرها[1]؛ اهـ.

قلت: ومن العجيب أن يختلف الفضلاء من أهل العلم في بيان المقصود بالرُّوح إلى أقوال كثيرة، ووجه العجب أنها من الأمور التي أستأثر الله بعِلمها، ومن الخطأ الذي ينبغي أن يترفعَ عنه العقلاء والفضلاء من الناس الخوضُ في أمرٍ سدَّ الله الباب لمعرفته، وجعله سبحانه سرًّا من أسراره التي لا يطلعُ عليها أحد، لا نبيٌّ مرسَل، ولا ملَك مقرَّب.

وليس مقصودنا في هذا المبحث بيانَ هذه الأقوال ومناقشتها، وبيان عليلها من سقيمها، وما تؤيده الأدلةُ والشواهد وما تنفيه؛ فهو علمٌ لا ينفع، وجهل لا يضر، رغم يقيننا أن فضول الإنسان وغروره لا يحُده حد، وسيظل هذا المخلوق الضعيف يسعى للتنقيب والبحث إلى أبعدِ مدًى، ليدرك أسرار الحياة في دنياه، ولو حجب الله عنه أسبابها ومسبباتها، ولن يرده قول الحق تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 85]، إلا مَن رحم ربي، وهو الهادي إلى صراطه المستقيم.

وأنا على يقين أن كل محاولات بعضِ العلماء الماديين وغرورهم الذي تجاوز كل الخطوط الأخلاقية والدينية، لن تفتُر أبدًا، وتجارِبهم لن تنتهي لمعرفة أسرار الكون والحياة، وكذلك الفلاسفة وشطحاتهم الفكرية، وأمثالهم ممن لا يؤمنون بالإله الحق من أهل الألحاد، لن يكفوا ألبتة عن السعي إلى معرفة سر الروح وكُنهها، وستذهب دومًا محاولاتهم الدنيئة هباءً منثورًا، والمؤمن بالله - عز وجل - لا يجري وراء سراب وشطحات وغرور هؤلاء، ولكن يرضى بما فتَح الله عليه من أسرار للسمو بالروح والجسد معًا، بشريعة سماوية وتعاليم غاية في السمو، تترقى بالنَّفس البشرية، وتتجانس مع الفطرة السوية، ما دام حيًّا يُرزق في هذه الحياة الدنيا.

وعليه أن يتأسى بالملائكة المقربين، الذين عرَفوا الحق، وآمَنوا أنَّ إلى الله - جل في علاه - المنتهى في العلم والحكمة، فقالوا كما قال تعالى: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32].

والروح - كما هو معلوم لمن يتدبَّر كتاب الله عز وجل - لها مدلولات كثيرة في القرآن، وما يَعنينا هنا من أمر الروح ما جاء ذكرها مرتبطًا بالجسد، وبدهيٌّ لا حياة للجسد إلا بها، والمتأمِّل للقرآن الكريم يجد أن الله تعالى يخاطب الرُّوح والجسد ويسميهما نفسًا[2]، وهي التي أقسم الله - جل وعلا - بها في سورة الشمس، فقال - جل في علاه -: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].

قال ابن كثير في تفسيرها ما مختصره: "قوله: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾؛ أي: خلَقها سويَّة مستقيمة على الفطرة القويمة، كما قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعَاء، هل تُحسُّون فيها من جدعاء؟))[3].

وقوله: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾؛ أي: فأرشَدها إلى فجورها وتقواها؛ أي: بيَّن لها ذلك، وهداها إلى ما قُدِّر لها.

قال ابن عباس: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾: بيَّن لها الخير والشر، وكذا قال مجاهد، وقتادة، والضحَّاك، والثَّوري.

قوله: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾: يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكَّى نفسه؛ أي: بطاعة الله - كما قال قتادة - وطهَّرها من الأخلاق الدَّنيئة والرَّذائل"[4]؛ اهـ.

قلت: ولا يخفي أن الروح مرتبطة بجسد صاحبها، وهذا الجسد إلى فَناء، ويصير إلى أصله الذي خُلق منه، وهو التراب؛ قال تعالى: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 55].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ما مختصره: "والرُّوح المدبِّرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الرُّوح المنفوخة فيه، وهي النَّفس التي تفارقه بالموت؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما نام عن الصلاة: ((إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردَّها حيث شاء))[5]، وقال له بلال: يا رسول الله، أخَذ بنفسي الذي أخَذ بنفسك[6]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 42]، قال ابن عباس وأكثرُ المفسِّرين: يقبضها قبضين: قبض الموت، وقبض النوم، ثم في النوم يقبض التي تموتُ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمًّى حتى يأتيَ أجلها وقت الموت، وقد ثبت في الصحيحين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا نام: ((باسمِك ربِّي وضعتُ جَنبي، وبك أرفعه، إن أمسكتَ نفسي، فاغفِرْ لها وارحَمْها، وإن أرسلتَها، فاحفَظْها بما تحفظ به عبادَك الصالحين))[7].

ثم قال - رحمه الله -: وفي الحديث الصحيح: ((إن الرُّوح إذا قُبِض، تبِعه البصر))[8]؛ فقد سمَّى المقبوضَ وقت الموت ووقت النوم رُوحًا ونَفْسًا، وسمى المعروج به إلى السماء روحًا ونفسًا، لكن يسمَّى نفسًا باعتبار تدبيره للبدن، ويسمى رُوحًا باعتبار لُطفه؛ فإن لفظ "الرُّوح" يقتضي اللُّطف؛ ولهذا تسمَّى الريح رُوحًا"[9]؛ اهـ.

قلت: والسمو والترقي بالروح والجسد له أسباب ومسببات خلقها الله، ويسَّر للإنسان بلطفه وكرمه الوصول إليها، والإحساس بنتائجها في دنياه الفانية، وجعله مخيَّرًا في سلوك الطريق المستقيم، أو الطريق المظلم، الذي يُهين النفس، وينحط بالجسد، ويزري بالروح ومكانتها.

قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 4 - 10].

قال السعدي: يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم يقوم الأشهاد، وأنه ينبغي له أن يسعى في عملٍ يريحه من هذه الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم.

وإن لم يفعل، فإنه لا يزال يكابد العذابَ الشديد أبد الآباد.

ويحتمل أن المعنى: لقد خلقْنا الإنسان في أحسن تقويم، وأقومِ خِلقة، يقدر على التصرُّف والأعمال الشديدة، ومع ذلك، فإنه لم يشكرِ الله على هذه النعمة العظيمة، بل بطِر بالعافية، وتجبَّر على خالقه، فحسب - بجهله وظلمه - أن هذه الحال ستدوم له، وأن سلطان تصرُّفه لا ينعزل؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾ [البلد: 5]، ويطغى ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه؛ فـ ﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ﴾ [البلد: 6]؛ أي: كثيًرا، بعضه فوق بعض.

وسمى الله تعالى الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكًا؛ لأنه لا ينتفع المنفِقُ بما أنفق، ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندمُ والخَسَار والتعب والقلَّة، لا كمن أنفق في مرضاة الله في سبيل الخير؛ فإن هذا قد تاجَر مع الله، وربح أضعافَ أضعافِ ما أنفق.

قال الله متوعدًا هذا الذي يفتخر بما أنفق في الشهوات: ﴿ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ [البلد: 7]؛ أي: أيحسب في فعله هذا أن الله لا يراه ويحاسبه على الصغير والكبير؟
بل قد رآه الله، وحفِظ عليه أعماله، ووكَّل به الكرام الكاتبين، لكل ما عمله من خير وشر.

ثم قرره بنعمه، فقال: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ﴾ [البلد: 8، 9] للجمال والبصَر والنُّطق، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها، فهذه نِعم الدنيا، ثم قال في نعم الدِّين: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]؛ أي: طريقَيِ الخير والشر، بيَّنَّا له الهُدى من الضلال، والرُّشد من الغي.

فهذه المِنَن الجزيلة، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله، ويشكر الله على نعمه، وألا يستعين بها على معاصيه، ولكن هذا الإنسان لم يفعَل ذلك[10]؛ اهـ.

قلت: وذلك إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، ولا ريب أن الغايةَ من الدنيا وما فيها للإنسان السوي هي الفوز بالحياة الحقيقية، وفيها أعلى درجات الترقي والسمو للنفس البشرية في دار الخلد والمقامة؛ كما قال الحقُّ - تبارك وتعالى - في كتابه الكريم: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].

قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرًا عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وأنها لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو ولعب: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ [العنكبوت: 64]؛ أي: الحياةُ الدائمة الحق، الذي لا زوال لها ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد.

وقوله: ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]؛ أي: لآثروا ما يبقى على ما يفنى"[11]؛ اهـ.

ولا يخفى على مَن له أدنى بصيرة بما يصلح الإنسان للسمو بالنفس روحيًّا وجسديًّا أن رسالة الإسلام وتعاليمه فيها ما يشبع نهمه، ويروي ظمأه؛ لأنها رسالة تخاطب الوجدان، وتترقى بالسرائر، كما سوف نبين في هذا المبحث، وسيكون مدخلنا لبيان ذلك في ثلاثة محاور على الأقل:
المحور الأول: بيان حقيقة ارتباط النفس البشرية وسموها بخالقها ورازقها في الإسلام.

المحور الثاني: بيان أن رسالة الإسلام وتعاليمه تسمو بالعلاقات بين البشر.

المحور الثالث: بيان أن تعاليم الإسلام تسمو بالإنسان مع نفسه التي بين جنبيه.

وها هي المحاور الثلاثة مع الشرح والبيان بالأدلة الشرعية؛ ليدرك الحاقدون والجاهلون بالإسلام حقيقته وسمو تعاليمه، وكمال شريعته، وأنه البلسم الشافي والكافي لِما أصاب الحياةَ الإنسانية من ضمور وجروح؛ لإهانتها للنفوس روحيًّا وجسديًّا بتعاليم وشرائع وفلسفات تحتقر النفس، وتزدري الروح والجسد، بدلاً من السمو والرقي، لعل وعسى يدرك الجميع قبل فوات الأوان أن الخلاص والنجاة في الرسالة الخاتمة، والمنهج الرباني، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله المستعان، وعليه التكلان.

المحور الأول:
بيان حقيقة ارتباط النفس البشرية وسموها بخالقها ورازقها في الإسلام:
نبدأ ونقول - بحول الله وقوته -: إن ارتباط النفس البشرية بخالقها ورازقها - جل وعلا - ارتباطٌ فطري، حتى من قبل أن يكون هناك وجود للبشرية في عالَم الأرواح منذ الأزل، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].

قال السعدي - رحمه الله -: "أي: أخرَج من أصلابهم ذريتَهم، وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنًا بعد قرن.

وحين أخرَجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم ﴿ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 172]؛ أي: قرَّرهم بإثبات ربوبيَّته، بما أودعه في فِطَرهم من الإقرار بأنه ربُّهم وخالقهم ومَليكهم.

قالوا: بلى، قد أقررنا بذلك، فإن الله تعالى فطَر عباده على الدِّين الحنيف القيِّم.

فكل أحد فهو مفطور على ذلك، ولكن الفطرة قد تغيَّر وتبدَّل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة؛ ولهذا ﴿ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172]؛ أي: إنما امتحنَّاكم حتى أقررتم بما تقرَّر عندكم، من أن الله تعالى ربُّكم؛ خشيةَ أن تنكروا يوم القيامة، فلا تقروا بشيء من ذلك، وتزعمون أن حجَّة الله ما قامت عليكم، ولا عندكم بها عِلم، بل أنتم غافلون عنها لاهُون.

فاليوم قد انقطعت حجتُكم، وثبتت الحجَّة البالغة لله عليكم"[12]؛ اهـ.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فالنفس بفطرتها إذا تُركت، كانت مقرة لله بالإلهية، مُحبَّةً له، تعبده لا تشرك به شيئًا، ولكن يفسدها ما يزيِّن لها شياطين الإنس والجن، بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل"[13].

سمو النفس وارتقاؤها في الإيمان بالإله الحق:
لا يغيب عن العقلاء أن الإنسانَ بفطرته منذ الخليقة، يبحث عن الإله الحق، الذي ينفع ويضر، ويملِك مقادير كل شيء، وقد تهتدي رُوحه لميثاق الفطرة وشَهادتها لله بالوحدانية، وقد تضلُّ عنه، ولكنه دومًا يشعر الإنسان - لضَعْفه كمخلوق - بالنَّقص وبحاجتِه إلى قوًى أكبرَ منه قادرة على إحساسه بعبوديته لها، سواء كان يعبدُ الله أو يعبد شيئًا غير الله.

وقد كانت رحمة الله بعباده أن أرسل لهم الرسل والأنبياء مبشِّرين ومنذرين؛ لسدِّ هذا النقص، وبيان الطريق إليه؛ حتى لا تكون لهم حُجَّة، وختمهم بنبي الإسلام، وختم الرسالات برسالة الإسلام، وارتضاه لهم دِينًا ومنهاجًا، وفي تعاليمه كل ما تهفو إليه النفسُ من راحة وسكينة، ورضًا وسمو، وحب وسلام.

قال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165].

قال السعدي: أرسلهم مبشِّرين لمن أطاع الله واتَّبعهم: بالسعادة الدنيوية والأخروية، ومنذرين مَن عصى الله وخالَفهم: بشقاوة الدارين؛ لئلا يكون للناس على الله حُجَّة بعد الرسل فيقولوا: ﴿ مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ﴾ [المائدة: 19].

فلم يبقَ للخَلْق على الله حُجَّة لإرساله الرسل تترى، يبينون لهم أمر دينهم، ومراضيَ ربهم ومساخطَه، وطرق الجنة، وطرق النار؛ فمن كفَر منهم بعد ذلك، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.

وهذا من كمال عزَّته تعالى وحكمته، أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وذلك أيضًا من فضله وإحسانه؛ حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء أعظمَ ضرورة تقدر، فأزال هذا الاضطرار، فله الحمدُ، وله الشكر، ونسأله كما ابتدأ علينا نعمتَه بإرسالهم، أن يتمَّها بالتوفيقِ لسلوك طريقهم؛ إنه جَوَاد كريم[14]؛ اهـ.

وينبغي أن نلفت النظر هنا إلى أن الفارق بين شعور المرء بالجلال والسمو في محبَّته للخالق - جل في علاه - وقُربه منه، يختلف بين إنسان وإنسان، وليس ذلك بسبب الجنس أو اللون أو الدِّين، بل في ماهية المعبود: أهو الله سبحانه وتعالى، الخالق الواحد الأحد المستحقُّ للعبادة، أم غيره من الآلهة التي يزيِّنها الشيطان لأوليائه وهي لا تملِكُ لهم ولا لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا؟!

ومعلوم للعقلاء أن النفس البشرية إن استجابت لنداء الفطرة، ستتجلى لها عظمةُ الله وقدرته، وسترى آلاءَه ونعمه التي لا تحصى، وستذوب في حبِّه ومناجاته، والمحروم هو مَن اتَّبَع هواه، وضل عن سبيل الله وعبَد غيرَه.

ويبيِّن ذلك ابن القيم - رحمه الله - فقال بتصرف ما مختصره: وأعرَفُ الأُمَّة به أشدهم له حبًّا؛ ولهذا كان المنكرون لحبه من أجهل الخلق به.. ثم قال: وهل في الوجود محبة حقٌّ غيرُ باطلة إلا محبته سبحانه؟ فإن كلَّ مَحبة متعلقة بغيره فباطلة زائلة ببطلان متعلقها، وأما محبته سبحانه، فهو الحقُّ الذي لا يزول ولا يبطل، كما لا يزول متعلقها ولا يفنى، وكل ما سوى الله باطل، ومَحبَّة الباطل باطلٌ.

فسبحان الله! كيف يُنكِر المَحبَّة الحقَّ التي لا محبة أحقُّ منها، ويعترف بوجود المحبة الباطلة المتلاشية؟ وهل تعلقت المحبة بوجود محدث إلا الكمال فى وجوده بالنسبة إلى غيره؟ وهل ذلك الكمال إلا من آثارِ صُنع الله الذي أتقن كل شيء؟ وهل الكمال كله إلا له، فكل من أحب شيئًا لكمالِ ما يدعوه إلى محبته، فهو دليل وعبرة على محبة الله، وأنه أَولى بكمال الحب من كل شيء.. ولكن إذا كانت النفوس صغارًا كانت محبوباتها على قدرها، وأما النفوس الكبار الشريفة، فإنها تبذُل حبَّها لأجلِّ الأشياء وأشرفها[15]؛ اهـ.

وبدهيٌّ أن من أحب شيئًا أطاعه، ورضي بقوله، وقدَّم محبته وما يرضيه على ما تحبه وتبغيه نفسه التي بين جنبيه، ولا عجب أن قال الصادق المعصوم مبلغًا عن الله تعالى في الحديث القدسي: ((ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجْله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطيَنَّه، وإن استعاذني لأُعيذَنَّه))[16].
يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 194.01 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 192.29 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.88%)]