سفينة النجاة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 29-08-2020, 04:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي سفينة النجاة

سفينة النجاة


أحمد الجوهري عبد الجواد






﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
صلى عليه الله ما جنَّ الدُّجى ♦♦♦ وما جَرَتْ في فَلَكٍ شمس الضحى

أما بعد فيا أيها الإخوة:
إن من تمام توحيد العبد ربه أن يصبر على أقدار الله تقرباً إلى الله ورجاء لثوابه وخوفاً من عقابه فيطمئن القلب ويقوى إيمان العبد وتوحيده ويقينه، وهذا هو أحد أنواع الصبر التي أرشد الله إليها ورسوله وورد في الكتاب والسنة فضل أهله وثوابهم وما لهم في الآخرة من الأجر الجزيل والثواب العظيم.

فتعالوا بنا - أيها الإخوة - لنشنف الآذان ونمتع الأسماع ونرقق القلوب ببعض أخبار الصبر وأحاديثه وآثاره في النفس والواقع.

وكما تعودنا فسوف ننظم سلك هذا الموضوع في العناصر المحددة التالية:
أولاً: ما هو الصبر وما أقسامه؟
ثانياً: فضل الصبر ومكانته.
ثالثاً: كيف يوفق العبد لتحصيل فضل الصبر ويكون من الصابرين؟

فأعيروني القلوب والأسماع - أيها الإخوة - والله أسأل أن يحفظنا بعينه التي لا تنام، وأن يكلأنا بكلئه الذي لا يرام ولا يضام.

أيها الإخوة.. أولاً: ما هو الصبر وما أقسامه؟
أحبتي! الصبر لغة: الكف والحبس، واصطلاحاً هو: حبس القلب عن الجزع وحبس النفس عن التسخط وحبس اللسان عن التشكي وحبس الجوارح عن فعل ما يغضب الله عز وجل.

ولذلك قال الله عز وجل لنبيه: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: الصبر الجميل هو ما لا شكوى فيه إلى أحد غير الله تعالى، وأخرج عن عبد الأعلى بن الحجاج أنه قال: الصبر الجميل هو ما يكون معه صاحب المصيبة في القوم حيث لا يُدرى من هو.

وقال علي رضي الله عنه: إن من إجلال الله ومعرفة حقه أن.. لا تشكو وجعك.. ولا تذكر مصيبتك.

وقال الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة.. وما شكوت ذلك لأحد..

يقول صاحب الظلال: "الصبر الجميل هو الصبر المطمئن الذي لا يصاحبه سخط ولا قلق ولا الشك في صدق الوعد، صبر الواثق من العاقبة، الراضي بقضاء الله وقدره، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء، الموصول بالله المحتسب لكل شيء عنده مما يقع به".[1]

ولذلك - أيها الإخوة - لا ينال أجر الصبر إلا من حفظ قلبه ولسانه وجوارحه عن الشكوى لغير الله أما الشكوى لله فلا حرج فيها على الإطلاق.

لأن التحقيق - أيها الإخوة - أن الشكوى نوعان: شكوى إلى الله وشكوى من الله، أما الشكوى إلى الله تعالى فلا بأس على صاحبها أبداً ولا مؤاخذة عليه فيها، كيف وقد لجأ إليها أنبياء الله ورسله وصحابة النبي والصالحون من أمته؟.

كما قال الله عز وجل عن نبيه أيوب عليه السلام: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ [ص: 41].

وكما قال الله عز وجل عن نبيه يعقوب عليه السلام: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 86].

وقال عن نبيه نوح عليه السلام: ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ﴾ [القمر: 10، 11].

وقال عز وجل عن نبينا صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30] فهذه أيها الأحباب شكوى إلى الله وهي رجاء ودعاء ورغبة، كما قال أيضاً عز وجل عن زكريا عليه السلام: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 3 - 6].

ولذلك قال تعالى عنه وعن زوجه: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 89، 90].

لا بأس على الإطلاق أن يلجأ العبد إلى هذا بل هو الحق والهدى أن يلجأ إلى الله ويرغب إليه ويناديه ويناجيه.

طرقت باب الرجاء والناس قد رقدوا
وبت أشكو إلى مولاي ما أجد

وقلت يا أملى في كل نائبة
يا من عليه لكشف الضر أعتمد

أشكو إليك أموراً أنت تعلمها
ما لي على حملها صبر ولا جلد

لقد مددت يدي بالذل مفتقرًا
إليك يا خير من مدت إليه يد

فلا تردنها يا رب خائبة
فبحر جودك يروي كل من يرد


هذه أيها الكرام الشكوى إلى الله وهي كما ترون رغبة ورجاء وتقرب وتزلف إلى الملك - سبحانه وتعالى -، وعلى الضد من هذا تماماً الشكوى من الله فإنها سخط وتضرم وتبرم من الله عز وجل تسمع هذا من بعض أهل البلاء ممن أنزل الله بهم بعض أقداره في تعبيرات شتى فمن قائل: أما وجد الله بين السماء والأرض من خلقه إلا أنا؟ ومن قائل: هي كل بلوى في الدنيا تنزل على فلان، أليس في الدنيا إلا فلان، كل مصائب الدنيا على رأس فلان، أليس هناك غيري، أما وجدت إلا أنا وهكذا.

وربما لا تظهر هذه الألفاظ على الألسن لكن القلوب تكنها وتحويها والعبارات تحوم حولها وتظهر رغما عنها في بعض لحنها كما جاء رجل يوماً إلى أبي حامد الغزالي رحمه الله وعفا عنه يشكو إليه شدة حاجته وفقره فأكثر وأطال حتى أحس أبو حامد منه سخطاً ونقمة على الرحمن جل جلاله فأراد أن يرده الى صوابه لكن بطريقة حسنة سهلة راشدة فقال: يا فلان إني أعرف رجلاً من أهل اليسر والغنى في مكان كذا وكذا وقد ابتلاه الله بالعمى فهو يريد عيناً يبصر بها أتعطيه إحدى عينيك ويعطيك عشرة آلاف؟ فأجاب الرجل على الفور: لا، قال أبو حامد: أفتعطي الكسيح رجلاً بعشرة آلاف، قال: لا، قال أبو حامد: فتعطي الأشل يداً بعشرة ألاف، قال: لا قال أبو حامد: أفتعطي الأصم أذناً بعشرة آلاف، قال الرجل: لا،. واستمر أبو حامد يعدد عليه نعم الله الظاهرة فيه فقط كل ذلك والرجل يقول: لا، بتعبيرنا: ثم قال أبو حامد: يا هذا إن معك من الأموال ما يزيد على ألف ألف مما ظهر فكيف بما خفي (إنك ملياردير) ومثلك لا تحق له الشكوى. ورحم الله الذي قال:
لا تسألن بني آدم حاجة
وسل الذي أبوابه لا تحجب

الله يغضب إن تركت سؤاله
وبني آدم حين يسأل يغضب


وقال آخر:
فإذا شكوت إلى ابن آدم حاجة فإنك تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

ولذلك - أيها الإخوة - من نزلت به فاقة فأنزلها بالله قضاها الله له ومن نزلت به حاجة فأنزلها بالناس لم يقضها الله له أبداً، هذا سر من أسرار قبول الدعاء وتفريج الكروب والإخلال به هو سبب عدم استجابة الله لنا وهو أننا ننزل حوائجنا بالناس أولاً ونتذكر الله آخراً هذا إذا تذكرناه.

روى أبو داود بسند صحيح عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى إما بموت عاجل أو غنى عاجل". [2]

هذا هو تحقيق مسألة الشكوى أنها نوعان شكوى إلى الله وهي لا تنافى الصبر بل تدعمه وتقويه، وشكوى من الله وهي تضاد الصبر وتنافيه، والصبر - أيها الإخوة - ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على المأمور، وصبر عن المحظور، وصبر على المقدور.

أما الصبر على المأمور فهو الصبر على طاعة الله عز وجل فالطاعة تحتاج إلى صبر كما قال الله عز وجل: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين". فالطاعة تحتاج إلى صبر ومجاهدة ومرابطة ومصابرة حتى تؤتي ثمارها بإذن ربها وإلا كانت آلية ميكانيكية يؤديها العبد ولا يحس حلاوتها ولا يذوق لذتها ولذلك قال من قال من رجالات السلف: عالجت قيام الليل سنة ثم استمتعت به عشرين سنة فالطاعة تحتاج إلى صبر.

القسم الثاني: صبر عن المحظور وهو الصبر عن المعصية والذنوب والسيئات فيحجز العبد نفسه الأمارة بالسوء عن ارتكاب المعصية ولا يسارع إليها أول ما تدعوه بل يجاهدها ويجاهد شيطانها وهذا إنما يتأتي بالصبر.

القسم الثالث: هو الصبر على المقدور وهو الصبر على أقدار الله مما يصيب الله به عباده من الأمراض والأوجاع وجميع المصائب وهذا هو محك الإيمان ومختبر الإسلام والاستسلام والإيقان، ولذلك جاء الفضل فيه في القرآن العظيم وسنة النبي الكريم كثيرًا جدًّا وحثت عليه الآيات والأحاديث والآثار عن السلف وسارع فيه المتنافسون وفاز في دربه المتسابقون وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء: فضل الصبر ومكانته.

أيها الإخوة..
ذكر الله تعالى الصبر في القرآن الكريم في تسعين موضعاً وكفى بهذا شرفًا و فضلاً للصبر وأهله وحسبك بذلك حثاً عليه وترغيباً فيه، ولا نستطيع في مقامنا هذا أن نشير إلى جميع هذه المواضع لكن بحسبنا أن نومئ إلى بعضها فمن ذلك قوله تعالى آمراً بالصبر حاثاً عليه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].

وقال عز وجل معلناً أن الصبر من شيم طلاب المعالي: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].

وقال عز وجل يعلن عن شرف صحبة الصابرين وذلك لشرف معيته لهم سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾.

وقال عز وجل يكشف عن عظيم أجرهم لديه: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب". وقال: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 158].

هذه بعض آيات القرآن العظيم في بيان مكانة الصبر وفضل الصابرين، وقد أفاضت السنة المطهرة كذلك في الحث على الصبر والترغيب فيه والتعريف بفضل الصابرين والكشف عن علو درجاتهم.

روى مسلم من حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء".[3]

الله! أرأيت إلى هذا التعبير: "والصبر ضياء"، قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: والصبر ضياء: يضيء للإنسان عندما تحتلك الظلمات وتشتد الكربات يهدي صاحبه إلى الحق، ولهذا أمر الله عز وجل بالاستعانة بالصبر فقال: "واستعينوا بالصبر" فهو ضياء للإنسان في قلبه وضياء له في طريقه ومنهاجه وعلمه فكلما سار العبد إلى الله على طريق الصبر زاده الله هدى وضياء وبصيرة. [4]

وروى مسلم من حديث صهيب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".[5]

وفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وما أعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر".[6]

ويكفي - أيها الإخوة - أن الصبر دليل محبة الله للعبد كما قال عز وجل: "إن الله يحب الصابرين" وكما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وسنده حسن من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط". [7]

الله! من رضي فله الرضا، ولنا في السابقين الصادقين الأسوة والقدوة
أين الذين رضوا بالفقر وأحبوا الفقراء فمحمد إمامهم إلى الجنة.
أين الذين حجوا واعتمروا فآدم إمامهم إلى الجنة.
أين الذين أحبوا الكرم وأكرموا الضيوف فإبراهيم إمامهم إلى الجنة.
أين الذين صبروا في البلاء فأيوب إمامهم إلى الجنة.
أين الذين قالوا الحق لوجه الله فموسي إمامهم إلى الجنة.
أين الذين أحبوا الصدق واتصفوا به فأبو بكر إمامهم إلى الجنة.
أين الذين أحبوا العدل واتصفوا به فعمر إمامهم إلى الجنة.
أين الذين أحبوا الجهاد في سبيل الله فعلي إمامهم إلى الجنة.
أين الذين أحبوا الإيثار واتصفوا به فالحسين إمامهم إلى الجنة.
أين الذين خافوا الله عند المقدرة فيوسف إمامهم إلى الجنة.

أيها الإخوة!
من علامات حب العبد لله: أن يكون صابراً على المكاره، فالصبر من آكد المنازل في طريق المحبة، وألزمها للمحبين، فإنَّ بقوة الصبر على المكاره في مراد المحبوب، يُعلم صحة محبته، ولهذا كانت محبة أكثر الناس كاذبة، لأنهم كلهم ادعوا محبة الله تعالى، فلما امتحنهم بالمكاره، ظهروا على حقيقتهم، ولم يثبت إلا الصابرون، فلولا تحمّل المشاق، وتجشم المكاره، بالصبر، لما ثبتت صحة محبتهم، انظر رعاك الله، كيف وصف الله تعالى بالصبر خاصة أوليائه وأحبابه، فقال عن حبيبه أيوب: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ﴾، ثم أثنى عليه قائلاً: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾، وأمر الله أحب الخلق إليه بالصبر لحكمه وأخبر أنَّ صبره به وبذلك تهون جميع المصائب فقال: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ وقال: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ ﴾ وأثنى الله على الصابرين أحسن الثناء فقال: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾. ونعود فنردد ما قال سيد الصابرين صلى الله عليه وسلم: (وما أُعطي أحدٌ عطاءً خير وأوسع من الصبر). وقال سبحانه: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾. فهنيئاً لهم بشارة ربهم، وهنيئاً لهم: ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾"[8]

وهذا الجزاء - أيها الإخوة - لمن صبر الصبر الجميل الذي أشرنا إليه في بداية اللقاء فمن كان كذلك حاله نال هذا الأجر والثواب والفضل، فليس كل أحد على هذه الدرجة ليس أهل البلاء كلهم سواء في تلقي أمر الله وقدره بل يختلفون في أحوالهم ويتباينون في مواقفهم.

ولذلك كان تلقي البلاء بالشكر والرضا هو محك اختبار الإيمان وبه تستبين درجة العبد ويظهر قدره كما في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألبانى فى الصحيحة من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه"[9] فلا ريب أن ينزل الصبر تلك المنزلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى قال علي رضي الله عنه: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ثم قال: أما إنه لا إيمان لمن لا صبر له".
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 29-08-2020, 04:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سفينة النجاة



ولذا تنافس المتنافسون في تحصيل هذا الثواب العظيم من أنبياء الله والصالحين ومنهم نبي الله أيوب الذي لبث في البلاء ثمانية عشر عاماً ومع ذلك استحيا أن يسأل الله العافية حتى يكون له من النصيب في البلاء قدر ما كان له في العافية ولنستمع إلى شيء من خبره فيما أخرجه الحاكم وابن حبان والطبري والبزار وقال الهيثمي رجال البزار رجال الصحيح من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثَمانِيَ عَشْرَة سَنَة، فَرَفَضَه القَرِيبُ وَالبَعِيدُ، إلا رَجُلانِ مِنْ إخْوَانِهِ كانا مِنْ أخَصّ إخْوَانِهِ بِهِ، كَانَا يَغْدُوانِ إلَيْهِ ويَرُوحانِ، فَقالَ أحَدُهُما لِصَاحِبه: تَعْلَم والله لَقَدْ أذْنَبَ أيُّوبُ ذَنْبًا ما أذْنَبَهُ أحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: ومَا ذَاكَ؟ قَالَ: مِنْ ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ الله فَيَكْشِفَ ما بِهِ؛ فَلَمَّا رَاحا إلَيْهِ لَمْ يَصْبِر الرَّجُلُ حتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فقَالَ أيَّوُّبُ: لا أدْرِي ما تَقُولُ، غَيرَ أنَّ الله يَعْلَمُ أنِّي كُنْتُ أمُرُّ على الرُّجُلَيْنِ يَتَنازَعانِ فَيَذْكُرَانِ الله، فَأَرْجِعَ إلى بَيْتِي فَأكفِّرُ عَنْهُما كَرَاهِيَةَ أنْ يُذْكَرَ الله إلا في حَقّ؛ قال: وكان يَخْرُجُ إلى حاجَتِهِ، فإذَا قَضَاها أمْسَكَت امْرأُتُه بِيَدِهِ حتى يَبْلُغ فَلَما كانَ ذاتَ يَوْمٍ أبْطَأُ عَلَيْها، وأوحِيَ إلى أيُّوب في مَكانِهِارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)فاسْتَبطأتَهُ، فَتَلقتهُ تَنْظُرُ، فأقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أذْهَبَ الله ما بِهِ مِنَ البَلاءِ، وَهُوَ عَلى أحْسَنِ ما كانَ؛ فَلَمَّا رَأتْهُ قَالَتْ: أيْ بارَكَ الله فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ الله هَذَا المُبْتَلى، فوالله على ذلك ما رَأَيْتُ أحَدًا أشْبَهَ بِهِ منْكَ إذْ كانَ صحيحا؟ قال: فإنّي أنا هُوَ؛ قال: وكانَ لَهُ أنْدرَانِ: أنْدَرٌ للْقَمْحِ، وأنْدَرٌ للشَّعِيرِ، فَبَعَثَ الله سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كانَتْ إحْداهُما على أنْدَرِ القَمْحِ، أفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حتى فاضَ، وأفرغَتِ الأخْرَى في أنْدَرِ الشَّعِيرِ الوَرِق حتى فاضَ".[10]

قال الله تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84].

نعم:
كن عن همومك معرضا
ودع الأمور إلى القضا

وانعم بطول سلامة
تغنيك عما قد مضى

فلربما اتسع المضيق
وربما ضاق الفضا

الله يفعل ما يشاء
فلا تكن متعرضا


والمثل الأعلى للمبتلين الصابرين: المصطفى الذي عاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى ويخطو على جمر الكيد والعنت يتلمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين فناله في سبيل ذلك ما لم ينل نبياً فضلاً عن صديق أو صادق.

روى البخاري من حديث عَائِشَةَ - رضى الله عنها – زَوْج النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا قَالَتْ للنبي - صلى الله عليه وسلم - هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يجبني إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رأسي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أظلتني، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فناداني فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فناداني مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". [11]، وللحديث صلة بعد جلسة الاستراحة وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.

أما بعد، فيا أيها الإخوة!
ومن أمثلة الصبر العليا والنجوم في سمائه: بلال بن رباح الحبشي مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
وقد كان عبداً لأمية بن خلف فلما بعث رسول الله اتبعه وآمن به وصدقه على ما جاء به فكان أمية يمنعه الطعام والشراب يوماً ويومين حتى يشتد به الجوع والعطش ويخرج به إلى الصحراء في شدة الحر وسط الظهيرة فيجرده من ثيابه ويضعه على الرمضاء ويعذبه ويقول: لا تزال هكذا حتى تكفر بمحمد أو تقول في اللات والعزى خيراً، قال ابن مسعود هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، هانت على بلال نفسه في الله فأبى إلا أن يغيظ أمية بن خلف وسائر المشركين، كلما قالوا له: لا تزال هكذا حتى تكفر بمحمد يأبى ذلك ويصر أن يتمسك بالإسلام ويعض عليه ويثبت عليه ويأبى إلا أن يغيظ المشركين بالنطق بكلمة التوحيد تحت سياط التعذيب فيقول: أحدٌ أحد، أحدٌ أحد، فهانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فجعل أمية بن خلف مولاه الحبل في عنقه وأعطاه غلمان مكة فجعلوا يلعبون به في شعاب مكة وطرقها وهو يقول: أحد أحد [12]

ولو ذهبنا نتتبع ما نال التعذيب والابتلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأعيانا الحصر والعد ولكن بحسبنا هذا المثال وما نعلم.

وهذا أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي التابعي الجليل الذي وصفه ابن حبان فقال: من عباد أهل البصرة وزهادهم يروى عن أنس بن مالك ومالك بن الحويرث وروى عنه أيوب وخالد مات بالشام سنة أربع ومائة في ولاية يزيد بن عبد الملك حدثني بقصة موته محمد بن المنذر بن سعيد من طريق الأوزاعي عن عبد الله بن محمد قال خرجت الى ساحل البحر مرابطا وكان رابطنا يومئذ عريش مصر قال فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا ببطيحة وفى البطيحة خيمة فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه وثقل سمعه وبصره وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه وهو يقول اللهم أوزعني أن أحمدك حمدا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها على وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا قال الأوزاعي قال عبد الله قلت والله لآتين هذا الرجل ولأسألنه أنى له هذا الكلام فهم أم علم أم إلهام ألهم فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت سمعتك وأنت تقول اللهم أوزعني أن أحمدك حمدا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها على وفضلتني على كثير من خلقت تفضيلا فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها وأي فضيله تفضل بها عليك تشكره عليها قال وما ترى ما صنع ربي والله لو أرسل السماء علي نارا فأحرقتني وأمر الجبال فدمرتني وأمر البحار فغرقتني وأمر الأرض فبلعتني ما ازددت لربى إلا شكرا لما أنعم على من لساني هذا ولكن يا عبد الله إذ أتيتني لي إليك حاجة قد تراني على أي حالة أنا أنا لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع ولقد كان معي بني لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضيني وإذا جعت أطعمني وإذا عطشت سقاني ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام فتحسسه لي رحمك الله فقلت والله ما مشي خلق في حاجة خلق كان أعظم عند الله أجرا ممن يمشي في حاجة مثلك فمضيت في طلب الغلام فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه فاسترجعت وقلت أنى لي وجه رقيق آتي به الرجل فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي صلى الله عليه و سلم فلما أتيته سلمت عليه فرد على السلام فقال ألست بصاحبي قلت بلى قال ما فعلت في حاجتي فقلت أنت أكرم على الله أم أيوب النبي قال بل أيوب النبي قلت هل علمت ما صنع به ربه أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده قال بلى قلت فكيف وجده قال وجده صابرا شاكرا حامدا قلت لم يرض منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه قال نعم قلت فكيف وجده ربه قال وجده صابرا شاكرا حامدا قلت فلم يرض منه بذلك حتى صيره عرضا لمار الطريق هل علمت قال نعم قلت فكيف وجده ربه قال صابرا شاكرا حامدا أوجز رحمك الله قلت له إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع فأكل لحمه فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر فقال المبتلى الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقا يعصيه فيعذبه بالنار ثم استرجع وشهق شهقة فمات فقلت انا لله وانا اليه راجعون عظمت مصيبتي رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع وإن قعدت لم أقدر على ضر ولا نفع فسجيته بشملة كانت عليه وقعدت عند رأسه باكيا فبينما أنا قاعد إذ تهجم على أربعة رجال فقالوا يا عبد الله ما حالك وما قصتك فقصصت عليهم قصتي وقصته فقالوا لي اكشف لنا عن وجهه فعسى أن نعرفه فكشفت عن وجهه فانكب القوم عليه يقبلون عينيه مره ويديه أخرى ويقولون بأبي عين طالما غضت عن محارم الله وبأبي وجسمه طال ما كنت ساجدا والناس نيام فقلت من هذا يرحمكم الله فقالوا هذا أبو قلابة الجرمي صاحب ابن عباس لقد كان شديد الحب لله وللنبي صلى الله عليه وسلم فغسلناه وكفناه بأثواب كانت معنا وصلينا عليه ودفناه فانصرف القوم وانصرفت الى رباطي فلما أن جن على الليل وضعت رأسي فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة وعليه حلتان من حلل الجنة وهو يتلو الوحي سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار فقلت ألست بصاحبي قال بلى قلت أنى لك هذا قال إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء مع خشية الله عز و جل في السر والعلانية. [13]

وبعد - أيها الإخوة - كيف نكون مع أفراد هذا الموكب الكوكبي الدري والنجم الساطع الضوئي كيف نكون من الصابرين ونحصل درجتهم ونشرف بمكانتهم؟

والجواب في نقاط:
أولاً: الاستعانة بالله تعالى فإن صبر المؤمن يكون بالله تعالى كما قال عز وجل ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ يعني أنه من لم يصبره الله ويوفقه للصبر لم يصبر وكذلك ينبغى ان يكون الصبر لله أي حبًّا له وإرادة لوجهه ورغبة في ثوابه لا لإظهار قوة النفس أو استجلاب الحمد من الناس وينبغي أن يكون الصبر مع الله، والصبر مع الله هو أن يكون العبد مع أحكام الله الدينية صابراً نفسه معه سائراً بسيرها مقيماً بإقامتها حيث كانت وليس كمن يصبر على تعذيب نفسه في غير مرضاة الله مثل صبر المشركين القائلين: "أن امشوا واصبروا على آلهتكم".[14]

فالله عز وجل هو المعين على الصبر لمن أراد وهو الموفق الهادي له كما قال علقمة في تفسير قوله تعالى: "ومن يؤمن بالله يهد قلبه" قال - رحمه الله -: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وهذه الهداية - أيها الإخوة - هي هداية التوفيق ومن هذه الهداية هداية الله عبده الى الرضا والتسليم، فمن أصابته مصيبة فعلم أنها من قدر الله فصبر واحتسب هدى الله قلبه لليقين وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقيناً صادقاً و يخلف عليه خيراً مما فاته.

ثانيًا: الإيمان "فالإيمان خير معين، الإيمان بلسم الحياة، وأس الفضائل ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزم في الشدائد، وبلسم العبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة بالحظوط، ونور الأمل في الصدور وسكن النفوس، وعزاء القلوب إذا أوحشتها الخطوب، والعروة الوثقى عند حلول الموت بسكراته العظمي"، ولله در معاذ بن جبل لما أصابه الطاعون طاعون عمواس يقول الحارث بن عميرة: طعن معاذ وأبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة، وأبو مالك الأشعري في يوم واحد، فقال معاذ: أنه رحمة ربكم عز وجل ودعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم وقبض الصالحين قبلكم. اللهم آت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة، فما أمسى حتى طعن ابنه عبد الرحمن بكره الذي كان يكنى به وأحب الخلق إليه، فرجع من المسجد فوجده مكروباً، فقال: يا عبد الرحمن كيف أنت؟ فاستجاب له فقال: يا أبت ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [آل عمران: 60]. فقال معاذ: وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين، فأمسكه ليلة ثم دفنه من الغد، فطعن معاذ فقال حين اشتد به النزع - نزع الموت - فنزع نزعاً لم ينزعه أحد، وكان كلما أفاق من غمرة فتح طرفه ثم قال: رب اخنقني خنقتك، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك. [15]

هات ما عندك هاتِ
معيَ الإيمان يهديني لبحر الظلماتِ
بلسم الإيمان ينجي مركبي والموج عاتي
هل ترى الإعصار يومًا هزَّ شُمًّا راسياتِ؟

فالإيمان بعد عون الله وتوفيقه أعظم الأسباب المعينة على الصبر.

ثانياً: أن يتصبر العبد ويتعلم الصبر درجة درجة كما قيل: "إنما الصبر بالتصبر". فمن عود نفسه الصبر تعودت وأخذت به وتدرجت.

ثالثاً: أن يعرف فضل الصبر ودرجة الصابرين فمن عرف فضل الصبر حمل نفسه عليه حملاً وينسيه ذلك مرارة المصاب والبلية كما قال من قال: وقد أصيبت أصبعه فتبسم فعجب من رآه وقال: تبتسم وقد انقطع أصبعك؟! فقال: نعم حلاوة أجرها أنستني مرارة ألمها.

فإذا تذكر العبد أمثال قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ و قوله صلى الله عليه وسلم فيما روى الترمذي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بعبد خيرًا عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبد شرًا أمسك عليه ذنوبه حتى يوافيه يوم القيامة".[16]

فعلم أن المصيبة مكفرة ورافعة للدرجات وماحية للسيئات وإذا تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه"[17]

علم أنه على درجة عظيمة في القرب من الله تعالى ومشابهة أنبيائه ورسله وعلى درج الصالحين يسير.

رابعاً: التعرف إلى ضد الصبر إلى أين يسير بالعبد فالضد يظهره حسنه الضد وبضدها تبين الأشياء فليتعرف على مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ". [18]

وليتعرف على مثل قوله صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "اثْنَتَانِ فِى النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطَّعْنُ فِى النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ".[19]

هذه هي الأسباب المعينة على الصبر ويبقى توفيق وهداية المولى - سبحانه وتعالى - الذي لا يكون شيء إلا بإذنه.

أخي المبتلى: لقد أنعم الله عليك كثيرًا فإن كنت عند حسن ظنه في نعمائه، فكن عند حسن ظنه بك في بلائه، يهتف بك ابن كثير: كان نبي الله أيوب، عليه السلام، غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك.

وقال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب، عليه السلام، بذهاب الأهل والمال والولد، ولم يبق له شيء، أحسن الذكر، ثم قال: أحمدك رب الأرباب، الذي أحسنت إلي، أعطيتني المال والولد، فلم يبق من قلبي شعبة، إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني، وفرَّغت قلبي، ليس يحول بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت، حسدني. قال: فلقي إبليس من ذلك منكرًا.

قال: وقال أيوب، عليه السلام: يا رب، إنك أعطيتني المال والولد، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته، وأنت تعلم ذلك. وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول لنفسي: يا نفس، إنك لم تخلقي لوطء الفرش، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك.[20]

حبيبي المبتلى!
"لا يسلبك الله شيئا إلاَّ عوَّضك خيراً منه، إذا صبرْتَ واحْتَسَبْتَ ((منْ أخذتُ حبيبتيه فصبر عوَّضتُه منهما الجنة)) [21] يعني عينيه ((من سلبتُ صفيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسب عوَّضْتُهُ من الجنَّة))[22]

من فقد ابنه وصبر بُني له بَيْتُ الحمدِ في الخُلْدِ، وقِسْ على هذا المنوالِ فإن هذا مجردُ مثال.

فلا تأسفْ على مصيبة فان الذي قدّرها عنده جنةٌ وثوابٌ وعِوضٌ وأجرٌ عظيمٌ.

إن أولياء الله المصابين المبتلين ينوِّهُ بهم في الفِرْدوْسِ ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾.

وحق علينا أن ننظر في عِوض المصيبةِ وفي ثوابها وفي خلفها الخيِّر ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ هنيئاً للمصابين، بشرى للمنكوبين.

إن عُمْر الدنيا قصيرٌ وكنزُها حقيرٌ، والآخرةُ خيرٌ وأبقى فمن أُصيب هنا كُوفِئ هناك، ومن تعب هنا ارتاح هناك، أما المتعلقون بالدُّنيا العاشقون لها الراكنون إليها، فأشدَّ ما على قلوبهم فوت حظوظُهم منها وتنغيصُ راحتهم فيها لأنهم يريدونها وحدها فلذلك تعظُمً عليهمُ المصائبُ وتكبرُ عندهمُ النكباتُ؛ لأنهمْ ينظرون تحت أقدامِهم فلا يرون إلاَّ الدُّنيا الفانية الزهيدة الرخيصة.

أيها المصابون ما فات شيءٌ وأنتمُ الرابحون، فقد بعث لكمْ برسالةٍ بين أسطرها لُطْفٌ وعطْفٌ وثوابٌ وحُسنُ اختيار. إن على المصابِ الذي ضرب عليه سرادقُ المصيبة أن ينظر ليرى أن النتيجة فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ، وما عند اللهِ خيرٌ وأبقى وأهنأ وأمرأُ وأجلُّ وأعلى.

اللهم فاجعلْ مكان اللوعة سلْوة، وجزاء الحزنِ سروراً، وعند الخوفِ أمنْاً. اللهم أبردْ لاعِج القلبِ بثلجِ اليقينِ، وأطفئْ جمْر الأرواحِ بماءِ الإيمانِ.

يا ربُّ، ألق على العيونِ السَّاهرةِ نُعاساً أمنةً منك، وعلى النفوسِ المضْطربةِ سكينة، وأثبْها فتحاً قريباً. يا ربُّ اهدِ حيارى البصائرْ إلى نورِكْ، وضُلاَّل المناهجِ إلى صراطكْ، والزائغين عن السبيل إلى هداك.

اللهم أزل الوساوس بفجْر صادقٍ من النور، وأزهقْ باطل الضَّمائرِ بفيْلقٍ من الحقِّ، وردَّ كيد الشيطانِ بمددٍ من جنودِ عوْنِك مُسوِّمين.

اللهم أذهبْ عنَّا الحزن، وأزلْ عنا الهمَّ، واطردْ من نفوسنِا القلق.

نعوذُ بك من الخوْفِ إلا منْك، والركونِ إلا إليك، والتوكلِ إلا عليك، والسؤالِ إلا منك، والاستعانِة إلا بك، أنت وليُّنا، نعم المولى ونعم النصير".[23]

أيها الإخوة! حكي عن بعض العارفين أنه سأل الشبلي عن الصبر أيه أشد؟ فقال: الصبر في الله تعالى؛ فقال: لا، فقال: الصبر لله، فقال: لا، فقال: الصبر مع الله، فقال: لا، فقال: فأيش؟ قال: الصبر عن الله؛ فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف. وقد قيل في معنى قوله تعالى" اصبروا وصابروا ورابطوا" اصبروا في الله وصابروا بالله ورابطوا مع الله. وقيل الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء. وقد قيل في معناه:
والصبر عنك فمذموم عواقبه والصبر في سائر الأشياء محمود
وقيل أيضاً:
الصبر يجمل في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يجمل[24]

فيا من لا يزال يتخبط في غيه بعيدًا عن رضا ربه إنك يا مسكين محروم ويالشدة صبرك عن محبوبك، تالله لو تعي حقيقة ما تفعل لسقطت ميتًا.

نسأل الله أن يأخذ بأيدينا إليه أخذ الكرام عليه وأن يرزقنا الصبر على المأمور والصبر عن المحظور والصبر على المقدور... الدعاء.


[1] في ظلال القرآن - (6 / 330).

[2] أخرجه الترمذي (2327) والحاكم (1 / 408) والبيهقي (4 / 196)، وانظر: الصحيحة 6 / 676.

[3] أخرجه مسلم 556.

[4] شرح رياض الصالحين (4 / 16).

[5] أخرجه مسلم 7692.

[6] أخرجه البخاري 1469، ومسلم 2471.

[7] أخرجه الترمذي (2 / 64) و ابن ماجه (4031)، وانظر: الصحيحة 1 / 227.

[8] يحبهم ويحبونه - خطبة للشيخ خالد الراشد.

[9] أخرجه أحمد (1/ 172)، والترمذي (2398)، وصححه الألبانى فى الصحيحة (143).

[10] تفسير الطبري (23/ 107) ورواه البزار في مسنده (2357) "كشف الأستار"، وهو في "الصحيحة" 1 / 25.

[11] أخرجه البخاري (3231) ومسلم (1795).

[12] طبقات ابن سعد (232/ 3).

[13] الثقات لابن حبان 5/ 7.

[14] فضل الغني الحميد (ص32).

[15] حلية الأولياء - (1 / 127).

[16] أخرجه الترمذي (2 / 64)، والبيهقي في"الأسماء"(ص 154)، وهو في "الصحيحة"3 / 220.

[17] أخرجه أحمد (1/ 172) والترمذي (2398) وابن ماجه (4023)، وصححه الألبانى فى الصحيحه (143).

[18] أخرجه البخاري (1297) ومسلم (103).

[19] أخرجه مسلم (67).

[20] تفسير ابن كثير - (5 / 360).

[21] أخرجه البخارى (5329).

[22] أخرجه البخاري (6424)، بلفظ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِى الْمُؤْمِنِ عِنْدِى جَزَاءٌ، إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلاَّ الْجَنَّةُ".

[23] لا تحزن.

[24] إحياء علوم الدين (3 / 181).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 102.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 100.13 كيلو بايت... تم توفير 2.18 كيلو بايت...بمعدل (2.13%)]