الهجرة والتضحية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         النهايات اللائقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          6 وسائل للتعامل مع أزمات أمتنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الأسرة وحدة نهوض للمجتمع والحضارة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4422 - عددالزوار : 859988 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3954 - عددالزوار : 394323 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216356 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7847 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 70 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 99 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 76 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21-08-2020, 04:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,077
الدولة : Egypt
افتراضي الهجرة والتضحية

الهجرة والتضحية


الشيخ محمد كامل السيد رباح





الحمد لله ذي الفضل والإحسان شرع لعباده هجرة القلوب وهجرة الأبدان، وجعل هاتين الهجرتين باقيتين على مر الزمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المهاجرين إليه أجراً عظيماً (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً)، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله هاجر إلى ربه فآواه وحماه صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها) صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، وآووا ونصروا حتى فتحوا القلوب والبلدان، ونشروا العدل والإيمان والإحسان.
سَل عُصبَةَ الشِركِ حَولَ الغارِ سائِمَةً
لَولا مُطارَدَةُ المُختارِ لَم تُسَمَ

هَل أَبصَروا الأَثَرَ الوَضّاءَ أَم سَمِعوا
هَمسَ التَسابيحِ وَالقُرآنِ مِن أُمَمِ

وَهَل تَمَثَّلَ نَسجُ العَنكَبوتِ لَهُم
كَالغابِ وَالحائِماتُ وَالزُغبُ كَالرُخَمِ

فَأَدبَروا وَوُجوهُ الأَرضِ تَلعَنُهُم
كَباطِلٍ مِن جَلالِ الحَقِّ مُنهَزِمِ

لَولا يَدُ اللَهِ بِالجارَينَ ما سَلِما
وَعَينُهُ حَولَ رُكنِ الدينِ لَم يَقُمِ

تَوارَيا بِجَناحِ اللَهِ وَاِستَتَرا
وَمَن يَضُمُّ جَناحُ اللَهِ لا يُضَمِ


إن الهجرة النبوية - أيها الأخوة - موقعٌ من مواقع التأمل في هذه المسيرة المباركة، إنها بحق تشريع للأمة ومعلم من معالم دينها ومعاني الهجرة كثيرة لكننا نقف مع معنى التضحية فيها التضحية أي البذل والفداء والتنازل والتضحية - أيها المسلمون هي المدد لانتشار هذا الدين وما أحوج الإسلام إلى تضحيات أبنائه المخلصين الذين لهم أسوة حسنة فيمن قبلهم، إن التضحية تكون بالنفس وتكون بالمال وتكون بالوقت وتكون بالجاه وتكون بكل ما يملكه المرء تضحيات وتنازلات في سبيل الله وإعزاز لكلمة الله وما تسلط الأعداء على دين الله وعلى المؤمنين بالله واليوم الآخر إلاَ لمَا انتشرت الأنانيات وذبلت في النفوس معاني التضحية والفداء وقعد المسلمون عن الجهاد في سبيل الله والبذل في سبيله بالغالي والنفيس..

ما أحوج الأمة اليوم وفي هذه الظروف الحرجة التي ذلت فيها هذه الأمة وهانت لأحقر أمم الأرض! ذلت الأمة وهانت لليهود؛ ما أحوج الأمة اليوم إلى هذا الدرس الكبير، إلى درس التضحية لدين الله - جل وعلا -! فوالله الذي لا إله غيره إن ترك التضحية والبذل لدين الله، وترك هذا الدرس الكبير، سيجعل الأمة ذليلة كسيرة مبعثرة، كالغنم في الليلة الشاتية الممطرة، وستبقى الأمة قصعة مستباحة لأذل أمم الأرض ولأحقر أمم الأرض، لا سيما ونحن نرى الآن نتنياهو يعلم الأمة التضحية، إن الرجل يضحي الآن لعقيدته بكل سبيل وبكل قوة، لا يحترم في سبيل أمته وفي سبيل عقيدته ميثاقًا دوليًا ولا قانونًا عالميًا، ولا يحترم مجلس الأمن ولا هيئة الأمم ولا أمريكا، لا يحترم إنسانًا على الإطلاق في سبيل هذه الغاية التي نذر نفسه من أجلها. إن الرجل يعلم الأمة -بكل أسف- كيف تكون التضحية، كيف يكون الفداء؟! فما أحوج الأمة الآن في هذا الظرف الحرج إلى هذا الدرس، إلى درس التضحية لدين الله - جل وعلا -! إلى درس الفداء لتنصر الأمة عقيدتها، ولتعلم الأمة عظمة هذه العقيدة، ولتعلم أنها عقيدة غالية تحتاج إلى تضحية، تحتاج إلى بذل، تحتاج إلى إنفاق، تحتاج إلى عطاء.

إننا اليوم - أيها المسلمون- نريد تضحية من الرجال، نريد تضحية من النساء، نريد تضحية من الصبيان، نريد تضحية من الشباب والفتيات، والله ما تحولت الأمة من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، إلا يوم أن صدقت في إيمانها واعتزت بإسلامها، ونصرت دين ربها، وضحت لهذه العقيدة ولهذا الدين بكل ما تملك، وبأغلى ما تملك، بالنفس والأموال والنساء والأولاد والأوقات والأوطان، ضحت الأمة من قبل بكل شيء.
قد سطّرت يد الشهيد بالدّماء أسطرًا

للجنّ والإنس معا رسالةً لِمن قرا

إذا ادْلَهمّ ليلُنا والعير أعياها السُّرى

ولم يعد دليلُنا ولا كفيلنا يَرى

وأحْدقت بنا العدا قاد الشهيدُ العسكرَ

فشقّ بالدِّما لنا طريقَنا المظفّرَ

إذا الدماء لم تسِلْ فالقدس لن تُحرّرَ


معالم التضحية والفداء من الهجرة النبوية:
إن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام الى المدينة المنورة، تعتبر مدرسة جامعة، وفيها من الدروس والعبر والعظات ما يغني المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم.

ففي كل حركة من حركاتهم درس، وفي كل سكنة من سكناتهم عبرة، وفي كل قول من أقوالهم عظة.

وسنحاول في هذه الدراسة الوقوف على أهم هذه الدروس التي يوفقنا الله إليها:
دروس في التضحية من أجل العقيدة والمبدأ:
لقد برزت في هجرته صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام، نماذج من التضحية لا مثيل لها في التاريخ.

فالهجرة بحد ذاتها، نوع من أرقى أنواع التضحية، لا يعرفها إلا من ذاقها، ولا يستشعرها إلا من مارسها. ولعل من أهم هذه الدروس:
1. التضحية بالنفس:
إن من البداهة أن كل من هاجر وترك وطنه، يكون قد ضحى بنفسه ابتداءً، لأنه يكون بهذه الخطوة قد سلخ نفسه من صف الجاهلية ونظامها، وانخرط في صف الاسلام ونظامه، على ما بين النظامين من تعارض، وعلى ما بين الصفين والخندقين من عداء.!

ولكن سأقف على أروع نماذج التضحية بالنفس من أجل العقيدة والقيادة، وهي تضحية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يوم قبل أن ينام في سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، على علمه بخطة المشركين لاغتياله تلك الليلة، وهو يرى بأم عينيه اجتماع المشركين وبأيديهم السيوف على بابه، وهم يتحينون الفرصة السانحة للانقضاض عليه. فأي نموذج في الفداء هذا!؟. وأية تضحية هذه!؟

قال ابن اسحق: فأتى جبريلُ عليه السلام، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. قال: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب: ((نم على فراشي، وتسجَّ ببردي)). هشام ص482

2. التضحية بالزوجة والولد:
قال ابن هشام: فكان أول من هاجر الى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، واسمه عبد الله، هاجر الى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الحبشة، فلما آذته قريش، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج الى المدينة مهاجراً.!

ولنترك لأم سلمة رضي الله عنها، المتخصصة في رواية أحاديث الهجرة، تقص علينا وقائع هذه الملحمة الخالدة، قالت:
لما أجمع أبو سلمة الخروج الى المدينة، رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة في حجري ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد!؟

قالت فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة، فقالوا: لا والله، لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.!

قالت: فتجاذبوا بُنيَّ، سلمة، بينهم حتى خلعوا يده.!!!
وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة الى المدينة.!

قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة، فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسى سنة أو قريباً منها، حتى مر بي رجل من بني عمي، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وولدها.!؟

قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت: ورد بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني.!
قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت بُنيَّ فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة.

هشام ص 469.
ألا... فهل هناك أعظم، وأروع، من هكذا تضحية.!؟

3. التضحية بالمال:
لقد ضحى كل المهاجرين بأموالهم، فلم يخرج واحد منهم، إلا خلّف أمواله كلها أو بعضها من ورائه في مكة، وكان له لون من ألوان التضحية. ولكنني هنا سأكتفي بهذين النموذجين الرائعين، لدلالتهما الباهرة على تقديم العقيدة والمبدأ، عند المهاجرين، على الأموال.!!

قال ابن هشام: وذكر لي عن أبي عثمان النهدي، أنه قال: بلغني أن صهيباً حين أراد الهجرة، قال له كفار مكة: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك.!؟ والله لا يكون ذلك.!

فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي!؟

قالوا نعم. قال: فإني جعلت لكم مالي.! قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
(( ربح البيع صهيب، ربح البيع صهيب.!)). هشام477

وهذه أسماء تحدث عن أبيها أبي بكر رضي الله عنه، قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله، وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم، فانطلق به معه.

قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه.! قالت: قلت: كلا يا أبت.!

انه قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت: فأخذت أحجاراً، فوضعتها في كوة في البيت، التي كان أبي يضع أمواله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت، ضع يدك على هذا المال.! قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، اذا ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم.! ولا والله ما ترك لنا أبي شيئاً، ولكنني أردت أن أسكّن الشيخ.!!! هشام ص 488...

فهل هناك أعظم من هذه التضحية.!؟ وهل هناك أروع من هذه التربية.!؟


4. التضحية بالبيت:
ما من مهاجري إلا وترك بيته حين هاجر. وفي ترك بيت العائلة ما فيه من اللوعة والأسى، يعرفه جيداً الذين خرجوا منه لزواج أو سفر مؤقت.. فكيف بمن تركه الى الأبد.!!؟

قال ابن اسحق: ثم كان أول من قدمها (أي المدينة) من المهاجرين بعد أبي سلمة، عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة. ثم عبدالله بن جحش، ارتحل بأهله وبأخيه عبد بن جحش (أبو أحمد) وهو رجل ضرير البصر، فغلقت دار بني جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل بن هشام، فنظر إليها عتبة بن ربيعة تخفق أبوابها يباباً (قفرا) ليس فيها ساكن، فلما رآها كذلك أنشد في حسرة:
وكل دار وإن طالت سلامتُها ♦♦♦ يوماً ستدركها النكباءُ والحُوَبُ.

فهل يجد اليوم، من هجر وطنه وبيته، في هذا النص الباهر، شيئاً من العزاء.!؟

قال ابن اسحق وتلاحق المهاجرون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد، إلا مفتون أو محبوس، ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم، الى الله تبارك وتعالى، والى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أهل دور مسمون: بنو مظعون من بني جمح، وبنو جحش بن رئاب، حلفاء بني أمية، وبنو البكير، من بني سعد بن ليث، حلفاء بني عدي، فان دورهم غلقت بمكة هجرة، ليس فيها ساكن. هشام ص 499.

5. التضحية بالعائلة كلها:
أي نوع من الدعاة كان أبو بكر رضي الله عنه!؟

لقد سخّر كل ما يملك فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخدمة لدعوته...
سخر نفسه، وأولاده، وأمواله، وعبيده، ورواحله، وأغنامه، لخدمة العقيدة، وإنجاح الهجرة...
أما هو فخادم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرافق له، يفديه بالروح والدم والعشيرة..

وأما أهل بيته، ومواليه، فقد كان لكل واحد منهم مهمة..
فعبد الله بن أبي بكر، لتنصّت الأخبار، وأسماء بنت أبي بكر، لجلب الطعام، وعامر بن فهيرة مولاه، لتعفية الآثار...

والرواحل للركوب. والغنم لشرب اللبن. والمال يستأجرون به الدليل، ويتبلغون به على الطريق...
فهل رأيتم في الدنيا أعظم وأبرك على الدعوة من عائلة هذا الحواري الجليل، رضي الله عنه.!؟.

6 - نموذج تضحية الأنصار بمالهم لنصرة إخوانهم المجاهدين في سبيل الله و فيهم نزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8].

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].

ايها المعافى اليوم، ما عذرك؟
اللهم أدم علينا نعمة الصحة والعافية، ومنّ على مرضى المسلمين بالشفاء العاجل. أيها الأفاضل، لقد عذر الله تعالى المرضى والعاجزين في كثير من الطاعات، سواء بإسقاطها عنهم كلية، أو بتغيير هيئات أدائها إشفاقا عليهم.. ولكن همة الصحابة الكرام كانت من العظمة والقوة بالقدر الذي تتحدى به الأمراض والأسقام، و لا توقفها آهات الألم والأوجاع.. وما ذلك إلا لأن القلوب والأرواح تستمد قوتها من قوة خالقها تعالى.. فتتحامل الأجساد المهترئة بالأوصاب، وتخضع لسلطان الأرواح الطموحة.. وقديما قالها المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارا ♦♦♦ تعبت في مرادها الأجسام

تلكم هي قصة الصحابي الكريم ضمرة بن جندب رضي الله عنه. ولنكملها هي الأخرى من القرآن الكريم.. قال قتادة رحمه الله: " لما نزلت ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ [النساء: 97]، قال رجل من المسلمين وهو مريض: والله ما لي من عذر! إني لدليل في الطريق، وإني لموسر، فاحملوني.. فحملوه فأدركه الموت في الطريق؛ فقال أصحاب النبي: لو بلغ إلينا لتم أجره؛ وقد مات بالتنعيم. وجاء بنوه إلى النبي وأخبروه بالقصة، فنزلت: ﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100].. ذلكم الرجل المريض الذي انتفضت روحه ضد المرض، وتسامى بنفسه الأبية عن التخلف رغم عذره.. ذلكم الرجل الذي يأبى مجاورة المشركين، ويتهادى فوق بعيره خلال سفره.. ذلكم الرجل الذي أتته منيته وبعيره يمخر به عباب الصحراء.. ذلكم الرجل الذي يتساءل الناس عن مآله ولمّا يبلغ مراده.. ذلكم الرجل الذي يُنزل الله فيه آية تبشره بالأجر والمثوبة العظيمة، وتذهب عن الناس لبس التساؤل وغموض الحيرة عن مصيره.. ذلكم الرجل هو ضمرة بن جندب رضي الله عنه.. أخي المبارك، هل أقعده مرضه، هل حبسته علته؟ كلا، فإن: الدين أغلى! فما بال الأصحاء اليوم إذا دعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله اثاقلوا إلى الأرض، ورضوا بالحياة الدنيا؟؟

من هذه النماذج نخلص إلى أن بناء الدولة الإسلامية يحتاج إلى جهاد من جديد، وهذا الجهاد لابد له من تضحية بكل عزيز، و لا يمكن تحرير المقدسات الإسلامية بالخطب و المقالات و المؤتمرات والندوات و لكن بالجهاد بالمال و بالنفس و بكل عزيز و غال.

لذلك إن الهجرة قمة التضحية بالدنيا من أجل الآخرة، كل إنسان ببلده بمسقط رأسه له مكانة، له أسباب للرزق، له معارف، له أصدقاء، لكن إذا ثبت له أن بقاءه في هذا البلد يعيق تقدمه الديني فلابدّ من أن يهاجر، لذلك الهجرة قمة التضحية بالدنيا من أجل الآخرة، ذروة إيثار الحق على الباطل، الهجرة في أدق تعاريفها ليست انتقال رجل من بلد قريب إلى بلد بعيد، وليست ارتحالاً مفتقراً من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، إنها إكراه رجل آمن في سربه، ممتد الجذور في مكانه، على إهدار مصالحه، والتضحية بأمواله، وتصفية مركزه، والنجاة بشخصه، من أجل ألا يفتن في دينه، المحرك هو الدين، الآن الحركة مال فقط، ينتقل من بلد يعبد الله رب العالمين إلى بلد فيه من التفلت ما يبعد أكبر مؤمن عن الدين، الحركة الآن حركة مالية فقط، يبحث عن مركز، عن منصب، عن مال، عن دنيا، عن متاع، أما الهجرة فحركة دينية، حركة من أجل الإيمان، حركة من أجل أن يعبد الإنسان الواحد الديان.

الهجرة فيها تضحية تتمثل في ترك الوطن الغالي ذلكم أن المهاجر يقطع عروقاً نمت فيه من أهله وعشيرته وذكرياته الجميلة.. إنها تضحية كبيرة أن يُضطر صلى الله عليه وسلم ومن آمنوا معه إلى ترك مكة. وأيُّ مكة؟ إنها البلد الحرام المحبب إلى نفسه.. اسمعوه صلى الله عليه وسلم يغادر مكة مرغماً متأسفاً وهو يقول لها: (والذي نفسي بيده إنك من أحب بلاد الله تعالى إلى قلبي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)، ولكن تهجر الأوطان ويضحي بالنفوس والمهج من أجل الدين والإيمان، وطن يغلق فيه صوتي لا بد أن أهجره، وطن يُكسر فيه قلمي لا بد أن أهجره، وطن يضيق فيه على أتباعي وتلامذتي لابد أن أغادره وأتركه.
الدين رأسُ المال فاستمسك به ♦♦♦ فضياعه من أعظم الخسران

فمتى يضحى المسلمون بأقواتهم وأرزاقهم من أجل إخوانهم، متى يشعرون أننا بالفعل جسد واحد "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". هكذا قامت دولة الإسلام وبذلك تنهض، فالإسلام لم ينتشر إلا بسلسلة من التضحيات، فليذد كل منا بنفسه وماله ووقته، وليضح كل واحد منا بشهواته ومطامعه، ليكمل ما بدأه المسلمون الأوائل، ولتكن السنة الهجرية الجديدة عنوانا للتضحية بكل غال ونفيس من أجل قيم ديننا الحنيف.


إن للتضحيات دوراً كبيراً في بناء الأمم ونهضتها والحصول على حريتها. ما أكثر من يموت لكن شتان بين من يموت على فراشه أو في سبيل شهواته وبين مَنْ يموت في سبيل دينه وعقيدته وحريته دفاعًا عن وطنه، هذه هي التضحية التي نريدها بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه.

تلكم أيها الأحبة الكرام مشاهد قليلة من ملحمة الحب والتضحية التي سطّرها أسلافنا الكرام من الصحابة الأخيار حين دعاهم رسول الله إلى الهجرة.. ما تهاونوا وما تراخوا في تلبية النداء، وما بخلوا بأنفسهم ولا بأموالهم في سبيل نصرة نبيهم، وما كبلتهم عواطفهم نحو أهليهم وأبنائهم وبلدانهم، ولا حالت بينهم وبين الانطلاق إلى طيبة المباركة. فهلا سرنا على خطى هؤلاء الأحبة، وهلا تحررنا من قيود الدنيا وفتنها لننطلق بصدق وثبات منتصرين لهذا الدين، عاملين على استعادة المجد والسؤدد والتمكين. اللهم ألهمنا الصواب، واهدنا سبل الرشاد. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 70.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 68.97 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (2.43%)]