صيحة نذير - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216270 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7843 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 67 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859879 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 394225 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 94 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 71 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 31-08-2020, 03:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي صيحة نذير

صيحة نذير


أحمد الجوهري عبد الجواد






إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أغر عليه من نور النبوة خاتم
من نور يلوح ويشهدُ

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذن أشهدُ

وشق له من إسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمدُ


أما بعد، فيا أيها الإخوة، إن من أجل العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه هي العمل بشريعته سبحانه عند الاتفاق والتراضي، والتحاكم إليها عند الاختلاف والتنازع، فهو برهان الإيمان وعلامة توحيد الرحمن، ولذا نفى الله -تبارك وتعالى- الإيمان عمن لم يفعله، مقسماً على ذلك كما في قوله جل جلاله: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].

فتعالوا بنا -أيها الإخوة- نطوف سويّاً حول هذا الموضوع الجليل، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف نحدد الحديث في العناصر التالية:
أولاً: هذا ديننا.
ثانياً: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.
ثالثاً: ورقة عمل ما هو واجب المسلمين تجاه تحكيم شريعة رب العالمين؟

أولاً: هذا ديننا:
أيها الإخوة! يتأسس دين الإسلام من جزأين رئيسين: عقيدة تؤسس بنيانه وتقعد أركانه، وشريعة تحدد مسيرة المؤمنين به وتنظم شئونهم، وابتداء أقول: ليس هذا قضاء بتقسيم الدين إلى قسمين، كما أنه ليس فصلا بين حقائقه، فإن الدين كل لا يتجزأ وهو كالبنيان المرصوص لا ينفصل جزء منه عن جزء، بل نسبة الشريعة إلى العقيدة كالثمرة التي تخرج من الزرع فلا هي بدونه تخرج، ولا هو من غيرها يصلح، وقد أحسن من قال: إن الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة، تنظم هذه الشريعة كل شئون الحياة ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم فليس هذا تقسيمًا للدين أو فصلًا بين حقائقه، وليس هذا كذلك من التوهين لمكانة الشريعة، فالعقيدة والشريعة الكل يرجع في النهاية إلى الأخذ بالدستور القويم والوحي المحفوظ المنزل، المتمثل في القرآن الكريم وبيانه في سنة النبي العظيم. والقرآن كل لا يتجزأ، وتعاليمه وأحكامه مترابطة متكاملة، بين بعضها وبعض ما يشبه الوحدة العضوية بين أعضاء الجسم الواحد، فبعضها يؤثر في بعض، ولا يجوز أن يفصل جزء أو أكثر منها عن سائر الأجزاء، فالعقيدة تغذي العبادة، والعبادة تغذي الأخلاق، وكلها تغذي الجانب العملي والتشريعي في الحياة، ولا يسوغ في منطق الإيمان ولا منطق العقل أن يقرأ المسلم قول الله تعالى في سورة البقرة: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، فيقول: سمعنا وأطعنا، ولكنه إذا قرأ في نفس السورة قوله سبحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178] قال: سمعنا وعصينا!!

ولماذا؟ لأن الآية الأولى في مجال العبادات، والأخرى في مجال العقوبات!
ومعنى هذا أن الإنسان أصبح معقبًا لحكم الله تعالى، يأخذ منه ويدع، ويقبل منه ويرد، بهواه وحده، والله لا معقب لحكمه.

ولا يسوغ في منطق الإيمان ولا منطق العقل أن يأخذ المسلم من سورة البقرة آية الكرسي: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255].

ولا يأخذ منها آية: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278، 279]. لأن آية الكرسي في الإلهيات، وآيات الربا في المعاملات!!

ومثل ذلك يقال فيمن يقبل من سورة المائدة قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ....... ﴾ [المائدة: 6].

ويرفض من السورة قوله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: 38].

ويقرأ قوله تعالى: ﴿ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [الحج: 78]، فيقول: آخذ الصلاة ولا آخذ الزكاة، لأن الصلاة شعيرة روحية خالصة، أما الزكاة ففريضة تتعلق بالمال والاقتصاد، فأنا أقبل ذلك، ولا أقبل هذه"![1]


يا لله العجب! هل غدا العبد أعلم من ربه؟ أو بات المخلوق أعلى من خالقه؟!!
إنه لم يعد حينئذ ندًّا لله فحسب، بل زاد على ذلك، فجعل من نفسه محكمة عليا للتمييز، أو للنقض والإبرام، فينقض ما شاء له عقله أو هواه أن ينقض من أحكام الله، ويبرم ما شاء له أن يبرم!

إن الشيء المؤكد الذي لا خلاف عليه، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة ـ بمعنى أنه لم يعد في حاجة إلى إقامة أدلة عليه، لأنه مما يشترك في معرفته الخاص والعام ـ أن تعاليم القرآن كلها واجبة التنفيذ، ولا فرق فيها بين ما يسمى "روحيًّا" وما يسمى "ماديًّا"، ما يعتبر من "شئون الدين" وما يعتبر من "شئون الدنيا"، ما يتعلق بحياة "الفرد" وما يتعلق بحياة "الجماعة".

أيها الإخوة! إن هذه التسميات والعناوين لا وجود لها في كتاب الله تعالى، ولا توجد فوارق معتبرة بين بعضها وبعض، ما دامت كلها في دائرة أمر الله سبحانه أو نهيه.

ومن فتح المصحف وقرأ سورة الفاتحة، ثم شرع في سورة البقرة، وجد أول ما يطالعه وصف المتقين المهتدين بكتاب الله بأنهم: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]، فقرن بين الجانب الاعتقادي "الإيمان بالغيب"، والجانب الشعائري "إقامة الصلاة"، والجانب الاقتصادي "الإنفاق مما رزق الله".

وهكذا نجد أوصاف المؤمنين وأهل التقوى والإحسان، في سائر سور القرآن لا تفرق بين جانب وجانب.

ومثل ذلك نجده في الأوامر والنواهي والوصايا القرآنية، مثل: الوصايا العشر في سورة الأنعام: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ........ ﴾ [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات.

ووصايا الحكمة في سورة الإسراء: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا....... ﴾ [الإسراء: 23].

فهذه الآيات كلها أيها الإخوة! تجمع بين العقيدة والعبادة والخلق والسلوك، مما يتعلق بالدين وما يتعلق بالدنيا، وما يتعلق بالفرد أو بالأسرة أو بالمجتمع، في سياق واحد، ونسج واحد لا ينفصل بعضه عن بعض، ولا يتميز بعضه عن بعض.

وأحيانًا يستخدم القرآن صيغة واحدة في طلب الأمور التي يعتبرها الناس مختلفة باختلاف مجالاتها، مثل قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178]، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180]، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216].

فهذه صيغة واحدة: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ﴾ وهي تفيد تأكيد الوجوب والفرضية استعملت في القصاص وهو في القانون الجنائي، وفي الوصية وهي من الأحوال الشخصية وشئون الأسرة، وفي الصيام وهو من شعائر العبادات، وفي القتال وهو من شئون العلاقات الدولية.. وكلها مما كتبه وفرضه على المؤمنين.[2].


ولذا كان ما أقدم عليه المسلمون في هذا الزمان من تنحية شريعة ربهم، وتحكيم أهوائهم وعقولهم في حكم الحياة كما يشاءون، وما راحوا ينتهجون من طرق ومناهج الحكم التي تصطدم اصطدامًا مباشرًا مع ما يؤمنون به من الإسلام، ليحكموا بها أنفسهم، إنما هي نكبة ورزء لم يصب الإسلام وأهله قبل بمثله، فهلا أفاق المسلمون وابتدروا الرجوع قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون، فلا يستطيعون الحياة الهانئة في الدنيا، بعيدًا عن الذلة التي فيها يحيون، ولاهم يوم القيامة من الفالحين، بما تجرؤوا على أحكام الله فعطلوها وقوانين لأعدائه فأعملوها، هم بسببها يوم القيامة من المقبوحين!!

أيها الإخوة! إن أعظم ما تعانيه الأمة من أمراض وعلل على الإطلاق لا يضارع في خطره وشدة مصابه تعطيل شريعة الله، وما أحوج العالم كله، وليس المسلمين فحسب، إلى تنسم الحياة الهانئة يوم ترفرف راية الله على سمائهم، وذلك يوم يعملون بأوامره، ويقفون عند زواجره، ذلك يوم يحكمون كتابه، أما أن يضيعوا الكتاب ويغيبوا الشريعة عن ساحة الحياة فوا أسفاه على بني الإنسان العقلاء وعلى ملايين المسلمين منهم على وجه الخصوص.

إن تحكيم الشريعة والتحاكم إليها فريضة من أعظم الفرائض المضيعة التي تقف وراءها كل فريضة، والقضية التي تتضاءل بجوارها كل قضية. بل هي كما وصفها أحد العلماء بأنها – ونعم ما قال- القضية الأم، ولله در الإمام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- إذ يقول: "اعلم أن الشريعة أصل، والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع" [3].


هذا هو ديننا عقيدة وشريعة وهذه هى مكانة الشريعة فى دين الاسلام، فلا تقدموا بين يدي الله ورسوله.

وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء أيها الإخوة:
ثانياً: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.
قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 60 - 65].

ففي هذه الآيات إنكار شديد على من يرغبون ويميلون إلى التحاكم إلى غير الله -عز وجل-، وإخبار بأن ذلك شأن الكافرين والمنافقين لا شأن المسلمين المؤمنين ولذلك نفى الله -تبارك وتعالى- الإيمان عنهم إلا أن يرجعوا فيحكموا الرسولr ويذعنوا وينقادوا ويرضوا بحكمه.

يقول الحافظ ابن كثير: "والآية ذامة لكل من عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل" [4].


أيها الإخوة.. إن مقتضى الإيمان:
الإذعان والانقياد لأوامر ونواهي الله ورسوله، وأن لا يقول المسلم ولا يفعل إلا ما دله عليه الكتاب والسنة وهذا هو الأمر الذي أمرنا الله -تبارك وتعالى- به منبهاً في الوقت ذاته على خطورة مخالفته فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: 1]

فأمر الله -تبارك وتعالى- بأن لا نقدم بين يديه ويدي رسوله r قال علماؤنا: ومعنى قوله تعالى: "لا تقدموا بين يدى الله ورسوله" أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، ولا تقولوا قولاً ولا تعملوا عملاً قبل قول الله وقبل قول وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الأمر يحمل التحذير من مخالفته والتنبيه على خطورته فقد سمت الآية مخالفة الكتاب والسنة تقديمًا على الله ورسوله كأن الذي ذهب يعمل بخلاف أحكام الله ورسوله قد جعل من نفسه ربّاً أو من هواه إلهاً فاتبعه على التحليل والتحريم كما قال الله تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً" وقال: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23]

فلابد للمسلم إن كان صادقاً حقاً أن ينقاد لأوامر الله ورسوله وأن يخضع ويسلم ويذعن لكل ما يقتضيه عقد الإيمان والإسلام فهذا هو المحك العملي الحقيقي الذي يتبين به الوفاء بمقتضى هذا العقد أو نقضه من أساسه، فلا يمكن لأحد أن يدعي الإسلام دون الانقياد لأوامر العزيز المتعال، والانقياد -أيها الإخوة- هو إسلام الوجه لله تعالى كما عبر عنه القرآن الكريم فقال: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزمر: 54].

وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ [لقمان: 22].

﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِأي ينقاد لله جل جلاله ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾: أي وهو موحد لله جل جلاله ومعنى فقد استمسك بالعروة الوثقى: العروة الوثقى هي لا إله إلا الله.

وقال الله -عز وجل-: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ [لقمان: 22].

وما نجح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما أفلحوا إلا يوم صار الانقياد لأوامر الله تعالى ديدنهم حتى صار لهم سجية أن يسمع الواحد منهم الأمر أو النهي فيستبق إلى العمل ويسارع في تلبيته وإجابته ولذا أثنى الله عليهم بفضل ذلك منهم كما قال سبحانه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]. وكما قال سبحانه: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]

وكما قال سبحانه يخفف عنهم ويرفع عنهم الإصر والأغلال وعن هذه الأمة بفضل انقيادهم واستجابتهم لأوامره كما في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284] قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا أَىْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ». ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ في إِثْرِهَا ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285] فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عز وجل- ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286] قَالَ نَعَمْ ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ قَالَ نَعَمْ ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ قَالَ نَعَمْ ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ قَالَ نَعَمْ[5].


نعم -أيها الإخوة- إن أول مظاهر الانقياد وأول براهين العقد الذي به يصح الإسلام أن يطيع المسلم الله ورسوله فيما أمر وأن ينتهي عن كل ما نهى الله ورسوله عنه وزجر وأن يسلم لحكم الرسول الذي هو حكم الله و يرضى به وهذا هو صريح الآية ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65] يقول بعض المفسرين: يقسم الله سبحانه بذاته العلية أنه لا يؤمن مؤمن حتى يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الإسلام والإيمان.. فلتنظر نفس أين هي من الإسلام؟؛ وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان! [6].


وفي البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، إِلاَّ مَنْ أَبَى». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» [7].


فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلًا، وأن يكره ما يكرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها كان ذلك فضلا، فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله فيرضي ما يرضي الله ورسوله ويسخط ما يسخط الله ورسوله ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض [8].


ولا شك أن من مظاهر الانقياد - أيها الإخوة - قبول شرع الله - عز وجل - ورفض ما سواه فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله والدين ما شرعه الله على لسان رسوله فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط.

أيها الإخوة! إن من قال لا إله إلا الله يجب أن يعلم أن الحكم لله وحده وليس من حق فرد أو هيئة أو مجلس أو دولة أن تشرع للبشر من دون الله - عز وجل - فما الخلق إلا خلق الله وما دام الخلق له ولم يكن له شريك فيه وإذا كان هو الذي يرزق الناس وإذا كان هو سبحانه القائم بتدبير نظام هذا الكون وتسيير شئونه، ولم يكن له في كل ذلك من شريك وإذا كان هو -سبحانه وتعالى- وحده الذي يستحق أن يعبد بلا منازع أو شريك فهو وحده صاحب الحق في التشريع والحكم ولا مبرر مطلقاً لأن يكون أحد شريكاً له في هذا الجانب، فينبغي على العبد أن يلزم حده وأن يعرف قدره وأن لا يطغى ويجاوز حدوده ويتعدى على شئون وخصوصيات ربه فإنها الهلكة وإذا كان رجل ممن كان قبلنا أخطأ فقال كلمة لكنها كلمة عبرت عما في قلبه من كبير الكبر وعظيم البطر والأشر تجاوز بها هذا العبد حده وتدخل بها في شئون ربه فأوبقت دنياه وأخراه فما بالنا بمن غيروا حكم الله وبدلوا شرعه ونحوا قضاءه ووضعوا بدلاً من دين الله الحق قانوناً وضعيّاً هزيلاً حكموه في الأعراض والأموال واسمع الى خبر هذا الهالك ينبيك عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما فى الحديث الذى رواه أبوداود وصححه الألباني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ رَجُلاَنِ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ مُتَآخِيَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ أَقْصِرْ. فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ أَقْصِرْ فَقَالَ خَلِّنِي وَرَبِّى أَبُعِثْتَ عَلَىَّ رَقِيبًا فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقُبِضَ أَرْوَاحُهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا في يَدِى قَادِرًا وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَقَالَ لِلآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ [9].


فهذا رجل تكلم بكلمة فما بالك بمن نحى دستور السماء ووضع بدل منه زبالة أفكار اليونان والفرنسين والانجليز كأنه يقول هذا خير لكم من هذا؟
فهل هذا هو الانقياد لأحكام الله التي تقتضيه كلمة لا إله إلا الله؟ أم هو التناقض مع ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان؟ راح البشر يشرعون من عقول مهازيلهم تشريعات يضاهئون بها شرع الله وينحون بها أمره وحكمه، بل رميت الشريعة بالعجز والضعف والقصور والجمود وأنها لم تعد قادرة على مواكبة ومسايرة روح العصر... إلى قوله وفي جميع شئون حياتها". [10].


وأود أن أشير هنا إلى أمر جدير بالتنبيه ألا وهو أن فهمًا خاطئًا أو تحريفًا متعمدًا ينصب دومًا على لفظ الشريعة ولاسيما إذا أطلق نداء التطبيق لأحكامها؛ إذ يتصور البعض أو يصورون أن تطبيق الشريعة هو فقط تنفيذ الحدود الجنائية والصحيح أن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يقف عند حد إقامة الحدود، فليس التشريع في الإسلام محصورًا في الحدود والعقوبات، "إن التشريع في الإسلام ينظم العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأسرته، وبين الإنسان ومجتمعه، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الأغنياء والفقراء، والملاك والمستأجرين، وبين الدولة الإسلامية وغيرها في حالة السلم وحالة الحرب، فهو قانون مدني وإداري، ودستوري ودولي …… إلخ إلى جانب أنه قانون ديني.

ولهذا اشتمل الفقه الإسلامي على العبادات والمعاملات، والأنكحة والمواريث، والأقضية والدعاوى، والحدود والقصاص والتعازير، والجهاد والمعاهدات، والحلال والحرام، والسفر والآداب، فهو ينظم حياة الإنسان من أدب قضاء الحاجة للفرد إلى إقامة الخلافة والإمامة العظمى للأمة.

ولا نقول هذا هروبًا من الإقرار بأن للحدود فى الشريعة منزلتها ومكانتها، فإن الحدود كما شرعها الإسلام هي السياج الحارس للمحارم، وهي الإعلان الناطق بأن المجتمع المسلم يرفض جرائم معينة، ولا يسمح بها بحال من الأحوال.

والحدود - كما شرعها الإسلام - ليست بالبشاعة التي يتصورها بعض الناس أو يصورها المبشرون والمستشرقون ومن يركب مركبهم وينهج منهجهم، من علمانيينا ومتغربينا من المتنكرين لدينهم المنسلخين من زي قومهم إلى عباءة أعدائهم العفنة القذرة.

ولقد صار هنالك انتشار لهذا الفهم الخاطئ الذي نشأ لأجل هذا التبشيع الناشئ أصالة عن نظرة خاطئة انتقلت إلى بني قومنا تبعًا لنظرة الغربيين لعقوبات الحدود، والغربيون يستبشعون هذه العقوبات لسببين:
أنه لم تكتمل بعد نشأة شعوره الخلقي، فهو بينما كان يعد الزنا من قبل عيبًا وهجنة إذ به الآن لا يعتبره إلا لعبًا وسلوة، يعلل به شخصان نفسيهما ساعة من الزمن! ولكنه إذا ارتقى شعوره الخلقي والاجتماعي وعلم أن الزنا سواء كان بالرضا أو بالإكراه، وكان بامرأة متزوجة أو باكرة، جريمة اجتماعية في كل حال تعود مضارها على المجتمع بأسره.

أن حضارة الغرب قد قامت على إعانة (الفرد) على (الجماعة) وتركبت عناصرها بتصور مغلو فيه للحقوق الفردية، لذلك مهما كان من ظلم الفرد واعتدائه على المجموع، فلا ينكره أهل الغرب، بل يحتملونه غالبًا بطيبة نفس، ولكنه كلما امتدت إلى الفرد يد القانون حفظًا لحقوق الجماعة، اقشعرت منه جلودهم خوفًا وفزعًا، وأصبح كل نصحهم وتحمسهم بحق الفرد دون الجماعة.

إن الإسلام يشدد في إثبات الجريمة تشديدًا غير عادي، وخصوصًا في جريمة الزنا، ومن ثم إذا ثبتت لا يتهاون في إنزال العقوبة المقررة على فاعلها وحكمته في ذلك ما أوضحنا وهي حكمة لا تقوم لها تعليلات الغرب في المأخذ عليها ولعل هذا يطمئن القلوب الفزعة والنفوس الهلعة إلى تشريع الحكيم الخبير إن كان لايزال فيهم بعض عقل يسوقهم إلى الحق بتفكيرهم من غير تبعية لغيرهم.

إن المطالبة بتطبيق الشريعة لا يختص بالحدود وحدها ولكنه نداء لتطبيق الشريعة جمعاء في كل شئون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومنها كفاية الناس من الإفلاس بحمل ضعيفهم وإعانة محتاجهم وسد حاجة فقيرهم وكفاية معوزهم، كل ذلك قبل أن ينظر في عقوبة فلا قطع يد ولا جلد ظهر فاعقلوا عباد الله.

ومن هنا -أيها الإخوة- كان للشريعة بركاتها ونتائجها الطيبة التي يحصدها كل من التزم بها ويجر التخلي عنها آثار سيئة لا حدود لسوئها.

أيها الإخوة إنّ التزام المسلمين بأحكام شرعهم الحنيف ودينهم القويم هو أساس فلاحهم وعنوان سعادتهم وسبب عزهم ونصرهم على أعدائهم، وهو مصدر أمنهم واستقرارهم. ومتى كانت حالهم بعكس ذلك حصل لهم الخسران والهلاك والذل والهوان. وقد أقسم الله بالعصر على خسارة كل إنسان إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وكتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مليئان بالنصوص التي توضح هذه الحقيقة، وما سجله التاريخ من حصول العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه يصدق ذلك، والواقع المشاهد المعاين أصدق برهان.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 31-08-2020, 03:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صيحة نذير



قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ (آل عمران: 101)، وقال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 40، 41].

هكذا قال الله في حق من أطاعه واتقاه والتزم شرعه وهداه، ولنستمع لما قاله في حق من زهد بالحق واستبدل الأدنى بالذي هو خير، فأعرض عن ذكر الله، يقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ (طـه: 127)، ويقول سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهو لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ (الزخرف:37).

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ فقال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".[11].


وقد حوى التاريخ في طياته أخبار انتصار المسلمين الصادقين على أعدائهم وتغلبهم عليهم ليس لكثرة عددهم وعددهم وإنما هو بسبب قوة إيمانهم وتمسكهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم مع الأخذ بالأسباب التي أمرهم الله بها بقوله: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ (الأنفال: 60)، فظفروا بنصر الله لأنهم نصروه وجاهدوا في سبيله لتكون كلمته هي العليا، وكلمة أعدائه السفلى، فكان لهم ما أرادوا نصرًا في الدنيا وسعادة في الآخرة، وصدق الله إذ يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ (محمد: 7)، ويقول: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ (آل عمران:160).

وإذا أراد العاقل في هذا العصر الذي نعيش فيه معرفة الشاهد من الواقع على صدق هذه الحقيقة، وهي أن المسلمين ينتصرون بسبب التزامهم شريعة الإسلام التي اختارها الله لهم وينهزمون عند زهدهم فيها وبعدهم عن الأخذ بتعاليمها لم يجد شاهدًا أوضح من نتائج الحرب بين العرب واليهود التي تجلت فيها هذه الحقيقة بوضوح ذلك أن العرب الذين أعزهم الله بالإسلام لما لم يلتزموا في هذا العصر - إلا من شاء الله منهم - بشرع الله، ولم يحكموا الوحي الذي نزل به جبريل من الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واختاروا لأنفسهم التحاكم إلى قوانين وضعية ما أنزل الله بها من سلطان، لما لم يلتزموا بهذه الشريعة الكاملة الصالحة لكل زمان ومكان ظفروا بالخذلان وصارت لهم الذلة أمام من كتب الله عليهم الذلة، وأي ذل وهوان أشد من هذا الذل والهوان، وسيسجل التاريخ ذلك للذين يأتون من بعد، كما سجل ما جرى من خير وشر للذين مضوا من قبل، ولن يقوم للمسلمين قائمة إلا إذا رجعوا إلى الاعتصام بالله والالتزام بشريعة الله [12].


ولقد ظهر ذلك جليًّا واضحًا لما عادت تلك الشعوب إلى باريها وراعيها -سبحانه وتعالى- وراجعوا أخطاءهم وأفاقوا من سباتهم فرجعت دعاتهم واعظة مذكرة وعادت شعوبهم آيبة تائبة واعترفت رئاساتهم بالتقصير والتفريط فنصرهم الله تعالى كما حدث في انتصار العاشر من رمضان، ولكنهم عادوا اليوم فنكسوا تلك الرايات البيض وأبدلوا تلك الشارات الحسنة ويوم يعودون ويثبتون على شرع ربهم تحل عليهم بركات الله من السماء والأرض ويأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومن حيث لا يحتسبون ولا يشعرون ولا يقدّرون، فإن للعمل بالشريعة المطهرة بركات لا تحصى، فأول ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- قد أناط خير الدنيا بتطبيق شريعته.

قال تعالى عن أهل الكتاب: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 66]، وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا أنها تنسحب علينا أيضًا، وقال أيضًا سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96] ولا شك أن المؤمنين يصدقون بوعد الله ويعلمون يقينًا أن خير الدنيا والآخرة في اتباع مرضاته.

وإذا كان ثم من يكذب بهذا الوعد ولا يرى رابطًا وسببًا بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم، وبين نزول المطر ووفرة الزراعات ورواج االتجارات، فإن ثمة روابط مادية أيضًا يشاهدها كل ذي بصر من مؤمن وكافر بين هذا وذاك، فالصلاة والصيام تربية وتزكية لضمير الفرد وتوجيه له نحو البر والإحسان، ومحبة الخير للناس، ولا شك أن من هذا صفته أجاد صناعته وزراعته، ولم يغش في تجارته، ولم يقبل رشوة إن كان موظفًا، وحافظ على الأموال العامة من الضياع، ولا شك أن مجتمعًا تكون عامته وأكثريته على هذا النحو سيكون مجتمعًا للرخاء والثروة وزيادة الإنتاج. ولا شك أيضًا أن في إخراج الزكاة أعظم فائدة لنماء الأموال والقضاء على الثورات والشحناء التي تشل الاقتصاد وتوصل البلدان إلى الخراب والدمار.

وفضل الحج وهو عبادة في التقريب بين الشعوب الإسلامية لا ينكر ومع التقريب تحصل المودة وتتبادل المنافع التجارية والصناعية والزراعية، والعالم كله يسعى إلى إقامة مؤتمر كالحج تنتفي فيه الفروق بين البشر ولا يستطيع، وهذا في العبادات وأما المعاملات فهي أبلغ من ذلك لأنها تستهدف أصلًا رفع الظلم وإقامة العدل في الأرض، ولا شك أن الظلم يتبعه الخراب، وأن العدل يتبعه الرخاء والنماء. فلماذا لا تكون إقامة شريعة الله، تعني انفتاح البركات وزيادة الخيرات.

ولا شك أيضًا عند كل ذي لب من مؤمن وكافر أن إقامة الحدود أعني العقوبات الشرعية هي من أكبر أسباب زيادة الخيرات والبركات فقطع يد السارق يعني المحافظة على الأموال وخروجها من المخابئ ليعمل بها في التجارات والزراعات والصناعات، لأن رأس المال جبان -كما يقولون- فإذا توفرت له الحماية خرج، وإذا انتشرت اللصوصية والظلم اختبأ أو هرب، ولا شك أيضًا أن قتل القاتل ردع عن هذه الجريمة المسببة لخراب العمران وتقطيع أو صال المجتمعات، وناهيك بتنفيذ حد الزنا حيث يقطع دابر البغاء، وإنفاق الأموال في غير وجهها، ويقطع الطريق على إنجاب أولًا:د الزنا الذين هم آفة المجتمعات، فالطفل الذي ينشأ لا يعلم له أبًا يمتلئ قلبه بالحقد والكراهية للمجتمع، ولا شك أنه يظلم الناس إذا وجد الفرصة لذلك. ولهذا كان عامة المنحرفين والمجرمين من هؤلاء.

والمجتمع الإسلامي الذي يظهر على هذا النحو من النظافة والطهر لا شك أنه سيكون مجتمع الخير والبركة والنماء. فلماذا ننكر إذن أن يكون هناك رابط وسبب مباشر تراه كل عين ويفقهه كل قلب بين تطبيق الشريعة المطهرة وبين الرخاء المادي والسعادة الدنيوية. وصدق الله القائل: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]. ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إقامة حد في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحًا"[13][14]


لكن ورغم كل هذا أضاع المسلمون شريعة ربهم كأسهل شيء عليهم يضيعونه وفرطوا فيها كأي شيء سهل عليهم التفريط فيه فيا حسرة على العباد.

إن تصور أمة محمد صلى الله عليه وسلم تتحاكم إلى غير شريعة الله لهو أمر مذهل... وأمر بشع.. لا يخفف من بشاعته عموم البلوى ولا ثقل الأمر الواقع!
كيف تخلت هذه الأمة عن رسالتها وعن تميزها الذي ميزها الله به؟
هل أخرج الله هذه الأمة لتكون في ذيل القافلة تلهث وراء الركب؟
وهل أخرجها لتبهم شخصيتها، تصبح مقلدة بل مشوهة من الجاهلية.
ألم يخرجها لتكون قائدة ورائدة وشاهدة على كل البشرية؟

كما قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

وكما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].

وهل تستطيع أن تحقق شيئًا من ذلك حين تتخلى عن شريعة الله وتنتهج شرائع الجاهلية.

إنما أخرج الله هذه الأمة لأمر أعظم من هذا بكثير أخرجها لتكون هي النموذج الذي تحتذيه البشرية لتهتدي إلى ربها، وتطبق منهجه في الأرض فتنال خير الدنيا وخير الآخرة، وتنال رضوان الله.

وذات يوم حققت الأمة ذلك النموذج الفذ في عالم الواقع ولن تعود إلى التمكين والقوة حتى تعود إلى السبب الذي مكنها من قبل.﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات... ﴾. ولن يعبدوه حق عبادته عبادة خالية من الشرك حتى يلتزموا بتطبيق شريعة الله.﴿ فلا وربك لا يؤمنون...[15] فالتزام شرع الله، وترك شرع ما سواه، هو من مقتضى لا إله إلا الله‏.‏

وكذا كل صغير من أمر المرء وكبير لا بد أن يكون على وفق أمر الله ونهيه سبحانه لا على هوى الإنسان ووفق مراده، ولكن الإنسان يأتي عليه ساعة يتكبر فيها ويتجبر ويظن بنفسه القوة والقدرة على أن يكون مستغنيًا عن السير على أوامر الله فيمضي بعيدًا عنها ليختار لنفسه من المناهج ما شاء وليسن له ولمن ارتضى ما يصنع والذين يتبعونهم على نهجهم قوانين غير قوانين الله ظنًّا منه أنه إنما يفعل ما هو من جملة مستحقاته، ونسي أنه إنما هو عبد مسكين فقير للنفس الذي يخرج منه أن يعيده إليه رب العلمين سبحانه وما أجمل ما عبر عن ذلك شاعر الإسلام الحكيم محمد إقبال –-رحمه الله تعالى- إذ يقول:
الحب ذو العصف والريحان ينبته
من ظلمة الطين رب الحب والطينِ

والغيم من لج الأمواج يرفعه
إلى السموات سلطان السلاطينِ

يسوق للزهر أنسامًا تهيجه
فيرسل الزهر أنغام البساتينِ

للشمس من نوره طوق يزينها
وللندى نسب من حوره العينِ

فقل لصاحب تاج يدعيه له
أفقْ فإنك مسكين المساكين


أيها الإخوة! إن الله تعالى إنما أنزل الكتاب ليعمل به و بعث الرسول ليقتدى به، فأي ادعاء للإنسان يصح إذا ما انفك عن العمل بما جاءه به الرسول، ثم يقول أنا متبع له، بل أي إيمان له يحق إذا كان يقول إنه مؤمن بالله ثم يمضي ليختار لنفسه نهجًا غير الذي به أمر وشرعًا دون ما إليه أرشد؟! يقول صاحب التحرير والتنوير: "إنّ مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل، ليس مجرّد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوّق لدَقائق تراكيبه، بل مراد الله تعالى ممّا شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه"[16].


لقد خلق الله الجن والإنس لعبادته وأداء حقه سبحانه فيها، وقد فسر العلماء رحمهم الله العبادة بمعان من أجمعها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذ يقول:
العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهذا يدل على أن العبادة تقتضي: الانقياد التام لله تعالى، أمرًا ونهيًا واعتقادًا وقولًا وعملًا، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله، يحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله، ويخضع في سلوكه وأعماله وتصرفاته كلها لشرع الله، متجردًا من حظوظ نفسه ونوازع هواه، يستوي في هذا الفرد والجماعة، والرجل والمرأة، فلا يكون عابدا لله من خضع لربه في بعض جوانب حياته، وخضع للمخلوقين في جوانب أخرى، وهذا المعنى يؤكده قول الله تعالى:﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.

وقوله -سبحانه وتعالى-: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾.

وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به»[17].


يقول سماحة العلامة ابن باز -رحمه الله تعالى-: "فلا يتم إيمان العبد إلا إذا آمن بالله ورضي حكمه في القليل والكثير، وتحاكم إلى شريعته وحدها في كل شأن من شئونه، في الأنفس والأموال والأعراض، وإلا كان عابدا لغيره، كما قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ فمن خضع لله سبحانه وأطاعه وتحاكم إلى وحيه، فهو العابد له، ومن خضع لغيره، وتحاكم إلى غير شرعه، فقد عبد الطاغوت، وانقاد له، كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 60].

والعبودية لله وحده والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه، من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، فالله سبحانه هو رب الناس، وإلههم، وهو الذي خلقهم وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحييهم ويميتهم، ويحاسبهم ويجازيهم، وهو المستحق للعبادة دون كل ما سواه قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ فكما أنه الخالق وحده، فهو الآمر سبحانه، والواجب طاعة أمره.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 31-08-2020, 03:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صيحة نذير


لقد بيّن الله تعالى أن الحكم بغير ما أنزل الله حكم الجاهلين، وأن الإعراض عن حكم الله تعالى سبب لحلول عقابه، وبأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين، يقول سبحانه: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 49] ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ والقارئ لهذه الآية والمتدبر لها يتبين له أن الأمر بالتحاكم إلى ما أنزل الله، أكد بمؤكدات ثمانية:
الأول: الأمر به في قوله تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾.
الثاني: أن لا تكون أهواء الناس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأي حال من الأحوال وذلك في قوله: ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهواءَهُمْ ﴾.

الثالث: التحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير، والصغير والكبير، بقوله سبحانه: ﴿ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾.

الرابع: أن التولي عن حكم الله وعدم قبول شيء منه ذنب عظيم موجب للعقاب الأليم، قال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾.

الخامس: التحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله، فإن الشكور من عباد الله قليل، يقول تعالى: ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾.

السادس: وصف الحكم بغير ما أنزل الله بأنه حكم الجاهلية، يقول سبحانه: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ ﴿ يَبْغُونَ ﴾.

السابع: تقرير المعنى العظيم بأن حكم الله أحسن الأحكام وأعدلها، يقول -عز وجل-: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا ﴾.

الثامن: أن مقتضى اليقين هو العلم بأن حكم الله هو خير الأحكام وأكملها، وأتمها وأعدلها، وأن الواجب الانقياد له، مع الرضا والتسليم، يقول سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾.

وقد قال ابن عباس -رضي الله عنه- لبعض من جادله في بعض المسائل: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر).

ومعنى هذا: أن العبد يجب عليه الانقياد التام لقول الله تعالى، وقول رسوله، وتقديمهما على قول كل أحد، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة.[18].


إن الفساد الذي يستشري في الناس الآن لهو بسبب المعاصي والذنوب ومن أولها إبطال شريعة رب العالمين يقول ابن القيم -رحمه الله- في قوله -عز وجل-: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 56]: قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في ألأرض بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره قال تعالى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس وقال عطية في الآية ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وقال غير واحد من السلف: إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم وتقول اللهم العنهم فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والأتباع لرسوله ليس إلا وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه وبالأمر بتوحيده ونهي عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله، ومن تدبير أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله وكل شر في العالم وفتنة وبلا وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله [19].


والسؤال الآن -أيها الإخوة-: ما هو واجب المسلمين اليوم إزاء هذه القضية الخطيرة في حياة الإسلام؟
وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء ونلتقي به بعد جلسة الاستراحة أسأل الله أن يحفظ علينا شريعتنا وأن يعيد إلينا عزتنا.
♦♦♦♦


الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.

أما بعد، فيا أيها الإخوة! ثالثا: ورقة عمل: ما هو واجب المسلمين اليوم نحو القيام بتحكيم شريعة رب العالمين؟
والجواب في نقاط محددة: أولًا: ما هو واجب المسلمين اليوم إزاء هذه القوانين الوضعية الجائرة وهم ملزمون في بلادهم بالتحاكم إليها، يرزحون تحت نيرها وتئن بلادهم من ظلماتها؟
والجواب عن هذه النقطة: "الواجب عليهم شرعًا أن يتحاكموا إلى من يحكم بينهم بحكم الكتاب والسنة من علمائهم – وإن لم يكن لهم القوة المادية لإلزام الناس بالأحكام أو لتطبيق كل أحكام الشريعة – إلا أن قوة إيمان المسلم تدفعه للقبول بحكم الشرع … وإذا وقف المسلم مضطرًا أمام هذه المحاكم الوضعية فعليه أن يدعوهم، ويأمرهم أن يحكموا له بحقه الشرعي فقط. وكذلك من ترافع أمام هذه المحاكم لدفع الظلم عن مسلم أو رفعه، فعليه أن يطلب مثل ذلك. ومن يطلب هذا الحق لنفسه أو لغيره من المسلمين فلا جناح عليه، لأنه لم يأمر إلا بمعروف."[20].


ثانيا: ما هو واجب المسلمين ودورهم تجاه العمل لتحكيم شريعتهم؟ وأقول واجب المسلمين فهو واجب وفرض لازم وهو واجب المسلمين كل المسلمين بلا استثناء.

يقول العلامة الألباني -رحمه الله تعالى-: لا بد لكل جماعة مسلمة من العمل بحق لإعادة حكم الإسلام ليس فقط على أرض الإسلام بل على الأرض كلها وذلك تحقيقًا لقوله -تبارك وتعالى-: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]. وقد جاء في بعض بشائر الأحاديث النبوية أن هذه الآية ستتحقق فيما بعد، فلكي يتمكن المسلمون من تحقيق هذا النص القرآني والوعد الإلهي فلا بد من سبيل بين وطريق واضح [21].


إذا ما هو المنهج؟ وما هو الطريق؟
والجواب: الطريق سهلة واضحة فهي كما يقول العلامة الألباني: "لا شك أن الطريق الصحيح هو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدندن حوله ويذكر أصحابه به في كل خطبة: "وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم"[22] فعلى المسلمين كافة - وبخاصة منهم من يهتم بإعادة الحكم الإسلامي - أن يبدؤوا من حيث بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما نوجزه نحن بكلمتين خفيفتين: (التصفية والتربية) ومعناهما: أن نبدأ - وجوبًا - بما بدأ به الرسول عليه الصلاة والسلام (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). ولكن بماذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

من المتيقن أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعوة بين الأفراد الذين كان يظن فيهم الاستعداد لتقبل الحق ثم استجاب له من استجاب من أفراد الصحابة - كما هو معروف في السيرة النبوية - ثم وقع بعد ذلك التعذيب والشدة التي أصابت المسلمين في مكة ثم جاء الأمر بالهجرة الأولى والثانية حتى وطد الله -عز وجل- الإسلام في المدينة المنورة وبدأت هناك المناوشات والمواجهات وبدأ القتال بين المسلمين وبين الكفار من جهة ثم اليهود من جهة أخرى... هكذا.

إذًا لا بد أن نبدأ نحن بتعليم الناس الإسلام الحق كما بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام لكن لا يجوز لنا الآن أن نقتصر على مجرد التعليم فقط فلقد دخل في الإسلام ما ليس منه وما لا يمت إليه بصلة من البدع والمحدثات مما كان سببًا في تهدم الصرح الإسلامي الشامخ فلذلك كان الواجب على الدعاة أن يبدؤوا بتصفية هذا الإسلام مما دخل فيه هذا هو الأصل الأول: (التصفية).

وأما الأصل الثاني: فهو أن يقترن مع هذه التصفية تربية الشباب المسلم الناشئ على هذا الإسلام المصفي، فلا نزال نسمع من كثير من المسلمين العقائد المخالفة للكتاب والسنة والأعمال المنافية للكتاب والسنة فضلًا عن تكرارهم تلك المحاولات الفاشلة المخالفة للشرع، وهناك كلمة لأحد الدعاة طيبة هي: (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم)، لأن المسلم إذا صحح عقيدته بناء على الكتاب والسنة فلا شك أنه بذلك ستصلح عبادته وستصلح أخلاقه وسيصلح سلوكه... الخ.

ثالثا: فلنحكم الإسلام في شؤننا الخاصة:
أيها الإخوة! إن الشريعة لا يمكن أن تطبق تطبيقًا حقيقيًّا إلا إذا قام على تطبيقها أناس يؤمنون بقدسيتها، وربانية مصدرها، وعدالة أحكامها، وسمو أهدافها، ويتعبدون لله بتنفيذها، وهذا يجعلهم يحرصون على فهمها فهمًا دقيقًا، وعلى فقه أحكامها ومقاصدها فقهًا عميقًا، ويتفانون في تذليل العقبات أمامها، كما يحرصون على أن يكونوا صورة طيبة لمبادئها، وأسوة حسنة لغير المقتنعين بها، يراهم الآخرون في إيمانهم وأخلاقهم وسلوكهم، فيحبون الشريعة لما يرون من أثرها في حياتهم. وهكذا كان الصحابة والمسلمون الأوائل - رضي الله عنهم - أحب الناس الإسلام بحبهم، ودخلوا فيه أفواجًا، متأثرين بأخلاقهم وإخلاصهم، فقد كان كل منهم قرآنًا حيًّا يسعى بين الناس على قدمين. إن عيب كثير من التجارب العاملة لتطبيق الشريعة الإسلامية، التي كانت موضع المؤاخذة والتنديد من الناقدين والمراقبين: أنها نفذت بأيدي غير أهلها، أعني غير دعاتها ورعاتها. أي على أيدي أناس كانوا من قبل في صف المناوئين لها، أو على الأقل، من الغافلين عنها، غير المتحمسين لها، والملتزمين بها.

إن الرسالات الكبيرة تحتاج إلى حراس أقوياء، من رجالها وأنصارها يكونوا هم المسئولين الأوائل عن وضع قيمها وتعاليمها النظرية موضع التنفيذ، وبغير هذا يكون التطبيق أمرًا صوريًّا لا يغير الحياة من جذورها، ولا ينفذ بالإصلاح إلى أعماقها.

أيها الإخوة! إن تطبيق الشريعة ليس عمل الحكام وحدهم، وإن كانوا هم أول من يطالب بها، باعتبار ما في أيديهم من سلطات تمكنهم من عمل الكثير من الأشياء التي لا يقدر عليها غيرهم، وقد كان بعض السلف يقولون: لو كانت لنا دعوة مستجابة لدعوناها للسلطان، فإن الله يصلح بصلاحه خلقًا كثيرًا. وهذا كان في عصر لم يكن زمام التعليم، والإعلام، والتثقيف، والتوجيه، والترفيه بيد السلطان كما هو اليوم.

ومع هذا نقول: إن على الشعب مسؤولية تطبيق الشريعة في كثير من الأمور التي لا تحتاج إلى سلطان الدولة وتدخل الحكام.

إن كثيرًا من أحكام الحلال والحرام، والأحكام التي تضبط علاقة الفرد بالفرد، والفرد بالأسرة، والفرد بالمجتمع، قد أهملها المسلمون أو خالفوا فيها من أمر الله، وتعدوا حدود الله، ولن يصلح حالهم إلا إذا وقفوا فيها عند حدود الله تعالى، والتزموا بأمره ونهيه بوازع من أنفسهم، وشعورهم برقابة ربهم عليهم.

ويجب على الدعاة والمفكرين والمربين أن يبذلوا جهودهم لتقوم الشعوب بواجبها في تطبيق ما يخصها من شرع الله، ولا يكون كل همها مطالبة الحكام بتطبيق الشريعة، وكأنهم بمجرد أن يرفعوا أصواتهم بهذه المطالبة قد أدوا كل ما عليهم.

هذه إلماحة سريعة عن الطريق إلى تحكيم الشريعة وكيفية إعمالها ونوجز الوسائل الى ذلك فى نقاط كما يلى:
1- البدء بما بدء به النبي صلى الله عليه وسلم من تعليم الناس الإسلام الحق الصافي من البدع والمحدثات.
2- تربية الشباب المسلم الناشئ على هذا الإسلام المصفى.
3- تحكيم الإسلام فى الشؤن الخاصة من الحلال والحرام وغيرها مما لا دخل للسلطان فيه.

أيها الإخوة.. إن الحكم بغير ما أنزل الله يوجب غضب الله وينزل مقته وعقابه ولن تعود الأمة إلى سالف عزها ومجدها إلا بالعودة إلى الله وتحكيم شرعه، فإننا جنس لا يصلح أبدا بغير دين ولا نستعلي ونعز إلا بعقيدة، وعقيدة التوحيد تقتضي وجوب تحكيم الشريعة والعمل بأحكام الشريعة الإسلامية في جميع مناحي الحياة، وإن قوما يرددون القول بعدم صلاحية الشريعة لزماننا لأنها نازلة فى بيئة عربية بدائية لأفاكون كذبة.

إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان قادرة على حل مشاكلها التي تحياها والتي ستكون إلى قيام الساعة كما لا يقدر قانون على وجه المعمورة أن يحلها سواها، شهد بذلك الوحي وشهد بذلك التاريخ وشهد بذلك المنصفون حتى من رجال القانون الوضعي وحتى من غير المسلمين وشهد بذلك الواقع الذي نعيشه، الوحي شهد بأن هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع (ولكن رسول الله وخاتم النبيين)، ما دامت هذه الشريعة ليس بعدها شريعة معناها أنها صالحة لكل زمان ومكان ثم إنها شريعة عالمية ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107] فهي شاملة مكانًا وزمانًا وشانًا لأنها أيضًا تشمل كل شؤون الحياة، فالوحي شهد لها، التاريخ أيضًا شهد لها، نحن لو تتبعنا التاريخ الإسلامي نجد أن المسلمين عندما يعملون بالشريعة ويطبقونها تطبيقًا صحيحًا يكونون أسعد ما يكونون، يزدادون قوة على قوة وينتصرون على أعدائهم، تتوحد كلمتهم ويشعرون بالرخاء والازدهار في حياتهم، إذا ابتعدوا فالمد والجزر والامتداد والانكماش والازدهار والذبول والنصر والهزيمة والسعادة والشقاء مرتبطان بمدى الاقتراب من الشريعة الإسلامية أو البعد عنها، فهذا ما سجله التاريخ ولذلك أعظم فترات التاريخ هي الفترات التي نرى فيها أناسًا يحسنون تطبيق الشريعة الإسلامية مثل عهد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز، نور الدين محمود الشهيد، صلاح الدين الأيوبي، وهكذا، فنجد عهد هؤلاء يحصل النصر والازدهار والقوة والوحدة، هذا التاريخ يقول لنا.

الواقع يقول لنا أيضًا أن المؤتمرات العالمية شهدت لهذه الشريعة بالخصوبة وبالتميز مثل مؤتمر لاهاي في سنة 1937م ومؤتمر باريس للحقوق الدولية سنة 1951م وحضر أناس مثلوا الشريعة الإسلامية في هذه المؤتمرات، ثم الواقع يقول لنا، بدراستنا نحن للشريعة نجد هذه الشريعة والحمد لله تضمنت أفضل المبادئ وأرسخ القواعد وأدق التشريعات لصلاح الفرد وصلاح الأسرة وصلاح المجتمع وصلاح الأمة وصلاح الدولة وصلاح الإنسانية، ونحن لا نقول هذا مجرد كلام عاطفي، هذا كلام أُلِّفت فيه الكتب وقامت عليه أدلة وقُدِّمت فيه دراسات وأطروحات للماجستير وللدكتوراه بالمئات، سواء في الجانب القانوني البحت أو الجانب الاقتصادي أو الجانب السياسي، قدمت مئات الأطروحات من هذه الناحية وأجازتها الجامعات، ورجال القانون الوضعي أيضًا يشهدون بهذا[23].


وأبشركم -أيها الإخوة- لقد بدأ التشريع في شرق العالم وغربه يقترب من التشريع الإسلامي في المئات من المسائل حتى بات لا يختلف كثيرًا عنه، وأحيانًا يكاد يتطابق معه.

في نظام المواريث الإسلامي، وفي نظام الطلاق الحر، وتعدد الزوجات ونظام العدة بالنسبة للمرأة المطلقة، والذمة المالية للمرأة، وتحريم تعاطي الخمور ومحاربتها التي صارت سياسة عامة، ونظام تقنين التأمين الاجتماعي الذي بدأه الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا وبدأه العالم في نهاية القرن التاسع عشر، وفي الاقتصاد العالمي الذي يسجل نجاحًا مطردًا بقدر ما يقترب من الاقتصاد الإسلامي الذي وضع أسسًا للتعامل الاقتصادي يمارسها العالم اليوم، وغيرها من الأمور الكثير التي تثبت أن العالم في مسيره يتجه نحو التشريع الإسلامي [24].


فقد صحا العالم وأفاق وتنبه إلى أن التشريع الإسلامي فيه صلاح حاله وسلامة وضعه فسعى إلى الاقتباس منه لكنه إلى الآن لا زال لم يفق كامل الإفاقة ليعرف أن الإسلام صالح للحال والمآل ولكي يكون ذلك لا بد أن يدخله كافة وأن يعمل بأحكامه جمعاء والمسلمون أولى الناس بضرب المثل والقدوة والأسوة للغرب في ذلك فهلا فعلوا.

اللهم انصر الإسلام وأعز أهله اللهم أيدنا بالإسلام وأيد الإسلام بنا، اللهم يا ولى الإسلام وأهله مسكنا بالإسلام حتى نلقاك، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويحكم فيه كتابك وسنه نبيك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، يا مجيب الدعاء.


[1] ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده (ص)، للعلامة القرضاوي.

[2] ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده (ص)، الدكتور يوسف القرضاوي.

[3] الاقتصاد للغزالي ص 199، وينسب إلى أمير المؤمنين علي، انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/200).

[4] تفسير ابن كثير - (6 / 380).

[5] أخرجه مسلم (126).

[6] الظلال 2/697.

[7] أخرجه البخاري 7280.

[8] فتح المجيد 398.

[9] أخرجه أبو داود 4901، وصححه الألباني في المشكاة (2347 / التحقيق الثاني).

[10] حقيقة التوحيد ص 28-131

[11] أخرجه البخاري 6851، من حديث أبي هريرة.

[12] لزوم التزام المسلم بأحكام الشريعة الإسلامية.

[13] أخرجه النسائي (4905)، من حديث أبي هريرة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3130).

[14] وجوب تطبيق الحدود الشرعية (ص)، لفضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.

[15] تطبيق الشريعة (ص 27).

[16] التحرير والتنوير (3/58).

[17] أخرجه البغوي في شرح السنة (1/ 98)، وقال النووي في أربعينه: "هذا حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح"، لكن ضعفه الألباني في ظلال الجنة 15، و المشكاة 167، وانظر رسالة العبودية لشيخ الإسلام.

[18] وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه ص (6 - 14)، لسماحة العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-، بتصرف كثير.


[19] بدائع الفوائد - (3 / 525).

[20] فضل الغني الحميد تعليقات على كتاب التوحيد: ص 171 – 172.

[21] فتنة التكفير (ص 13وما بعدها).

[22] أخرجه مسلم 1435.

[23] المجتمع المسلم الذي ننشده (ص)، للدكتور القرضاوي.

[24] انظر كتاب مسيرة العالم نحو التشريع الإسلامي للدكتور حافظ يوسف.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 134.78 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 132.14 كيلو بايت... تم توفير 2.64 كيلو بايت...بمعدل (1.96%)]