أصناف الناس مع نعم الله - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-09-2020, 03:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي أصناف الناس مع نعم الله

أصناف الناس مع نعم الله

أحمد الجوهري عبد الجواد





إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
لا تَرْتَجِ الخلقَ؛ فالأبوابُ مُرْتَجَة ٌ
دون الحطام وباب الله مفتوحُ

والرّزقُ لو كان في أيدي الأنامِ أَبَوْا
أَنْ يشرَبَ الماَء مِنْ طُوفانِه نوحُ

لكنه في يدي من فضله أبداً
للطائعينَ وللعاصينَ مَمْنُوحُ


أما بعد.. فيا أيها الإخوة..
إن حقيقة التوحيد الذي يفلح صاحبه في الدنيا والآخرة هو تعليق القلب بالله ومعرفة أن الله هو المنعم على الحقيقة وأن يقطع العبد قلبه عن التعلق بالعباد فما العباد إلا أسباب يسخرهم الله تعالى وما من أحد تعلق بمخلوق إلا وخذل.

روى الترمذي بسند صحيح من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ» [1].

فيجب على كل مسلم -أيها الإخوة- أن يجعل الهموم همّاً واحداً ألا وهو إرضاء الله تعالى وإحسان ما يلاقيه به يوم معاده إليه ووقوفه بين يديه حتى يوقى السوء ويلقى الخير كما قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 97 - 104].

وفي الصحيحين عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» [2].

ومن سبل إرضاء الله التي غفل عنها كثير من الناس شكره على نعمه وذلك بإضافتها إليه قولاً واعترافاً أولاً واستخدامها في طاعته ثانياً وحمده وذكره بها ثالثاً وهكذا فالعبد يتقلب ليل نهار في نعم الله ومع ذلك قليلاً إن شكره -سبحانه وتعالى- على ما أنعم عليه من نعمة وما أسدى إليه من منة، ومن كان حاله كذلك -أيها الإخوة- كان إيمانه ناقصاً وتوحيده غير تام، فإن الشكر رأس الإيمان وهو مبني على ثلاثة أركان اعتراف القلب بنعم الله كلها عليه وعلى غيره، والتحدث بها والثناء على الله بها والاستعانة بها على طاعة المنعم وعبادته سبحانه.

فقم واشكر الله الكريم بنهضة إليهمْ، فشكرُ اللّهِ للخلق لاَزِمُ.
أيها الحبيب إن الفضل في كل ما تعمل وتذر هو لله رب العالمين ولو لم يقدرك الله ما قدرت ولو لم يعنك ما استطعت فمتى تعرف أنك به، ولو لم يكن لك فلن تكون؟ ومن عرف هذا فقد عرف نفسه وعرف ربه يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء ولا مني شيء ولا في شيء. وكان كثيرًا ما يتمثل: "أنا المكدِّي وابن المكدّي وهكذا كان أبي وجدي".

وكان إذا أثنى عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت وما أسلمت بعد إسلامًا جيدًا، قال ابن القيم: وبعث إلي في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقير إلى رب البرياتِ
أنا المسيكين فى مجموع حالاتي

أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي
والخير إن يأتنا من عنده ياتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعة
ولا عن النفس لى دفع المضرات

وليس لي دونه مولى يدبرني
ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي

إلا بإذن من الرحمن خالقنا
إلى الشفيع كما قد جاء في الآيات

ولست أملك شيئًا دونه أبدًا
ولا شريك أنا فى بعض ذرات

ولا ظهير له كي يستعين به
كما يكون لأرباب الولايات

والفقر لي وصف ذات لازم أبدًا
كما الغنى أبدًا وصف له ذاتي

وهذه الحال حال الخلق أجمهم
وكلهم عنده عبد له آتى


فأي ظلم أيها العبد يقع منك أعظم من أن يخلقك ربك من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم سواك رجلاً ورزقك من كل نعمة، وآتاك من كل ما سألته، ودفع عنك كل نقمة واستجاب لشكاتك وفرج كربك، ثم بعد هذا تحبس لسانك وجوارحك عن شكر نعمه، وربما تشكر غيره، إن هذا لهو النبأ العظيم أن ينزل خيره إليك متواتر، ولا يصعد منك إليه إلا الشر مستطيراً.

إن منا -أيها الإخوة- من إن شفاه الله وعافاه لا يذكر إلا مهارة الطبيب، وجهد الأولاد، ووفرة المال، وربما نظافة المستشفى وسرعة أداء الممرضات واختيار الحذاق من أصحابه لهذه المستشفى، وهكذا في سلسلة طويلة لا نمنع أبداً من الثناء عليها، لكن وللأسف ينسى في هذه السلسلة كلها أولها ومسببها وموجدها وخالقها صاحب النعمة الأولى والأخيرة في الشفاء ألا وهو الله الذي طببك قبل أن يطببك الطبيب، بل الذي هو فعلًا الطبيب وما الذي باشر الفحص والتشخيص إلا رفيق، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم والحديث أخرجه أبو داود وأحمد بسند صحيح عَنْ أَبِى رِمْثَةَ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ أَبِى فَرَأَى التي بِظَهْرِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ أُعَالِجُهَا لَكَ فإني طَبِيبٌ قَالَ «أَنْتَ رَفِيقٌ وَاللَّهُ الطَّبِيبُ». وفي رواية: طبيبها الذي خلقها"[3].

والأولى -أيها الإخوة- أن يجعل المسلم الحديث عن هذه الأسباب في ترتيبها الطبيعي ومكانها الصحيح وهو بعد رتبة فضل الله -عز وجل- فيقول: لولا الله ثم العلاج ما حصل الشفاء، ولولا الله ثم قوَّة الجيش لما حصل النصر.

وقد قال الله -عز وجل- مخبراً عن حال الكفار مع نعمه يحذرنا أن نكون مثلهم: ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ﴾ [النحل: 83] فمن نسب النعم إلى غير الله فقط مثنياً شاكراً فإنه مما ينافي كمال التوحيد ويشبه حال الكفار بالعزيز الحميد بل فيه إنكار لنعمة الله بنسبتها إلى غيره وهذا نوع من جحودها.

وفي الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الخدري قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في أَضْحًى - أَوْ فِطْرٍ - إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فإني أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ». فَقُلْنَ وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ». قُلْنَ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ». قُلْنَ بَلَى. قَالَ «فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ». قُلْنَ بَلَى. قَالَ «فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» [4].

وكفران العشير –أيها الإخوة- هو إنكار حسن عشرة الزوج لأجل موقف واحد كما في الرواية الأخرى "لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوما قالت: ما رأيت منك خيرا قط"[5]، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم جعل كفران المرأة عشرة زوجها يُدخلها النار فكيف بمن جحد وأنكر نعمة العزيز الغفار.

ومن أضاف النعمة إلى غير الله تعالى ومنعها أن يضيفها إلى الله تعالى فقد أساء وأساء عقله فهذا يتضمن قطع إضافة النعمة عمن لولاه لم تكن وإضافتها إلى من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن غيره.

وقد كان المشركون يقولون عن نعم الله تعالى عليهم: هذا بشفاعة آلهتنا والشفاعة شفاعة الآلهة المزعومة هذه ليست شيئاً شرعيّاً ولا قدريّاً حتى ينسب إليها رزق أو نعمة أو خير ولكنه الشرك طمس على قلوبهم فأضافوا نسبة النعم إلى غير أسبابها فالأمر في ذلك على ما قال الله تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10].

وفي الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجهني أَنَّهُ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ «هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «أَصْبَحَ مِنْ عبادي مُؤْمِنٌ بي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِى وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» [6].

قال شيخ الإسلام: والله تعالى يذم من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به وهذا كثير في الكتاب والسنة.

قال تعالى: {﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الواقعة: 82] قال الحافظ ابن كثير أي تكذبون بدل الشكر، فهذه النعم تستحق الشكر منكم وأنتم تجعلون حظكم ونصيبكم من النعم التكذيب والكفر بها بدل الشكر والمعرفة لها [7].

وهكذا يذم سبحانه من كذب بنعمه أو أنكرها وجحدها ونسبها إلى غيره -عز وجل- فما من نعمة في الأرض ولا في السماء إلا منه قال تعالى: "وما بكم من نعمة فمن الله" وقد قص الله علينا ما كان ممن أنكر نعمه كيف آلت حاله وانتهت عاقبته كما قال -عز وجل-: "﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ﴾ [الكهف: 32 - 44].

فليحذر المسلم أن تجري على لسانه هذه الكلمات وإن لم يقصدها بقلبه من مثل لولا الكلب لسرقنا ولولا الريح لسلمنا ولولا المطر ما كسرت قدمي ولولا سعيه وجده ما صار غنيّاً وهكذا، وليجعل فضل الله أول ما يطرأ على لسانه.

وإذا امتلأ القلب بهذه الحقيقة - أيها الإخوة - وهي أنه ما من شيء في هذا الملكوت إلا والله هو الذي يفتحه وأنه هو الذي يغلق ما يشاء وأن كل النعم من المنعم سبحانه وأن الناس والعباد مجرد أسباب في ذلك لأثمر ذلك فيه ثمرات يجد حلاوتها ألذ وأشهى من كل شيء ولتمنى أن تكون الجنة في مثل حلاوة ولذة هذه اللحظات والثمرات قال تعالى: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 2].

يقول صاحب الظلال: في هذه الآية الثانية من السورة صورة من صور قدرة الله التي ختم بها الآية الأولى. وحين تستقر هذه الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعًا.

إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السموات والأرض وتصله بقوة الله. وتيئسه من مظنة كل رحمة في السموات والأرض وتصله برحمة الله. وتوصد أمامه كل باب في السموات والأرض وتفتح أمامه باب الله. وتغلق في وجهه كل طريق في السموات والأرض وتشرع له طريقه إلى الله.

ورحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد؛ ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه، وتكريمه بما كرمه؛ وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته؛ وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير.

ورحمة الله تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح. ويجدها من يفتحها الله له في كل شيء، وفي كل وضع وفي كل حال، وفي كل مكان.. يجدها في نفسه، في مشاعره؛ ويجدها فيما حوله، وحيثما كان وكيفما كان. ولو فقد كل شيء مما يَعُد الناس فقده هو الحرمان.. ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حالة، وفي كل مكان. ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان!

وما من نعمة – يمسك الله معها رحمته – حتى تنقلب هي بذاتها نقمة. وما من محنة – تحفها رحمة الله – حتى تكون هي بذاتها نعمة.. ينام الإنسان على الشوك – مع رحمة الله – فإذا هو مهاد. وينام على الحرير– وقد أُمسكت عنه – فإذا هو شوك القتاد. ويعالج أعسر الأمور – برحمة الله – فإذا هي هوادة ويسر.

ويعالج أيسر الأمور – وقد تخلت رحمة الله – فإذا هي مشقة وعسر. ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي هوادة ويسر وسلام. ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار!

ولا ضيق مع رحمة الله. إنما الضيق في إمساكها دون سواه. لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك. ولا سعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء. فمن داخل النفس برحمة الله تتفجَّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة. ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة!

هذا الباب وحده يُفتح وتُغلق جميع الأبواب، وتوصد جميع النوافذ، وتسد جميع المسالك.. فلا عليك فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء.. وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع. وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء!

هذا الفيض يُفتح، ثم يضيق الرزق. ويضيق السكن ويضيق العيش، وتخشن الحياة، ويشوك المضجع.. فلا عليك. فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة. وهذا الفيض يمسك. ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء. فلا جدوى. وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء!

المال والولد، والصحة والقوة، والجاه والسلطان.. تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أُمسكت عنها رحمة الله. فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان.

يبسط الله الرزق – مع رحمته – فإذا هو متاع طيب ورخاء؛ وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة. ويمسك رحمته، فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-09-2020, 03:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أصناف الناس مع نعم الله



ويمنح الله الذرية – مع رحمته – فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله. ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء، وسهر بالليل وتعب بالنهار!

ويهب الله الصحة والقوة – مع رحمته – فإذا هي نعمة وحياة طيبة. والتلذذ بالحياة. ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يُسلِّطه الله على الصحيح القوي. فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح، ويدخر السوء ليوم الحساب!

ويعطي الله السلطان والجاه – مع رحمته – فإذا هي أداة إصلاح. ومصدر أمن. ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر. ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على قوتهما، ومصدر طغيان وبغي بهما، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار. ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بهما للآخرة رصيدًا ضخمًا من النار!

والعلم الغزير. والعمر الطويل. والمقام الطيب. كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال... مع الإمساك ومع الإرسال.. وقليل من المعرفة يثمر وينفع، وقليل من العمر يبارك الله فيه. وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة.

ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال. وجدها إبراهيم عليه السلام في النار. ووجدها يوسف عليه السلام في الجُب كما وجدها في السجن. ووجدها يونس – عليه السلام – في بطن الحوت في ظلمات ثلاث. ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور. فقال بعضهم لبعض: ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾ [الكهف:16]. ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار.. ووجدها كل من آوى إليها يأسًا من كل ما سواها. منقطعًا عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصدًا باب الله وحده دون الأبواب.

ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها. ومتى أمسكها فلا مرسل لها. ومن ثم فلا مخافة من أحد ولا رجاء في أحد. ولا مخافة من شيء، ولا رجاء في شيء، ولا خوف من فوت وسيلة، ولا رجاء مع الوسيلة إنما هي مشيئة الله. ما يفتح الله فلا ممسك. وما يمسك الله فلا مرسل، والأمر مباشرة إلى الله.. ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.. يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك. ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام. [8].

أيها الإخوة! "إنها دعوة حرّى لليقين بأن الله -عز وجل- هو مسبب الأسباب ومقدر الأقدار وهو المعطي المانع الضار النافع لا مضادة لأمره ولا معقب لحكمه ولا محادة لقضائه يفعل ما يشاء ويختار، وحين يتم هذا اليقين في قلب فلا يمكن أبدًا في لحظة من اللحظات أن ينسب نعم الله إلى من سواه الذين لا يعدون أيضا أن يكونوا من خلق الله[9].

أيها الإخوة! إن نعم الله على الناس واضحة بينة، يرونها ويحسونها ويلمسونها، ولكنهم ينسون فلا يذكرون.

وحولهم السماء والأرض تفيضان عليهم بالنعم، وتفيضان عليهم بالرزق؛ وفي كل خطوة، وفي كل لحظة فيض ينسكب من خيرات الله ونعمه من السماء والأرض. يفيضها الخالق على خلقه. فهل من خالق غيره يرزقهم بما في أيديهم من هذا الفيض العميم؟ وجواب المسلمين والكافرين عن هذا السؤال معروف وهو: لا، لا خالق إلا الله، فإذا لم يكن هناك خالق رازق غير الله، فما لهم لا يذكرون ولا يشكرون؟ وما لهم ينصرفون عن حمد الله والتوجه إليه وحده بالحمد والابتهال؟ إنه ﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ فكيف يصرفون عن الإيمان بهذا الحق الذي لا مراء فيه.. ﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾.. وإنه لعجيب أن ينصرف منصرف عن مثل هذا الحق، الذي يواجههم به ما بين أيديهم من الرزق. وإنه لعجيب أن ينصرف عن حمد الله وشكره من لا يجد مفرًّا من الاعتراف بذلك الحق المبين“[10].

ومن الناس -أيها الإخوة- من يرزقه الله -عز وجل- النعمة فيجعلها من نتيجة عمله وعاقبة جده وسعيه وينظر إلى نفسه باستحقاقها وأهليتها له.

كما قص الله علينا في القرآن في قصة قارون أنه قال: "إنما أوتيته على علم عندي" قال قتادةك أي علم بوجوه المكاسب.

وقال آخرون معناه: على علم من الله أنى له أهل وعلى شرف كما عنده، وكذب فإن المتفضل ابتداء وانتهاء هو الله رب العالمين.

وقال تعالى يتحدث عن هذا الصنف "﴿ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ [فصلت: 49 - 51].

وقد قص علينا الصادق المصدوق قصة ثلاثة من بني إسرائيل أنعم الله عليهم بعد حاجة وأعطاهم بعد فقر ليبتليهم ويختبر إيمانهم فكانت عاقبة من شكر فضل الله الزيادة وعاقبة من جحدها ونسبها إلى نفسه الخسران والبوار والكساد ففي الصحيح عن أبي هريرة أنه سمع رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ ثَلاَثَةً فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى بَدَا لِلَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ. فَقَالَ أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ. قَالَ فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ، فَأُعْطِىَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا. فَقَالَ أَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الإِبِلُ - أَوْ قَالَ الْبَقَرُ هُوَ شَكَّ فِى ذَلِكَ، إِنَّ الأَبْرَصَ وَالأَقْرَعَ، قَالَ أَحَدُهُمَا الإِبِلُ، وَقَالَ الآخَرُ الْبَقَرُ - فَأُعْطِىَ نَاقَةً عُشَرَاءَ. فَقَالَ يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا. وَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّى هَذَا، قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ. قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ، وَأُعْطِىَ شَعَرًا حَسَنًا. قَالَ فَأَي الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْبَقَرُ. قَالَ فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلاً، وَقَالَ يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا. وَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ أي شيء أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ يَرُدُّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِى، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ. قَالَ فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ. قَالَ فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْغَنَمُ. فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ، وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بِىَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بالذي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ في سفري. فَقَالَ لَهُ إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ. فَقَالَ لَهُ كَأَنِّى أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ. فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَقْرَعَ فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ. وَأَتَى الأَعْمَى فِى صُورَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِىَ الْحِبَالُ فِى سفري، فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بالذي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا في سفري. فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِى، وَفَقِيرًا فَقَدْ أغناني، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بشيء أَخَذْتَهُ لِلَّهِ. فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» [11].

فعلى المسلم أن يتحرز في ألفاظه ويتحرى في كلماته، ولذلك حال متى بلغها الإنسان استطاع ذلك التحرز والتحري بيسر وسهولة، فمتى يكون ذلك؟
نكمل الحديث عن هذه النقطة بعد جلسة الاستراحة هذا وأستغفر الله لي ولكم.
♦♦♦♦♦


الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.

أما بعد، فيا أيها الإخوة!
على المسلم أن يتحرز في ألفاظه ويتحرى في كلماته ومثل هذا التحرز والتحفظ لا يصدر إلا عن قلب معظِّم مُجِلٍ مخبتٍ لله -جل وعلا-، يعلم أن ربه هو ولي الفضل وهو وحده وليُّ الإنعام وهو يستحق أن يُجَلَّ فوق كلِّ جليل وأنْ يُحبَ فوق كل محبوب، وأنْ يُعظم فوق كل معَظمَّ وهذا يوجب توقيره وتعظيمه بالألفاظ.

وعلى المسلم الذي امتلأ قلبه بالتوحيد أن يعلم أن الله هو المستحق للعبودية وهو المستحقُّ للشكر وللإجلال وحده؛ فالعباد فقراء مذنبون، وأن طاعاتِ العباد وأعمالَهم – مهما عظمت أو جلت – لا تفي لحظة بأصغر نعمةٍ أسْبغها الله وخوَّلها لعبيده.فها هو الصدِّيق يُعلِّمُه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في آخر صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي»[12]. فإذا كان مِثلُ أبي بكر الصديق علمًا وعملا وجهادا ودعوة ونصرةً للنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا فكيف بحال المساكين أمثالنا؟ كيف يظنون أنهم يستحقون على الله شيئًا؟![13] نسأل الله أن يسترنا وألا يؤاخذنا بذنوبنا وأن يرحمنا وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدًا.

وعلى المسلم أن يخرج من الحول والقوة وأن يبرأ منهما ويعلم يقيناً أن كل خير هو فيه فإنما هو من الله وأن ما به من نعمة فهي من الله سواء كان بواسطة خلق من خلقه أو بلا واسطة.

وعلى المسلم أن يشكر نعم الله عليه بالجنان واللسان والأركان.

وعلى المسلم أن يتخلَّص من رؤية نفسه، وأن يعلم أنه لاحول ولا قوة إلا بالله، فلذا كانت هذه الكلمة كنزٌ من كنوز الجنة، روى عَنْ أَبِى مُوسَى الأشعري -رضى الله عنه- قَالَ لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْبَرَ - أَوْ قَالَ لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- - أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهْوَ مَعَكُمْ». وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فسمعني وَأَنَا أَقُولُ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَقَالَ لي «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ». قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فِدَاكَ أَبِى وأمي. قَالَ «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» [14].

وعلى الموحد أن يحاول تَخْليصَ قلبه ولسانه من الألفاظ للاعتقادات الباطلة من ظن المرء أنه يستحق أشياء على الله -جل وعلا-؛ فالتوحيد هو أن يكون العبد ذليلاً خاضعًا بين يدي الله، ويوقن أنه لا يستحق شيئًا على الله، وإنما هو محض فضل الله يؤتيه من يشاء، فالعباد أحوج ما يكونون إلى الاعتراف والعلم بأسماء الله وبصفاته وبآثار ذلك في ملكوته وفي ربوبيته – جل وعلا – على خلقه، وأن يعبدوه حق عبادته [15].

فالزم يا عبد الله عتبة الحمد، احمد الله على كل نعمة ودقق النظر إن أخطأت الشكر والحمد على النعم فيمن أصيبوا من أصحاب الأسرة البيضاء من أصحاب الملازمة للفراش، وانظر لنفسك، انظر إلى تاج الصحة على رأسك في حين أصيب قوم في نفوسهم في أجسامهم أو في عقولهم وآخرون في أبنائهم وسل الله تعالى العافية وهؤلاء كثير في العالم من حولنا لكننا لا نحس بالمرض إلا إذا حل بنا وللأسف فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

أما أن ينسب العبد فضل الله الذي أنعم به عليه إلى غيره، أو يزعم أن الله آتاه النعمة لاستحقاقه ذلك وجدارته به وأحقيته وأهليته له يرى نفسه له مستحقاً وجديراً فهذه حال الكافرين ولذا كانوا يعبدون أبناءهم إلى آلهتهم كعبد عمرو وعبد الكعبة وعبد العزى وعبد يا ليل وهكذا كما قال -عز وجل-: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الأعراف: 189، 190]

واستطرادا أقول: هذه الآية - أيها الإخوة!- أشكل فهمها على كثير من الناس، فظنوا - وأخطأوا - أن النفس الواحدة هي آدم والزوج التي خلقها الله منها هي حواء، وجعلوا الإشراك في الولد قد وقع من آدم وحواء، واتبعوا فى ذلك بعض الأحاديث المنكرة والروايات المكذوبة التي تخبر أن آدم وزوجه حواء سميا ابنهما عبد الحارث، يقولون: والحارث هذا اسم إبليس وهو تعبيد للابن إلى إبليس يقولون: وإنما فعلوا ذلك لأن إبليس هددهما إن لم يفعلا ذلك قتله أى قتل الولد وهذا خطأ بل الصحيح أن هذه الآية وهذا الكلام في المشركين من جنس ولد آدم فالحديث فى الآية هوعن كل ذكر وكل أنثى من جنس بني آدم وهذا قد وقع فعلًا كما أخبر الله -عز وجل- في المشركين الذين عبدوا أبناءهم لغير الله تعالى.

ولا يزال في المسلمين للأسف الشديد من يشابه الكافرين في هذه العادة المرذولة فيسمون أبناءهم عبد النبي وعبد الرسول وهناك من يسمي عبد المسيح وعبد علي وعبد الحسين وعبد المهدي وعبد المطلب وهذا كله حرام وعلى من كان اسمه كذلك يا عباد الله أن يسعى في تغييره فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير الأسماء القبيحة إلى أسماء حسنة وكثير منها لم يكن شركاً فكيف بما نعلم يقيناً أنه شرك؟ هو أولى بلا شك بالتغيير.

وهناك من الإشراك في نعمة الولد صور غير هذه منها:
أن ينسب نعمة الولد إلى غير الله إيجادًا وخلقًا، وهذا كفر لأنه إثبات خالق مع الله وهو يدخل في الآية.
أو أن يضيفوا سلامة الولد إلى الطبيب أو القابلة وهذا أيضًا من الإشراك.
أو أن يقدم الأبوان محبة الولد على محبة الله[16].
أو يحدث أن يطيع الوالدان أولادهما في معصية الله كما قال بعض السلف وهو قتادة إن من الإشراك بالله الإشراك في الطاعة بمعنى أن من أطاع الأولاد في معصية الله وجعلهم ندّاً لله في المحبة وقدم محبتهم على محبة الله، فإن ذلك من الإشراك بالله، فلا ينبغي -أيها الإخوة- للمسلم أن يسخط ما وهبه الله كما يفعل أهل الجاهلية، بل يحمد الله على نعمة الولد ولا ينسبها إلى غيره كائنا من كان، ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها، إذا بُشِّرت بمولود لم تسأل إلا عن صورته لا عن ذكوريته وأنوثته، وأن تسمية الولد وتعبيده لغير الله – كما يفعله الجهلة – هو من جعل المشركين لله -عز وجل- شركاء فيما آتاهم.

وحقيق على من أنعم الله عليهم بالأولاد، وكمل الله له النعمة بهم بأن جعلهم صالحين في أبدانهم ودينهم أن يشكروا الله على إنعامه وأن لا يعبِّدوا أولادهم لغير الله، أو يضيفوا النعم مما سوى ذلك لغير الله، فإن ذلك كفران للنعم منافٍ للتوحيد."[17].

وهكذا حال وأصناف الناس مع نعم الله تعالى نسأل الله أن نكون ممن شكروا نعم الله عليهم وأن يوفقنا إلى المزيد من الشكر، اللهم كم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك عندها شكرنا وكم من بلية ابتليتنا بها قل لك عندها صبرنا فيا من قل عند نعمائه شكرنا فلم يحرمنا، ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يطردنا اجعلنا لنعمائك من الشاكرين وعند بلائك من الصابرين... اللهم اغمرنا بنعيم الإيمان وعافية الأبدان وبركات الإحسان اللهم ارزقنا عند لقاك رضاك... الدعاء.


[1] أخرجه الترمذي (2327) والحاكم (1 / 408)، وهو في الصحيحة"6 / 676.

[2] أخرجه البخاري 7443، ومسلم 2395.

[3] أخرجه أبو داود (2 / 195) وأحمد (2 / 226 - 227)، وانظر"السلسلة الصحيحة"4 / 51.

[4] أخرجه البخاري 304.

[5] أخرجه مسلم (79) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، و (80) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[6] أخرجه البخاري (846) وأخرجه مسلم (71).

[7] تفسير ابن كثير - (7 / 544).

[8] في ظلال القرآن - (5 / 2923).

[9] عون العلي الحميد (2/ 229).

[10] الظلال (5/ 2921).

[11] أخرجه البخاري (3464) و (6653)، ومسلم (2964).

[12] أخرجه البخاري (8387) و (7388) ومسلم (2705).

[13] التمهيد لشرح كتاب التوحيد - (2 / 197).

[14] رواه البخاري (6610) ومسلم (2704).

[15] التمهيد لشرح كتاب التوحيد - (2 / 197).

[16] عون العلي الحميد (2/ 325).

[17] القول السديد (ص 122، 123)، بتصرف.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 93.93 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 91.75 كيلو بايت... تم توفير 2.18 كيلو بايت...بمعدل (2.32%)]