مقاصد الحج ومنافعه - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 32 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859223 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393556 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215803 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-08-2020, 03:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي مقاصد الحج ومنافعه

مقاصد الحج ومنافعه
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز الدهامي




الحمد لله رب العالمين، فرض الحج على عباده القادرين، ووعدَ سبحانه بمغفرةِ ذنوبِ المخلصين. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، إلهُ الأولين والآخرين، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، خاتمُ النبيين، وإمامُ المتقين، وقائدُ الغرِّ المحجلين، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابه ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.

أما بعد:
فاتقوا الله - أيها المسلمون- حقَّ التقوى، واشكروه على نعمِه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].

ألا، وإنَّ مما شرعَه اللهُ لعباده لِحكمٍ عظيمة، وأسرارٍ سامية، وغاياتٍ نبيلة: «الحجُ إلى بيتِه العتيقُ».
قال تعالى ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 27 - 29].

﴿ جَالًا ﴾: أي «مُشاةً على أرجلِهم مِن الشَّوق»، ﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾: «أي: ناقةٍ ضامر، تقطعُ المهامِهَ[1] والمفاوز»[2].
دَعَاهُم فَلَبَّوهُ رِضىً وَمَحبَّةً
فلما دَعَوْهُ كانَ أَقْرَبَ مِنْهُمُ

تَراهُم على الأنْضَاءِ شُعثًا رُءوسُهُم
وغُبرًا وهم فيها أَسَرُّ وأَنْعَمُ

وَقَدْ فَارَقُوا الأَوْطَانَ والأَهْلَ رَغْبَةً
ولم يَثْنِهِم لِذَاتُهُم والتَّنعُّمُ[3]


﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ[الحج: ٢٨]: ما أعجبَ هذه الكلمة، وما أوجزَها وأجمعَها! تُرى ما هي المنافع التي يشهدُها حجاجُ بيتِ الله الحرام؟

معاشر المسلمين: إنها منافعُ الدِّينِ والدنيا، فمنافعُ الحجِّ تفوقُ الحصرَ، ولا يُحصيها العدُّ، وما نجهلُه منها أكثرُ مما نعلمُه. فالحجُّ أعظمُ مجَامِعُ المسلمين، يلتقونَ فيه متجردينَ مِنْ كلِّ آصِرَةِ سوى آصِرَةِ الإسلام، عرايا مِنْ كُلِّ شيءٍ إلا ثوبَ الإحرام.

التقوى لباسُهم، والتلبيةُ شِعارُهم، ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ [البقرة: 138]، يتذكَّرون في تلك العرَصَات اجتماعَهم يومَ الحشرِ بين يدي فاطرِ الأرضِ والسماوات، وقد نبَّه اللهُ تعالى على هذا المشهدِ العظيمِ بقولِه: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203].
فَللهِ ذَاكَ المَوْقِفُ الأَعْظمُ الذِي
كَمَوقِفِ يومِ العَرضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ

وَيدْنُو بِهِ الجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ
يُبَاهِي بهِمْ أَمْلَاكَهُ فهْوَ أَكْرَمُ

يَقُولُ عِبَادِي قَدْ أتَونِي مَحَبَّةً
وإِنِّي بهِمْ برُّ، أجُودُ وأُكْرِمُ

فأُشْهِدُكُم أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُم
وأَعْطَيْتُهُم مَا أمَّلُوه، وأُنْعِمُ[4]


بذلك الجمْعِ المهيبِ، التائبِ المنِيبِ، يُبَاهِي اللهُ ملائِكتَه، قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللُه فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْـمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ؟»، رواه مسلم[5].

وأيُّ منفعةٍ أعظمُ مِنْ أن يرجعَ العبدُ مِن ذنوبِه كيوم ولدتْه أمُّه، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ لِلهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، رواه البخاري[6].

«وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ»، رواه البخاري ومسلم[7].

فمغفرةُ الذنوبِ وتكفيرُ السيئاتِ مِنْ أعظمِ منافعِ الحج.

عباد الله:
وفي الحَجِّ: تجديدُ التوحيدِ، وتحقيقُ التجريدِ للحميدِ المجيدِ، فتتجدَّدُ عقيدةُ التوحيدِ بمشاهدةِ البيتِ العتيقِ الذي بُنِي لذلك الأمرِ الرشيدِ، ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26].

وفي الحَجِّ: تهذيبٌ للنفوس مِن الاختلافِ في الآراء، وتطهيرٌ للقلوب مِن الأحقادِ والأهواء، ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].

وفي الحَجِّ: تظهرُ للمسلمين وحدتُهم، وتتجلى ألفتُهم، ولهذا «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ، مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلّاَ لـِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ »، رواه مالك في «الموطأ»[8].

قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا في وسطِ أيام التشريق، فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى»، رواه أحمد[9].

إنها الترجمةُ العمليةُ للوحدةِ والاجتماع، ونبذِ الفرقةِ والاختلاف، تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103] [آل عمران:١٠٣]، ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].

إنَّه الحجُ إلى بيتٍ نسبَه اللهُ إلى نفسِه العليَّة تشريفًا وتكريمًا وإجلالًا، ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ﴾ [الحج: 26].

وقد جمعَ اللهُ تعالى للحجِّ حُرمتين:
«حرمةَ الزمانِ، وحرمةَ المكان»، ليقوى الشعورُ بحرمةِ هذا الركن العظيم مِن أركان الدِّين، وليكون الحاجُ في جميع أحوالِه مستشعرًا قُدسيةَ الزمان والمكان، ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36].

وأما حُرمةُ المكان، فقد جاء أيضًا في القرآن: ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 91].

وعن أبي بكْرةَ رضي الله عنه قال: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ ذُو الْـحَجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ. أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ. فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» [10].

ولذلكم كانت المعصيةُ في الحرمِ أغلظ، والظلمُ فيه أشد، حتى إنَّه ليُعَاقبُ العازِمُ على الشرِّ وإن لم يفعل، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].

معاشر المسلمين: هل نعي أسرارَ الحجِّ ومنافعَه، وآثارَه ومقاصدَه؟ فإنَّ إدراكَ ذلك يتركُ في النفس أعمقَ الأثر. ففي كل عملٍ مِن أعمالِه تذكرةٌ، وفي كل نُسكٍ مِن أنساكِه تبصرةٌ.

وقد ذكر اللهُ تعالى أحكامَ الحج في سورة البقرة، بعد أحكام القتال في سبيل الله، فإنَّ الحجَ أحدُ الجهادين، كما روى البخاريُّ عن أمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنه أنَّها قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: «لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» [11].

فإنَّ جهادَ الكفار طريقُ بناءِ الأمة، وحفْظِ وجودِها، وإرساءِ كيانِها. وأما الحجُّ فهو سبيلُ توحيدِ الأُمَّة ولَمِّ شتاتها وجمْعِ كلمتِها. وبعد ذلك أعقبَ اللهُ تعالى بذِكْرِ النفاقِ وعلامات المنافقين تحذيرًا للأُمةِ مِن مكائدِهم ودسائسِهم، إذ ليس كالنفاقِ أشدُّ خطرًا على الأُمَّة في تقويضِ بنائِها، وبعثرةِ جهودِها، وعرقلةِ سيْرها.

﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 27 - 29]

اللهم كفنا شرَ الأشرار، وكيدَ الفُجار. اللهم ارزقنا الفقهَ في دينك، والبصيرةَ في شرعك، والتوفيقَ لطاعتك.

بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيه مِن الآياتِ والذِّكْرِ الحكيم. أقولُ ما تسمعون، واستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيم.

الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانِه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وإخوانِه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين وسلَّم تسليمًا.

أما بعد:
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

معاشرَ المسلمين، أيها الشباب: تعجلوا إلى الحج، فإنَّ أحدَكم لا يدري ما يعرِضُ له؛ «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ، هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا».

فإنَّ الحجَ إلى بيتِ الله الحرامِ فرضٌ على الفور، لا يجوزُ تأخيرُه بعد البلوغِ للقادرين، فعن عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه قال: «مَن أطاقَ الحجَّ فَلم يحُجَّ، فسواءٌ عليهِ يهوديًّا ماتَ أو نصرانيًّا»[12].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى عمر»[13].

وروى سَعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: قال عمر رضي الله عنه: «لَقد همَمْتُ أنَّ أبعثَ رجالًا إلى هذه الأمصارِ فيَنظروا كلَّ مَن كان له جِدَةٌ فلَمْ يحجَّ، فيضرِبوا عليهم الجزية، ما هم بمُسلِمين، ما هم بمُسلِمين»[14].

وقال صلى الله عليه وسلم: «لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جَدةٌ فلم يحج، فيضربوا عليهم الجِزْية، ما هم بمسلمين. ما هم بمسلمين»[15].

عباد الله: إنَّ تأخيرَ الحج بلا عذرٍ شرعي خطرٌ عظيمٌ، وتفريطٌ كبير، أفبعد قول الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، يتباطأُ المستطيعون، ويتساهلُ القادرون، ولهذا لما فُرِضَ الحجُ بادرَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدون تأخير، وخرج معه المسلمون، ووافاه في الطريق خلائق لا يُحصون، وكانوا عن يمينه وشماله، وبين يديه مدَّ البصر.

ولقد خرَجت أسماء بنتُ عميس - زوجُ أبي بكرٍ رضي الله عنه - حاجّةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فور فرضيةِ الحج فولدت بذي الحليفة- ميقات أهل المدينة، فأمرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تغتسلَ، وتستثفر، وتُحرِم، وتُهل[16].

فأين ما يتعلل به الكثيرون منَ الأعذار الواهيةِ مِن حال تلكم المرأة الحبلى، وما تبِعَ وضعها مِن عناء الطريق، ووعثاء السفر، وبُعد الشُّقة - رضي اللهُ عنها وأرضاها ؟
إنَّ الفرصَ إذا أُتيحت للإنسان فأضاعها، عوقِبَ بالحرمانِ منها، ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ [التوبة: 46].

إنَّ كثيرًا من الأعذارِ لا قيمةَ لها، ولا يعبأُ اللهُ بها. فمن استطاع ببدنِه وماله وجبَ عليه البدارُ. وحقٌّ على الأبِ أن يُعين ولدَه إذا أطاقه، وليتخير له صحبةً صالحة، تُذكرُه إذا نسي، وتعينه إذا ذَكر، ليبقى في تلك العرصات المباركات، ويجتني من تلك الثمرات.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم ألهمنا رُشدنا.. اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر.. اللهم أرنا الحق حقاً..

هذا، واعلموا أنَّ اللهَ أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفْسِه، فقال جلَّ مِن قائلٍ عليمًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].


[1] «المَهْمَه: المفَازَةُ والبريَّة القَفْر، وجمعها: مَهَامِه»، «النهاية في غريب الحديث»، (ص: 889).

[2] تفسير «تيسير الكريم الرحمن» للشيخ السعدي، (3 /1097).

[3] ميمية ابن القيم.

[4] ميمية ابن القيم .

[5] حديث عائشة رضي الله عنها: رواه مسلم في الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ، رقم (1348).

[6] حديث أبي هريرة رضي الله عنه: رواه البخاري في الحج، باب فضل الحج المبرور، رقم (1521)، ورواه مسلم في الحج، باب في فضل الحج والعمرة، رقم (1350).

[7] حديث أبي هريرة رضي الله عنه: رواه البخاري في الحج، باب وجوب العمرة وفضلها، رقم (1733)، ورواه مسلم في الحج، باب في فضل الحج والعمرة ، رقم (1349).

[8] رواه مالك في «الموطأ»، في الحج، رقم (245)، ورواه البيهقي في «الشعب»، رقم (3775)، كلاهما من رواية طلحة بن عبيدالله بن كريز أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ... الحديثَ. قال في شرح السُّنة، (7 /158): «هذا حديث مرسل»، وضعَّفه الألباني في «ضعيف الترغيب»، رقم (739).

[9] رواه أحمد، رقم (23489)، ورواه البيهقي في «الشعب»، (4774)، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، وصححه الألباني في «الصحيحة»، رقم (2700).

[10] رواه البخاري في الحج، باب الخطبة أيام منى، رقم (1741).

[11] رواه البخاري في الحج، باب فضل الحج المبرور، رقم (1520).

[12] رواه أبو نعيم في «الحلية »، (9 /252).

[13] «تفسير القرآن العظيم» للحافظ ابن كثير، (2 /85).

[14] عزاه الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره»، (2 /85) إلى سعيد بن منصور في «سُننه» عن الحسن البصري عن عمر رضي الله عنه، قال الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله في «تنقيح التنقيح»، (3 /410) مُعقِّبًا: «هذا الأثر مرسلٌ، لأنَّ الحسن لم يسمع من عمر رضي الله عنه».

[15] «تفسير القرآن العظيم» للحافظ ابن كثير، (2 /85).

[16] عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه في صفةِ حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال رضي الله عنه: «فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الـْحُلَيْفَةِ، فولدتْ أسماءُ بنتُ عُميسٍ محمدَ بنَ أبى بكرٍ، فأرسلَتْ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ:«اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي»، رواه مسلمٌ في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



 

[حجم الصفحة الأصلي: 68.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 65.84 كيلو بايت... تم توفير 2.33 كيلو بايت...بمعدل (3.41%)]