المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اللغة العربية في مهب الريح (3)


ابوالوليد المسلم
19-09-2020, 05:13 AM
اللغة العربية في مهب الريح (3)



د. حسين نصار









اللُّغة قد يتصوَّر البعض منَّا أنَّها مُجرَّد أداة يُمكِن أن تستبدل، وأن يعوض عنها بشيء غيرها، وهي حقًّا أداة للفِكْر والتَّفاهم: أداة للتَّفاهم الحالي، وأداة للتَّفاهُم بين الأجيال المختلفة، ولكنَّها إلى جانب ذلك أداة للجمال؛ بل هي مادَّة خام للجمال، فإذا كان المثَّال يستخدم الرُّخام، أو ما شابهه ليصنع تمثالَه، فإنَّ الشَّاعر يستخدم الألفاظ ليصنع قصيدته التي نعجب بها، ومن ثمَّ فاللغة مادة خام، يُعطيها الشَّاعر الصور الجماليَّة المُختلفة التي تعجب النقَّاد، وهي إلى جانب ذلك رمز وجودها، فأنا لا أعرف عربيًّا لا يتكلَّم العربيَّة، ولا أعرف أجنبيًّا يتكلَّم العربيَّة إلاَّ إذا كان مستعمرًا، بل إنَّنا نعرف العرب الآن بأنَّهم من يتحدثون العربيَّة، وليس بأنَّهم من ينتمون بالعرق، أو الدم إلى الجنس العربي الذي كان يعيش في الجزيرة العربيَّة.



إذًا العربيَّة هي الشعار، وكما أنَّ الإنسان يحرص على شعارات هويته المختلفة، وكما أنَّ العَلَم رمز الوطن والسَّلام الوطني كذلك، فإنَّ اللغة العربيَّة أيضًا هي أحد الشعارات، وإذا كنت أستطيع أن أجلس مع صديق لي ونَتَسَامَرُ حول أشياء كثيرة جدًّا، لكنَّني لا أستطيع أن أسمع من أجنبِيّ سخرية بِعَلَمِي أو نشيدي الوطني، وكذلك يجب ألاَّ أسمح لإنسان بأن يسخر من لغتي العربيَّة أو يسخر من أنِّي أتكلَّم لغة سليمة.



والمثير أنَّ بعضَ أبناء العربيَّة يزعُمون أنَّ اللغة العربيَّة عاجزة عن أن تُعبِّر عن العُلُوم الحديثة والكشوف العلميَّة الحديثة، وأنَّ كل يوم من الأيام يأتي بجديد في المجال العلمي، ونحن نقول لهؤلاء، ماذا تعنون بهذا العَجْزِ؟ إنَّ العجز هو أن نعجز نحن عن أن نُعبر عن الفكر الذي نتلقَّاه, فاللغة الإنجليزيَّة أو الفرنسيَّة أو أي لغة أوروبيَّة إن لم يوجد فيها هذا الكشف فهي لا تُعبِّر عنه، ثُمَّ عندما يوجد هذا الكشف تبحث عن كلمة تُعبّر بها عنه، فإن لم تجد فيها بحثت في اللغة اليونانيَّة أو اللغة اللاَّتينيَّة؛ بل إنَّها أحيانًا تُرَكّب مقطعين من إحدى هذه اللُّغات فتصير الكلمة إنجليزيَّة أو فرنسيَّة فمثلاً كلمة تليفون مُركَّبة من "تلي" و"فون"، وتليفزيون مُركَّبة من "تلي" و"فيجن"، ورغم ذلك لا تقول اللغة الإنجليزيَّة إن هذه عناصر أجنبيَّة.



وأنا أضيف هنا أنَّ العرب في العصر العباسي واجهوا ما نُواجِهُهُ الآنَ، فعبَّرُوا بأشياءَ عربِيَّة كاملة، وبألفاظٍ ليستْ منَ العُرُوبة في شيء، فقالوا الجُغرافيا والفلسفة والمنطق، فالمنطق كلمة ليست عربيَّة، والجغرافيا ليستْ كلمة عربيَّة، ولكنها صارت عربيَّة، وهذا الذي يجب علينا أن نسلكه الآن، بمعنى ألاَّ نخشى من تعريب المُصطلح، وعندما نُنادي بتعريب العُلُوم فهذا ليس عن كراهية للُّغات الأجنبيَّة، وإنَّما عن حرص على أن تكون هذه العلوم في متناول الجميع، وليس في متناوَلِ العُلماء فقط، لأنَّنا لو جعلْنا الكيمياء في متناول عُلماءِ الكيمياء فقط، وكذلك الفيزياء والفلك، لَحَكَمْنا على هذه العُلُوم بالإعدام؛ لأنَّ مَنِ الذي يمول هذه العُلُوم؟ هم النَّاس العاديون، وهؤلاء الناس العاديون المفروض من خلال الديمقراطيَّة ألاَّ يُمولوا إلا ما يقتنعون بأنَّه شيء له قيمة تستحقّ التَّمويل؛ إذًا فالمجتمع هو الذي يكفل للعُلُوم المُختلفة البقاء والتَّجدد، وهذا المجتمع يجب أن نقدم له كل ما نستطيع من العلوم، ويجب أن تكون هذه العلوم باللغة العربيَّة، وإلاَّ فلن تكون قطعة من التَّفكير العربي.



ومعنى هذا أنَّنا لا نتكلَّم عن العُلماء؛ وإنَّما نتكلَّم عن مجتمع عربي كامل، أمَّا العلماء فقد يتكلَّمون فيما بينهم باللغات الأجنبيَّة، وقد يتكلَّمون بينهم باللغة العربيَّة، لكنَّهم عندما يكتبون ويعلِّمون يجب أن يكون ذلك باللغة العربيَّة؛ لماذا؟ لأنَّنا نعيش في مجتمع عربي، وكلّ الأقطار العربيَّة – كبيرة كانت أم صغيرة – لا تستخدِمُ إلاَّ لغتها في العلوم المختلفة. ولسنا هنا بصدد التَّعريب الكامل لكل المصطلحات، وإنَّما يمكن أن نستخدم في بعض المحاضرات مصطلحات لغة عربيَّة كاملة، ومصطلحات أجنبيَّة، وأنا أسمّيها لغة عربيَّة ما دامت تتحرَّى أن تتكلَّم باللغة العربيَّة، وبالتَّالي فاللغة العربيَّة إذا حكمنا عليها بالعجز عنِ استيعاب العلوم، فهذا عجز فينا نحن وليس في اللغة العربيَّة، لأنَّها في عصرٍ سابق استطاعت أن تؤدّي ما لم تؤدّه لغة أخرى.