|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
فقه الاختلاف وأدب الحوار
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: فقه الاختلاف وأدب الحوار
العنصر الثالث:- الضوابط الأخلاقية لفقه الاختلاف:- الإنسان في حاجة إلى عقل يقظ كما يحتاج إلى ضمير حي. في حاجة إلى العلم النافع، وإلى الإيمان الوازع، وإلى الخلق الفاضل، وبما أن الاختلاف سنة ربانية وفطرة فطر الله الناس عليها إذن نحن في أمس الحاجة إلي أن نفهم الضوابط الأخلاقية لفقه وأدب الحوار وهي كالآتي:- 1- الإخلاص لله والتجرد من الأهواء:- فكثيرا ما تكون الخلافات بين الأفراد والفئات، ظاهرها أنها خلاف على مسائل في العلم، أو قضايا في الفكر، وباطنها حب الذات، واتباع الهوى الذي يعمي ويصم، ويضل عن سبيل الله. لقد حرصت التربية الإسلامية، القرآنية والنبوية، على تكوين الإنسان المؤمن الذي يجعل غايته رضا الخالق، لا ثناء الخلق، وسعادة الآخرة، لا منفعة الدنيا وإيثار ما عند الله على ما عند الناس، يوقن بقول الله تعالى ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [النحل: 96]. وحذرت هذه التربية من الإنسان الذي تكون الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه فهو يعمل للجاه، والشهرة، أو للمصلحة الذاتية، أو لنزعة عصبية ظاهرة أو خفية. ومن هنا نوه الحديث الشريف بأولئك الجنود المجهولين الذين يذيبون حبات قلوبهم، وينفقون أغلى أيام أعمارهم، في نصرة دينهم وطاعة ربهم، دون أن تسلط عليهم الأضواء، أو يشار إليهم بالبنان. روى الحاكم وغيره، عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر رضي الله عنه، خرج إلى المسجد فوجد معاذا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة". إن المسلم الحق هو الذي يكون عبدا لله، لا عبدا لذاته، فحيث وضع عمل وحيث وجه توجه، في الإمام أو في الخلف، قائدا، أو جنديا، دون تطلع إلى منصب أو دنيا.. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط. تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش؟ طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، أو كان في الساقة كان في الساقة". ولو أنصف الجميع لجردوا أنفسهم للحق، وأخلصوا دينهم لله، حتى يخلصهم الله لدينه، ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]. إن اتباع الهوى لون من الشرك، ولهذا قال السلف: شر إله عبد في الأرض الهوى! وذلك لأنه يضل الإنسان عن الحق رغم علمه به ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ﴾ [الجاثية: 23]. 2- التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف:- المسلم الحق لا يقيد نفسه إلا بالدليل، فإن لاح له الدليل بادر بالانقياد له، وإن كان ذلك على خلاف المذهب الذي يعتنقه، أو قول الإمام الذي يعظمه، أو الطائفة التي ينتسب إليها. فالحق أحق أن يتبع من قول زيد أو عمرو من الناس، وما تعبدنا الله تعالى بقول فلان أو فلان، من العلماء أو الأئمة، إنما تعبدنا بما جاءنا في كتابه وما صح عن نبيه صلى الله عليه وسلم (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول). وأول ما ينبغي أن يتحرر المرء منه: تعصبه لرأيه الشخصي، بحيث لا ينزل عنه ولو ظهر له خطؤه، وتهاوت شبهاته أمام حجج الآخرين، بل يظل مصرا عليه، متمسكا به، مدافعا عنه، انتصارا للنفس، ومكابرة للغير، واتباعا للهوى، وخوفا من الاتهام بالقصور أو التقصير. ورضي الله عن الإمام الشافعي الذي قال: والله ما أبالي أن يظهر الحق على لساني أو على لسان خصمي. وهذا التعصب من دلائل الإعجاب النفس، واتباع الهوى، وهما من أشد (المهلكات) خطرا. وقد حكى القرآن الكريم لنا نماذج من المتعصبين منكرا عليهم، ومنددا بمسلكهم، تحذيرا للمسلمين أن يحذوا حذوهم. فقال عن بني إسرائيل: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ﴾ [البقرة: 91]. وقال تعالى عن المشركين: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 170، 171]. والمسلم الحق يعلم أن الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها،وعليه أن ينظر إلى القول لا إلى قائله، وأن تكون لديه الشجاعة لنقد الذات، والاعتراف بالخطأ، والترحيب بالنقد من الآخرين، وطلب النصح والتقويم منهم، والاستفادة مما عند الآخرين من علم وحكمة، والثناء على المخالف فيما أحسن فيه، والدفاع عنه إذا اتهم بالباطل، أو تطاول عليه أحد بغير حق. وعليه قبول الحق والإنصات له، فلابد أن يكون المختلفان يطلبان الحق، وينصتان له، ويقبلانه، فالذي يصم عن الحق ولا يقبله لا يمكن أن يتأدب بأدب الاختلاف أصلاً، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [الزمر:17-18]، فهم يستمعون أولاً ثم يتبعون، وعاب على الكفار قولهم ﴿ لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت:26] 3 - الانصاف:- والإسلام يوجب على المسلم، أن يكون عدلا مع من يحب ومن يكره، يقول لله شهيدا بالقسط ولو على نفسه، ولا يخرجه غضبه عن الحق، ولا يدخله رضاه في الباطل، ولا تمنعه الخصومة من الشهادة لخصمه بما فيه من خير، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [النساء: 135]. وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8] وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: (ولا يمنعك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع في الحق خير من التمادي في الباطل). 4- إحسان الظن بالآخرين:- إحسان الظن بالآخرين، وخلع المنظار الأسود، عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم فلا ينبغي أن يكون سلوك المؤمن واتجاهه قائما على تزكية نفسه، واتهام غيره، والله تعالى ينهانا أن نزكي أنفسنا، فيقول: ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]. ويذم اليهود الذين زكوا أنفسهم وقالوا: إنهم أبناء الله وأحباؤه، فقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 49]. فإن من أعظم شعب الإيمان حسن الظن بالله، وحسن الظن بالناس، وفي مقابلهما: سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله. إن سوء الظن من خصال الشر التي حذر منها القرآن والسنة، فالأصل حمل المسلم على الصلاح، وأن لا تظن به إلا خيرا، وأن تحمل ما يصدر منه على أحسن الوجوه، وإن بدا ضعفها، تغليبا لجانب الخير على جانب الشر. والله تعالى يقول: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ ﴾ [الحجرات: 12] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث.." والمفروض في المسلم إذا سمع شرا عن أخيه أن يطرد عن نفسه تصور أي سوء عنه، وأن لا يظن به إلا خيرا، كما قال تعالى في سياق حديث الإفك: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12]. ومع هذا ينبغي للمؤمن أن لا يستسلم لوسوسة الشيطان في إساءة الظن بالمسلمين، بل عليه أن يلتمس لهم المعاذير والمخارج فيما يراهم أخطؤوا فيه، بدل أن يتطلب لهم العثرات والعيوب. فإن من أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبعدهم منه مجالس يوم القيامة الباغين للبرآء العثرات. وإذا لم يجد وجها واحدا للخير يحمله عليه فيجمل به أن يتريث، ولا يستعجل في الاتهام، فقد يبدو له شيء عن قريب، وما أصدق ما قاله الشاعر هنا: تأن ولا تعجل بلومك صاحبا لعل له عذرا وأنت تلوم! ومما يجب التحذيرمنه:ما يتصل باتهام النيات، والحكم على السرائر، وإنما علمها عند الله، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سرولا علانية. ويحذر من الطعن والتجريح للمخالف ويتذكر قول الله تعالى ﴿ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ [النساء: 94]. 5 - البعد عن المراء واللدد في الخصومة:- فالإسلام وإن أمر بالجدال بالتي هي أحسن نجده ذم المراء، الذي يراد منه الغلبة على الخصم بأي طريق، دون التزام بمنطق ولا خضوع لميزان بين الطرفين. وهذا ما ذم الله به الممارين من أهل الشرك والكفر، بمثل قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الحج: 8، 9]. وقال تعالى ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ [الكهف: 56]. وقال تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]. فهذا المماري المتجبر يزعم أنه يحيي ويميت، لأنه يحكم على بعض الناس بالموت، ثم يعفو عنهم فيقول: قد أحييتهم! ويحكم على آخرين وينفذ الحكم. فيقول: قد أمتهم! فهو يفسر الإحياء والإماتة كما يشاء، وليس هذا هو التفسير الذي يعرفه الناس، والذي قصده إبراهيم عليه السلام بقوله: (ربي الذي يحيي ويميت). ومن هنا جاء في الحديث ذم المراء، والترغيب في البعد عنه. فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، ويبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه". وعن أبي أمامة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، ثم تلا: ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58]. وهذا أمر ملاحظ: أن القوم إذا حرموا التوفيق، تركوا العمل، وغرقوا في الجدل، وبخاصة أن هذا موافق لطبيعة الإنسان التي لم يهذبها الإيمان ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" والألد: الشديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي أي جانبيه، لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر. وذم القرآن بعض أصناف الناس بقوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ [البقرة: 204]. 6- الحوار بالتي هي أحسن:- من الضوابط الأساسية في أدب الاختلاف: الحوار بالحسنى، وإذا استخدمنا التعبير القرآني قلنا: الجدال بالتي هي أحسن، وهو ما أمر الله تعالى به في كتابه حين قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125]. وللحوار الجيد طرق وأساليب حثنا عليها الإسلام منها:- 1- اختيار أرق التعبيرات وألطفها في الحوار:- ولهذا استخدم القرآن في مخاطبة اليهود، والنصارى، تعبيرا له إيحاؤه ودلالته في التقريب بينهم وبين المسلمين، وهو تعبير ﴿ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ أو ﴿ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ ولهذا جاء في القرآن مثل قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ﴾ [النساء: 171]. وقال تعالى ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 15]. وقال تعالى ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾ [آل عمران: 64]. إلى آخر الآية التي كان يرسل بها النبي صلى الله عليه وسلم، إلى ملوك النصارى وأمرائهم، مثل قيصر والنجاشي والمقوقس. حتى المشركون الوثنيون لم يخاطبهم القرآن بقوله: "يأيها المشركون" بل كان يناديهم بقوله: "يأيها الناس". ولم يرد في القرآن خطاب للمشركين بعنوان الشرك أو الكفر، إلا في سورة (الكافرون) وذلك لمناسبة خاصة هي قطع الأمل عند المشركين أن يتنازل المسلمون عن أساس عقيدتهم، وهو التوحيد، ولهذا كرر فيها المعنى الواحد بصيغ عدة تأكيدا وتثبيتا ومع هذا ختمها بهذه الآية الكريمة التي تعد غاية في السماحة: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾[الكافرون: 6]. ومثلها قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 41] وإنما اصطدم الإسلام بالشرك، واقتتل الرسول والمشركون، لأنهم لم يقابلوه بمثل منطقه، بل قالوا: لنا ديننا، وليس لك دينك، ولنا علمنا، وليس لك عملك، من حقنا أن نعبد الأوثان، وندعو إليها، وليس من حقك أن تعبد الله وتدعو إليه، ومن اتبعك على دينك بإرادته واختياره كان علينا أن نفتنه عن دينه. وانظر إلي أمر الله تعالى لسيدنا موسي عليه السلام بالتلطف في القول مع فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلي ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43، 44]. فكيف يكون الحوار مع من قال سبحان ربي الأعلي؟ 2- عدم رفع الصوت:- فرفع الصوت في حال الاختلاف مدعاة لدخول الشيطان، ومدعاة لترك الأدب السابق، وهو الاستطالة، ولهذا حذر الله تعالى منه فقال: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 148] 3- التركيز على نقاط الالتقاء، ومواضع الاتفاق بينك وبين من تحاوره:- وهو أسلوب قرآني يجب أن نتعرف عليه، فهو يقول في حوار أهل الكتاب من اليهود والنصارى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [العنكبوت: 46]. ﴿ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 46]. ومثل ذلك قوله في سورة أخرى: ﴿ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾ [البقرة: 139]. فإذا كان هذا موقف المسلم ممن يجادله من أهل الكتاب الذين يخالفونه في عقيدته، وأصل دينه، ولا يؤمنون بأن محمدا رسول الله، ولا أن القرآن كتاب الله، ولا أن الإسلام شريعة الله، فكيف ينبغي أن يكون موقفه من أخيه المسلم الذي يؤمن بكل ما يؤمن به من عقيدة وشريعة، ورسول وكتاب؟ وحسبنا أن نذكربعض النماذج لحوار الأنبياء مع أقوامهم في القرآن الكريم والسنة المطهرة:- • حوار سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه:- قال تعالى ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 42 - 48]. • حوار النبي صلي الله عليه وسلم مع عتبة ابن ربيعة:- قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش،ألا أقوم إلى محمد فأكلمه شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون فقالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمرعظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع. قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا،جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يستمع منه. قال: أقد فرغت يا أبا الوليد "؟ قال: نعم. قال: " فاسمع مني " قال: أفعل. قَالَ: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ ﴿ حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [ فُصّلَتْ 1 - 5 ]. ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه فقال: بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم. انتهى الحوار. الخاتمة:- لقد أن الآوان أن نتفق وندع الخلاف خلف ظهورنا من أجل نهضة أمتنا، ونتعاون فيما انتفقنا،ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا من أجل مصلحة الدين والوطن، وأن نراجع أنفسنا، ونحاسب أنفسنا فيما مضي من أخطاء في حق الآخرين، وأن نتعاون علي البر والتقوي كما قال تعالى ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2] فالتعاون فريضة في نص القرآن الكريم، ويكون نصب أعيننا قول الله تعالى ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]. وأن نعلم أن الكلمة العنيفة لا لزوم لها، ولا ثمرة تجتني من ورائها، إلا أنها تجرح المشاعر، وتغير مودة القلوب، وإذا ذهب الود أن لا يعود مرة أخرى، على نحو ما قال الشاعر:- إن القلوب إذا تنافر ودها ♦♦♦ مثل الزجاجة كسرها لا يجبر! وقديما قالوا: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يأخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، وأن يجعلنا هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يرينا الحق حقًا، وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً، وألاَّ يجعلنا أتباعه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجمع على الحق قلوبنا، وأن يملكنا أنفسنا بخير، وألاَّ يسلطها علينا بشر، وأن يجعل سرائرنا خيرًا من علانياتنا، وأن يجعل علانياتنا صالحة. ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات:180-182].
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |