|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الإسلام دين الوسطية (2) د. محمد ويلالي شبه حول وسطية الإسلام الخطبة الأولى وقفنا في الجمعة الماضية عند بعض أهم معاني الوسطية في الإسلام، وتبين لنا أن المقصود ما تميز به ديننا من اعتدال خير في كل شيء، بحيث لا يجنح إلى طرف على حساب طرف، فلا إفراط ولا تفريط، ولا مبالغة ولا تقصير، انطلاقا من قوله تعالى: ï´؟ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ï´¾ [البقرة: 143]، وأتينا على القول الجامع لابن القيم رحمه الله: "خير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرِّطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين". وها هنا يثير المشككون جملة من الشبه، يريدون من خلالها أن يفهموا نصوص الشريعة على غير مراد من أنزلها عز وجل وارتضاها دينا لأوليائه، كما بينه رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، وكما فهمه الصحابة الكرام وخيرة العلماء بعدهم. والخطير في الأمر أنهم يلبسون شبههم لبوس الشرع نفسه، فيطلونها بطلاء القرآن والسنة، تلبيسا على المبتدئين، وتمويها على شباب المسلمين، كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "لا تجد مبتدعاً ممن ينتسب إلى الملة، إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي، فينزله على ما وافق عقله وشهوته". وقال ابن حجر رحمه الله في مثل هؤلاء الذين ينتزعون هذه النصوص، ويعطونها أبعادا غير مقصودة: "انتزعوها من القرآن، وحملوها على غير محملها". ومن هذه الشبه: 1 - استدلالهم بقول الله تعالى: ï´؟ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ï´¾ على أن الإنسان مخير بين الأديان، يدين بأيها شاء، ويختار منها ما يوافق هواه، ويساوق مبتغاه، فلا حرج عندهم أن يكون الإنسان مسلماً، أو نصرانياً، أو بوذياً، أو سيخياً، أو مجوسيا. قال ابن القيم رحمه الله معلقا على الآية: "معاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريراً لهم، أو إقراراً على دينهم أبداً، بل لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه، أشدّ على الإنكار عليهم، وعيب دينهم، وتقبيحه، والنهي عنه". وقال شيخ الإسلام: "هذه كلمة تقتضي براءته من دينهم، ولا تقتضي رضاه بذلك". ومثل ذلك قوله تعالى: ï´؟ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ï´¾ [يونس: 41]. قال ابن كثير: "وإن كذبك هؤلاء المشركون، فتبرأ منهم ومن عملهم". وهو نظير قول إبراهيم عليه السلام وأتباعه لقومهم المشركين: ï´؟ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ï´¾ [الممتحنة: 4]. ويعزز المشككون رأيهم بقول الله تعالى:ï´؟ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ï´¾، أي: إن الإنسان في زعمهم يمكن أن يكون مسلما ويرتد إلى النصرانية، أو اليهودية ولا حرج، ما دامت الآية تخير بين الأمرين، مع أن الله تعالى ذكر حكم الردة صراحة فقال: ï´؟ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ï´¾ [البقرة: 217]. ولماذا قاتل النبي صلى الله عليه وسلم قريشا، وقاتل المسلمون فارس والروم حتى انتشر الإسلام بساحتهم ولله الحمد؟ هل قالوا لهم: "فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ"؟. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي" رواه أحمد وحسنه في الإرواء. وقال صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِي، فَلَهُ أَجْرَانِ" متفق عليه. وفي الحديث: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم. وقال ابن عباس رضي الله عنه: "ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بُعث محمد وهو حي ليؤمنن به، ولينصرنه. وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق: لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنُن به، ولينصرنُه" ص. السيرة النبوية. أما توجيه الآية: ï´؟ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ï´¾ [الكهف: 29]، فقد قال ابن كثير: "هذا من باب التهديد والوعيد الشديد؛ ولهذا قال: ï´؟ إِنَّا أَعْتَدْنَا ï´¾ أي: أرصدنا "لِلظَّالِمِينَ" وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه ï´؟ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ï´¾ [الكهف: 29]، أي: سورها". 2 - ومن شبههم اعتقادهم أن ما يقرره العلماء من أحكام دينية منبثقة عن الكتاب والسنة فيه تشدد وتزمت وإلزام، ولا يراعي التيسير على الناس، ويستدلون بقول الله تعالى: ï´؟ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ï´¾ [البقرة: 185]، وقوله تعالى: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يسر". ويقولون إنه بعث معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن وأوصاهما قائلا: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا" متفق عليه. ويجعلون لازم هذه النصوص أن يُطلَق العِنان للناس أن يعبوا مما تشتهيه النفوس من حلال وحرام؛ فالربا لا بأس به، لأنه ضرورة اقتصادية، فالدين يسر، والتدخين عادة عمت بها البلوى فلا إثم فيها، فالدين يسر، والعطر الخفيف للمرأة لاستقبال الضيوف لا بأس به، لأن الإيمان في القلب، والنظر إلى المتبرجات مما جرت به العادة، فالدين يسر. وقد يسوغون كل ذلك بكونه من ضرورات العصر التي لا فكاك منها، ولا محيد عن اقترافها، ويقولون: "إن الضرورات تبيح المحظورات"، ويستندون إلى قوله تعالى: ï´؟ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ï´¾ [البقرة: 173]، وينسون قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ" متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله فَرَضَ فرائِضَ، فَلا تُضَيِّعُوها، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدوها، وحَرَّمَ أَشْياءَ، فلا تَنتهكوها، وسَكَتَ عنْ أشياءَ رَحْمةً لكُم غَيْرَ نِسيانٍ، فلا تَبحَثوا عَنْها" رواه الدارقطني وهو حديث حسن. إن اليسر المذكور أن يخفف الله على العباد ما يرهقهم ويضنيهم، وما يعنتهم ويشق عليهم، فذلك مما رفع فيه الحرج، وحكم فيه التيسير، حتى لا تنقلب المصلحة مفسدة، إذ الشريعة كما قال ابن القيم رحمه الله: "مبناها وأساسها على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها، و مصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة". عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ يَقُولُ: "خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا". وَكَانَ يَقُولُ: "أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ" مسلم. فكان من اليسر تقصير الصلاة في السفر، والإفطار في رمضان في السفر، وجمع الصلاة في السفر أو المرض، أو عند المطر، والمسح على الجوربين للمقيم يوما وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وغير ذلك مما هو مظنة المشقة، حتى قال علماء الأصول: "المشقة تجلب التيسير". قال ابن حجر: "لا يتعمقْ أحد في الأعمال الدينيَّة ويتركِ الرفق، إلا عجز وانقطع فَيُغْلَب". ومما عمق هذا الفكر المناوئ، ظهور فتاوى غريبة، تخرج على الناس من حين إلى آخر، تجعل من المتدينين مسخرة لمثل هؤلاء الذي يهتبلون كل شاذ، ليتهموا به الشريعة الغراء، ويمالِئوا به أهل الأهواء. الخطبة الثانية 3 - ومن شبههم المعاصرة، استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال" صحيح سنن أبي داود، على ضرورة المساواة التامة بين الرجل والمرأة، ويزعمون أن المرأة في هذا الزمان صارت تزاحم الرجال في طلب العلم، وطلب الوظيفة، وتتقلد فيه المناصب العليا، فالزمان في زعمهم قد تغير، والفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، فلا حاجة للجمود على أحكام القرآن والسنة، فقد تجاوزهما العصر. ولقد استهوت هذه الشبهة المغرضة كثيراً من النساء، فخرجن يطالبن بالمساواة في الإرث، ومنعِ التعدد، والحق في الطلاق، والتخلص من المحرم في السفر، والتملص من الوصاية حتى وإن كانت من طرف الأب، وطالبن بأن يكن مثل الرجال سواء بسواء. فإذا نصحهن الغيور عليهن بأن هذا مخالف لشرع الله، صرخن وقلن: "النساء شقائق الرجال". وَدَعَوتَني وَزَعَمتَ أَنَّكَ ناصِحٌ ![]() فلَقَد صَدَقتَ وَكُنتَ قبلُ أَمينا ![]() وَعَرَضتَ ديناً قَد عَلِمتُ بأَنَّهُ ![]() مِن خَيرِ أَدي إنِ البَرِيَّةِ دينا ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() الإسلام دين الوسطية (3) د. محمد ويلالي شبه حول وسطية الإسلام الخطبة الأولى لا يزال حديثنا عن وسطية الإسلام متواصلًا، بعد أن وقفنا في جمعتين ماضيتين عند جملة من الشبه، التي حاول أصحابها - من خلالها - أن يطعنوا في هذه الوسطية، كزعمهم بأن الإسلام يقرر حرية الأديان، ويخير أصحابه بين البقاء على دينهم أو الارتداد عنه إلى دين آخر، لأن القرآن يقول: ï´؟ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ï´¾، وادعائهم أن ارتكاب المعاصي واجتراح المنكرات، من ضرورات هذا العصر فلا تثريب فيها، إذِ "الضرورات تبيح المحظورات"، وافترائهم على الإسلام بأنه أباح المساواة التامة بين الرجال والنساء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال"، وختمنا باتهامهم دين الله بكون عقوباته المترتبة على الجرائم، عقوبات فيها قسوة وغلظة، لا تصلح لزماننا، زمان حقوق الإنسان، وحفظ كرامة الإنسان، وعضدنا تفنيد كل ذلك بالأدلة الشرعية، والعقلية، والواقعية، والإحصائية. وموعدنا اليوم - إن شاء الله - مع إحدى الشبه الأخرى التي طالما لوحوا بها، ونشروها في الجرائد، والمجلات، والقنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية، ليزعزعوا بها موقف شباب المسلمين من دينهم، وليطفئوا جذوة اعتزازهم بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إن دينكم الإسلام دين الإرهاب والتطرف، لا يؤمن بالتعايش، ولا يمشي بين الناس بالتسامح، دين يَغضب أتباعه لأتفه الأسباب، ويَقتلون لمجرد الشبهات، ويخربون - بغير حق - البيوت والمنشآت. وانطلت هذه الشبهة على بعض الغمر من أبنائنا، وجاؤوا يستفهمون عن صحة هذا القول، ويقرنون به ما يبدر عن بعض الجهال ممن ينتسبون لديننا، من أفعال مشينة، وتصرفات التهور والرعونة، من تفجير هنا، وتقتيل هناك، واعتداء هنالك، وما علموا أن الحجة في دين الله قرآنا وسنة، وليس في أفعال الرجال وتصرفاتهم، إذ "الرجال يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال" كما أثر عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. إن أعظم دين حث أتباعه على العدل والإنصاف، هو دين الإسلام، وإن أعظم دين نبذ التطرف والغلو هو دين الإسلام، ليس ادعاء، وإنما نصوصًا، وسيرة، وتاريخاً. قال الطحاوي ـ رحمه الله ـ: "ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو دين الإسلام.. وهو بين الغلو والتقصير". يقول تعالى: ï´؟ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ï´¾ [المائدة: 8]. قال شيخ الإسلام: "أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد في كل حال". وقال أبو عبيدة والفراء: "معنى "لا يَجْرِمَنَّكُمْ": أي: لا يُكسِبنكم بغضُ قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم". قال ابن كثير - رحمه الله -: "وقال بعض السلف: ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعدلُ به قامت السموات والأرض". وهذا ليس مع المسلمين وحسب، بل مع من تحب ومن تكره. تأمل هذه القصة العجيبة، لتعلم حقيقة ما أمرنا به شرعنا من الوسطية في الحكم، والعدل في القضاء، ولو كان الخصم من ألد أعداء المسلمين وهم اليهود. أورد أبو حيان في تفسيره عن طُعمَة بن أُبَيرِق، "أنه سرق دِرعًا من جاره قتادة بن النعمان، في جراب دقيق، فجعل الدقيق يسقط من خَرْق فيه، وخبَّأها عند يهودي، فالتُمس الدرعُ عند طُعمة، فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، فتركوه، واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال اليهودي: دَفَعَهَا إليَّ طُعمَة، وشهد له ناس من اليهود، فقال رهطُ طعمةَ من بني ظَفَر: انطلقوا بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنسأله أن يجادل عن صاحبنا، وقالوا: إن لم يفعل هَلَكَ وأفتضَح، وبرئ اليهودي. فهمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتماداً على ظاهر الأمر، ولم يكن له عَلِمَ بالواقعة، فنزلت الآية: ï´؟ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ï´¾ [النساء: 105 - 108]. ولما أخذ الوليد بن عبد الملك كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز، شكا إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم. دين ينصف الأعداء من المسلمين، يقال عنه إنه دين التطرف، ودين الترهيب؟ أليس هذا عين الإنصاف الذي عرفه علماء المسلمين بأنه: "استيفاء الحقوق لأربابها، واستخراجها بالأيدي العادلة، والسياسات الفاضلة"، إعمالا لقوله تعالى: ï´؟ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ï´¾ [الممتحنة: 8] (تحسنوا إليهم) ï´؟ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ï´¾ [الممتحنة: 8] (تعاملوهم بالعدل) ï´؟ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ï´¾"؟. ألم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعود مرضاهم، ويؤنس حزينهم؟ روى البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان غلامٌ يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: "أسلم". فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: "أطع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -"، فأسلم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار". قال الحسن: "إذا عزيت الذمي فقل: لا يصيبك إلا خير"، وكأنها دعوة له بالهداية. وعزى الأجلح نصرانيا فقال: "عليك بتقوى الله والصبر". ألم يعف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اليهودية التي قصدت قتله بإطعامه شاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك؟ فقالت: "أردت لأقتلك". قال: "ما كان الله ليسلطك على ذاك". فقالوا: "ألا نقتلها؟". قال: "لا" متفق عليه؟. ولما تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود في خيبر، ماذا فعل؟ هل قتلهم؟ هل أبادهم؟ هل ألقى عليهم قنابل البسفور المحرقة؟ هل دمر مساكنهم، واغتصب نساءهم؟ لقد أعطاهم خيبرَ، وملَّكهم إياها، على أن يَعمَلوها، ويزرعوها، ولهم شطر ما خرج منها كما ثبت في الصحيحين. وبعد ذلك كان يدعو لهم بالهداية وصلاحالبال، حتى إذا فطن اليهود لذلك، أخذوا يتَعَاَطسَوُنعنِدْه،يرَجْوُنأنَيقَوُللهَمُ: "يرحَمكُمُالله"، فيَقَوُل: "يهديكمُاللهويَصُلْحِباَلكَمُ" صحيح سنن الترمذي. كل هذا دفع أحد كبرائهم يدعى "ولديورانت" إلى أن يعترف قائلا: "لقد كان أهل الذمة: المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون، يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام". ويقولون بعد ذلك: إن الإسلام دين الإرهاب والتطرف. وإذا عفوت فقادرا ومقدَّرا ![]() لا يستهين بعفوك الجهلاء ![]() الخطبة الثانية لما تمكن النصارى من رقاب المسلمين في الأندلس، هل عاملوهم بمثل معاملة المسلمين لهم؟ هل استحضروا يوم ذاك حقوق الإنسان، وكرامة الإنسان؟ لقد أحرقوا عشرات الآلاف من كتب الشريعة الإسلامية، وفرضوا على المسلمين ترك دينهم، وحولوا مساجدهم إلى كنائس، وأرغموهم على اعتناق النصرانية، وحرموا عليهم استخدام اللغة العربية، والأسماء العربية، وارتداء اللباس العربي، والختان، والوقوف تجاه القبلة، ومن يخالف ذلك كان يحرق حيًّا بعد أن يعذّب أشد العذاب، حتى الذين تنصروا كانوا يحاكَمون لأتفه الأسباب، ويعذبون أشد العذاب، وتصدر في حقهم أحكام تلزمهم بارتداء لباس معين طول حياته، ويلتزم النصارى بسبهم كلما ساروا في الشارع، أو خرجوا من بيوتهم، بل حاكموا حتى الأموات، ونبشوا قبورهم. أما اليهود فقد جاوزوا كل الحدود الدينية، والقانونية، والإنسانية، فجعلوا قتل الفلسطينيين لله قربانا، وهتك الأعراض واجبا، وتدمير البيوت افتخارا، والتفنن في التعذيب والتنكيل بهم تسلية، حتى إنهم قتلوا أزيد من 150 ألف فلسطيني في عقود، وهجروا آلافا آخرين، ودمروا آلاف البيوت والمرافق والمنشآت، وحرموا الناس من الماء والكهرباء، ودربوا نساءهم وأطفالهم على قتل الفلسطينيين، ومع كل ذلك، ينسبون لأنفسهم النزاهة، واحترام القوانين الدولية، أما الإسلام عندهم، فهو دين الإرهاب والتطرف. ملكنا فكان العفو منا سجية ![]() فلما ملكتم سال بالدم أَبطُح ![]() وحَلَّلتمُ قتل الأسارى وطالما ![]() عدونا على الأسرى فنعفو ونصفح ![]() وحسبكمُ هذا التفاوت بيننا ![]() وكل إناء بالذي فيه ينضح ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() الإسلام دين الوسطية (5) د. محمد ويلالي شبه حول وسطية الإسلام (4) الخطبة الأولى ما تزال الشُّبَه المعادية لوسطية الإسلام، تعمي أعين الأعداء، وتُصِم آذانهم، وهم يبحثون عن مغمز في شريعة الله يتشبثون به؛ ليظهروا للناس أن الإسلام دين الفوضى والتخلف، دين الرجعية والظلامية، دين التطرف والإرهاب، ï´؟ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ï´¾ [البقرة: 109]، وحبا في المخالفة والتمايز ï´؟ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ï´¾ [النمل: 14]. ونتوقف اليوم عند شبهة أخرى لا تقل خطورة عما سبق، شبهة أراد أصحابها أن يصوروا الإسلام دينًا لا يعرف العدل، ولا يعرف التسامح؛ ليرسخوا في أذهان أتباعهم أنه دين الظلم والاعتداء، دين التجاوز والانتهاك، يلقون بهذا الكلام في الجرائد والمجلات، وفي المواقع الإلكترونية والقنوات: ï´؟ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ï´¾ [التوبة: 32]. والمقرر عند المسلمين، والمنصفين من غير المسلمين، أن الإسلام هو عين الإنصاف والعدل، دين السماح والبذل، دين العفو والرحمة، دين التعاون والرأفة، وليرجعوا إلى التاريخ؛ ليعلموا من العادل، ومن الظالم، ومن المنتهي، ومن المعتدي؟ فالله عز وجل ما أرسل الرسل إلا ليقيم العدل في الأرض، ويحارب الظلم والجور؛ قال تعالى: ï´؟ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ï´¾} [الحديد: 25]؛ قال ابن كثير: "أي: بالحق والعدل"، وقال أبو السعود: "وقيلَ: أُريدَ به العدلُ؛ ليقامَ بهِ السياسةُ، ويُدفعَ به العُدوانُ". لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم مثالًا للعدل المطلق، لا يغضب إلا لله، وإن استفزه المستفزون، فقد قسم ذَاتَ يَوْمٍ قَسْمًا، فَقَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ، فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "وَيْلَكَ، مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ"؛ البخاري، ومع ذلك لم يعنفه، ولم يسبه، ولم يشتمه، وإنما أزال شبهة علقت بذهنه. عنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ أَعْرَابي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ (أُضيِّق عليك) إِلاَّ قَضَيْتَنِي، فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: وَيْحَكَ، تَدْرِى مَنْ تُكَلِّمُ؟ قَالَ: إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلاَّ مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ"، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا: "إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرٌ فَنَقْضِيَكِ"، فَقَالَتْ: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَقْرَضَتْهُ، فَقَضَى الأَعْرَابيَّ وَأَطْعَمَهُ، فَقَالَ أَوْفَيْتَ أَوْفَى اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ: صلى الله عليه وسلم: "أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ، إِنَّهُ لاَ قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ - (غير منزعج)"؛ صحيح سنن ابن ماجه. فهل يقال بعد هذا: إن الإسلام دين الظلم، ودين الحيف؟ لقد نهانا ديننا أن نحابي أحدًا ولو كان من أقرب الأقربين، ما دام في المحاباة ظلم للغير، وانتهاك لحقه، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ترفع إليه المرأة المخزومية التي سرقت، وهي ذات حسب ونسبٍ، ويُوَسطون أسامة بن زيد حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع عنده، ليعفو عنها من إقامة الحد عليها، فكيف كان جوابه؟ قال لأسامة: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟"، ولم يكتف بذلك حتى قام في الناس خطيبًا؛ لتصل الرسالة إلى الجميع، فقال: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا"؛ متفق عليه؛ قال تعالى ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ï´¾ [النساء: 135]. قال ابن جرير: "قوموا بالقسط ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غني فتجوروا، فإن الله سوَّى بين حكم الغني والفقير". حتى اليهود الذين يتزعمون اليوم عداوة الإسلام والمسلمين، كانوا يتحاكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليقضي بينهم، لما علموه عنه من العدل المطلق في الحكم. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ï´؟ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ï´¾ [المائدة: 42]، قَالَ كَانَ بَنُو النَّضِيرِ إِذَا قَتَلُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَدَّوْا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِذَا قَتَلَ بَنُو قُرَيْظَةَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَدَّوْا إِلَيْهِمُ الدِّيَةَ كَامِلَةً؛ (وذلك لأن بني النضير كانوا أشرف من بني قريظة)، فَسَوَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ"؛ ص أبي داود. وأورد الألوسي عن ابن عباس رضي الله عنه: أن منافقًا خاصم يهوديًّا، فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يقضي بالحق، ولا يلتفت إلى الرِّشوة، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف؛ لأنه كان شديد الرغبة إلى الرشوة، واليهودي كان محقًّا، والمنافق كان مبطلًا، ثم أصرَّ اليهودي على قوله، فاحتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي". ولقد أوصى الله تعالى نبيه بألا يتجاوز العدل إلى الظلم، ولو كان المحكوم له غير مسلم؛ قال تعالى: "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"؛ قال ابن سعدي: "حتى ولو كانوا ظلمة أعداء، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم". وقال تعالى: "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ"؛ قال ابن سعدي: "وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء، والأموال، والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والفاجر والولي، والعدو". وتمثل هذا المنهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما فعل ابن رواحة مع اليهود لَمَّا بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لِيَخْرِصَ (يقدر) نخلهم، فجمعوا له حُليًّا من حُلي نسائهم، فقالوا له: "هذا لك وخفف عنا، وتجاوز في القسم"، فقال عبدالله بن رواحة: "يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف (أجور) عليكم، فأما ما عرضتم من الرشوة، فإنها سُحت، وإنا لا نأكلها"، فقالوا: "بهذا قامت السموات والأرض"؛ رواه مالك في الموطأ، وصححه في غاية المرام. وفي الموطأ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ، فَقَضَى لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ". هذه الوقائع العادلة الكثيرة، هي التي دفعت أحد المستشرقين يدعى توماس أرلوند إلى أن يقول: "كان المسلمون على خلاف غيرهم؛ إذ يظهر لنا أنهم لم يأْلوا جُهدًا في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس". هذا هو عدل الإسلام، وهذه هي وسطية الإسلام التي تلقى اليوم التشويه والتحريف. وإذا قضيت فلا ارتيابَ كأنما ![]() جاء الخصومَ من السماء قضاءُ ![]() الخطبة الثانية إن العدل الحقيقي ينطلق من النفس أولاً، بأن تطهر من الحسد والأحقاد، وتفعم بحب الآخر والإحسان إليه، وفقًا لهدي الشريعة؛ إذ الظلم من ظلام النفس والقلب؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: "وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب، ولو استنار بنور الهدى لاعتبر". وقد أورد صاحب الحلية أن بعض عمال عمر بن عبدالعزيز كتب إليه: "أما بعدُ، فإن مدينتنا قد خرِبت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لها مالاً يَرُمُّها به، فعل"، فكتب إليه عمر: "أمَّا بعدُ، فقد فهمتُ كتابك، وما ذكرتَ أن مدينتكم قد خربت، فإذا قرأتَ كتابي هذا، فحصِّنها بالعدل، ونقِّ طرقها من الظلم، فإنه مَرَمَّتُها، والسلام". هذا هو فَهْم عمر بن عبدالعزيز الحقيقي لمعنى الحضارة والتمدن، فلا معنى لمدينة نقية الطرقات، جميلة البنايات، شاهقة العمارات، وأوكار الظلم والفساد تنخر في جنباتها؛ من سرقة، ورشوة، وتزوير، واقتطاع أراضي الناس بدون وجه حق، وسيادة منطق الغلبة للأقوى، لا لصاحب الحق، اعتمادًا على المنصب والجاه، وشراء الذِّمم بالمال؛ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنما أهلك من كان قبلكم، أنهم منعوا الحق حتى اشتُري، وبسطوا الجَور حتى افْتُديَ"، وقال عمر بن عبدالعزيز: "إذا دعتك قُدرتك على ظلم الناس، فاذكر قدرة الله تعالى عليك"، وتأمَّل في الظالمين عبر التاريخ، كيف كان مصيرهم؟ وقال ابن حزم رحمه الله: "من أراد الإنصاف، فَلْيَتَوَهَّمْ نَفْسَهُ مكانَ خصمه؛ فإنه يلوح له وجهُ تَعَسُّفِهِ". ارْضَ للناس جميعًا ![]() مثلَ ما ترضى لنفسك ![]() إنما الناس جميعًا ![]() كلهم أبناء جِنسك ![]() فلهم نفسٌ كنفسك ![]() ولهم حِسٌّ كحِسِّك
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() الإسلام دين الوسطية (6) د. محمد ويلالي شبه حول وسطية الإسلام (5) الخطبة الأولى تتزامن سلسلتنا حول الشبهات المرصودة ضد وسطية الإسلام مع قرب ما يعرف باليوم العالمي للمرأة، الذي يحتفل به العالم يوم الثامن من شهر مارس من كل سنة. ولقد انحرف هذا اليوم عن المسار الحقيقي الذي يجب أن يتحرك في إطاره، وهو الحديث عن قيمة المرأة، ودورها في الارتقاء بالمجتمع حضاريا، حتى ينعم أفراده بالدور الحقيقي للأم، والزوجة، والبنت، والأخت، كل واحدة من موقعها المؤثر، منطلِقاتٍ من الثوابت الأخلاقية، التي يأمر بها التشريع السماوي المسدد، وتتفق عليها أيضا العقول السليمة، والفطر الصحيحة. لقد صار هذا اليوم وسيلة إعلامية كبيرة، تخندقت فيها كثير من النساء اللواتي يرين في الشريعة الإسلامية وسيلة لظلم المرأة، وسلب حقوقها، لا شرعا ربانيا أنصف هذه المرأة، وحجزها عن انتهاكات الرجال لها، التي كانت ترتقي إلى حد الوأد، فضلا عن المنع من الإرث مطلقا، وجعلها متاعا يورث، وإمكانية تعدد الزوجات بلا حصر ولا قيد، وإيقاع الطلاق بسبب وبلا سبب، وغير ذلك مما كان يعتبر هضما حقيقيا لمكانة المرأة، التي صارت في ظل الإسلام عالمة، وفقيهة، ومشاركة في الشؤون الاجتماعية، والتربوية، بل والسياسية. لقد طلعت علينا في الآونة الأخيرة جمعيات، وهيئات، تسمي نفسها بالحقوقية، تَبينَ أن أزيد من 70 منها في بلدنا وحده مدعمةٌ بتمويلات أجنبية، تتزعمها هيئات، ووكالات حكومية، ومنظمات غير حكومية، تتوج دعمها بالجوائز المغرية، والأوسمة الدولية البراقة، لم يكن غرضُها النهوضَ بوضعية المرأة كما يزعمون -، فما ثبت أن الغرب يعطي بلا مقابل، وما ثبت أن للغرب غيرة على تخلف المجتمعات العربية والإسلامية، بل يود لو بقيت سادرة في تخلفها، متخبطة في مشاكلها، غارقة في اختلافاتها، إنما قصده من هذا الدعم اختراق هذه المجتمعات المتدينة، وغزو عقول مثقفيها بما يطوعهم لخدمة مصالحه، التي منها تحقيق التبعية الكاملة له، كما قرر القرآن ذلك في قوله تعالى: ï´؟ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ï´¾. لقد قدس هؤلاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أكثر من تقديسهم للقرآن كلام الله، وجعلوا أعظم أهدافهم صيانة كرامة الإنسان وفقا للمفهوم الكوني، لا وفقا للشرع الرباني. ورفعوا عقيرتهم مطالبين بضرورة ملاءمة قوانيننا وتشريعاتنا مع الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية كما تراها الأمم المتحدة، ومهددين بجعل عدد من المحامين تحت تصرف هؤلاء الشباب المتمردين على ثوابت البلاد الشرعية والوطنية، التي يعتبرون قوانينها وبخاصة ما يتعلق بقانون الأسرة جائرة. فما هي إذن بعض مواد ما ينص عليه هذا المفهوم الكوني للحقوق؟ • الفرد كما في من المادة 29 للميثاق العالمي لحقوق الإنسان: "يخضع في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط.. ولا يصح بحال من الأحوال أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تتناقض مع أغراض الأمم المتحدة ومبادئها"، أي إن الفرد بريء من كل شريعة إلا شريعة القانون الدولي. • وبناء عليه، قررت المادة الثامنة عشرة حرية الفرد في "التفكير، والضمير، والدين. ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته". فللشخص الحق أن يتدين بأي دين شاء، وأن يتراجع عن هذا الدين في أية لحظة شاء. وتحقيقا لهذا البند، قامت فئة من الفتيات هداهن الله إلى الطريق المستقيم بالإعلان عن انتهاك مقدسات الشريعة الإسلامية، ومنها صيام رمضان الذي يعتبره المسلمون الركن الرابع من أركان الإسلام الخمسة، فقد خرجن إلى الشارع العمومي، وأخذن في الأكل والشرب في نهار رمضان أمام الكاميرات، ليعلن ذلك في وسائل الإعلام المكتوبة، والمسموعة، والمرئية، معلقين على هذه الأحداث بضرورة إعطاء الحق للشباب أن يمارسوا شعائرهم الدينية كما يريدون، أفرادا وجماعات وتنظيمات. • ويتساءلون: لماذا تميز قوانيننا في الإرث بين الرجل والمرأة؟ أليست القوانين الدولية تنص على أن المرأة كالرجل في الحقوق والواجبات؟ ثم يطالبون بكشط آيات سورة النساء التي تنظم الإرث في الإسلام، باعتبارها تجاوزَها التاريخ. • ويتساءلون: لماذا تحرم شريعتنا شرب الخمر، والقمار، والزنى، والشذوذ؟ ويعتبرون كل ذلك من باب الحريات الشخصية، التي لا يحق لأحد أن يناقشها، فضلا عن أن يمنعها. فأي انسلاخ هذا عن شريعة الله؟ وأي تمرد هذا على أوامر الله؟ وأي تنكب هذا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -، الذي قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض" رواه مالك في الموطإ بسند حسن؟. • وبما أن حرية الضمير عندهم تُسيغ أن يكون المرء بلا ضمير، فقد خرجت مجموعة أخرى من الفتيات بصحبة بعض المتهورين من الذكور، يتبادلون القبل أمام الجميع، بل وقبالة البرلمان، تمردا على دين المغاربة، وحياء المغاربة، وتحفظ المغاربة، الذين يشهد لهم الجميع بأنهم من أعظم المسلمين تمسكا بدينهم منذ احتضانهم للدعوة الإسلامية. • وبما أن حرية التفكير عندهم تقتضي تجويز الطعن في المقدسات، وتسويغ السب والشتم، والتلفظ بالكلمات النابية، والعبارات الساقطة، واقتحام حرمات النساء، وفضح أسرارهن، فقد أباحوا لأنفسهم أن ينشئوا المسرحيات الساقطة، والتمثيليات الفاضحة، التي تعين الفتاة المسلمة على مجابهة الدين، ومواجهة المجتمع، ومصادمة الأسرة، بانحرافات في السلوك خطيرة، وتعبيرات بذيئة، وتصرفات مشينة، وكأن صيانة الأخلاق جريمة، وحماية العفاف جناية، والحديث عن ستر المرأة وحجابها جريرة. واستنفروا لذلك أقلامهم، فلم يكتفوا بالشعارات على المواقع الاجتماعية، حتى ترجموها كتبا، ممعنة في الطعن في مصادر التشريع الإسلامي، ومنها السنة النبوية المطهرة، التي بها بُيِّن القرآن، ووضَحت مراميه ومقاصده، فانهالوا على الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه بصفات الكذب والتزوير والنفاق، وراغوا على الإمام البخاري تشويها وتنقيصا، وإنما كان هدفهم ضرب النصوص التي تدافع حقيقة عن المرأة، وتحيطها بسياج منيع، يحجزها عن الميوعة والانحطاط، ويمنعها من أن تكون دمية تتلاعب بها الخيوط الخفية للغرب وأتباعه. يا درةً حفظت بالأمسِ غاليةً ![]() واليوم يبغونها للَّه واللعبِ ![]() يا حرةً قد أرادوا جعلها أمةً ![]() غريبةَ العقلِ لكنَّ اسمها عربي ![]() الخطبة الثانية • لما أصدرت إحدى وزاراتنا سنة 2009 بلاغا، تعلن فيه "حرص السلطات العمومية الكامل على التصدي بكل حزم لكل الممارسات المنافية لقيم المجتمع المغربي، ولكل المنشورات والكتب والإصدارات التي ترمي إلى المس بقيمه الدينية والأخلاقية في إطار القانون، وعزمها مواصلة العمل للتصدي لأي مبادرة من أي جهة كانت لدعم مثل هذه السلوكات المشينة ومساندتها، صيانة للأمن الأخلاقي للمواطن، وتحصينا للمجتمع من كل تصرف غير مسؤول، مسيء لهويته ومقوماته الحضارية"، إذا ببعض هذه الجمعيات تثور ثائرتها، وتعتبر ذلك منافيا للمواثيق الدولية، وانتهاكا سافرا للحرية الفردية، والحياة الشخصية للأفراد. ولنا أن نتساءل بعد هذا، كيف كانت نتائج هذه القوانين؟ وما آثارها على المجتمعات التي تتبناها؟ •• تقول نتشوكا (المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة) متحدثة عن احتفال العالم غدا باليوم العالمي للمرأة: إن "التقدم الحاصل يظل بطيئا وغير متساو، وفي بعض الحالات، النساءُ والفتيات تواجهن تحديات جديدة أكثر تعقيدا". فهل آن الأوان لنتخذ من يوم ثامن مارس سبيلا للرجوع بالمرأة إلى أدوارها الحقيقية، فنتصالح مع العفة، ونصافح الحشمة، ونسمو بالآداب الرفيعة، ونربأ بأنفسنا عن السلوكات الوضيعة، والدعوات الشنيعة؟ إن الحياء من الإيمان فاتخذي ![]() منه حليَّك يا أختاه واحتجبي ![]() نريد منها احتشاماً، عفةً، أدباً ![]() وهم يريدون منها قلةَ الأدبِ ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() الإسلام دين الوسطية (7) د. محمد ويلالي شبه حول وسطية الإسلام (6) الخطبة الأولى لا يزال حديثنا عن وسطية الإسلام مستمرا، ولا زلنا مع شبهات هؤلاء المناوئين الذين يصلون الليل بالنهار ليغمزوا شريعة رب العالمين، ويستنقصوا سنة سيد المرسلين، وليقنعوا شبابنا بأن الإسلام تجاوزته المدنية الحديثة، والقوانين الدولية المستحدثة، التي في زعمهم تقدس الإنسان، وتجعله السيد في قراراته، والحر في اعتقاداته، والمستقل في رسم حياته، والتخطيط لأفكاره، وكأن هذا الإنسان أوجد نفسه بنفسه، وخلق الكون بإرادته، وترقى في مدارج العقل بمحض حيلته. وموعدنا اليوم إن شاء الله تعالى مع إحدى أبرز هذه الشبه، التي ألقى بها غير المسلمين، وتلقفها هواة التبعية وذوبان الشخصية، فجعلوها مشجب تهكمهم، وسبيل ازدرائهم، ونهج استنقاصهم، فلوحوا بها في منتدياتهم، وتمضمضوا بها في لقاءاتهم، وأشهروها في صحفهم ومجلاتهم، وهي: ادعاؤهم أن ما تعيشه اليوم كثير من المجتمعات الإسلامية، مما يعرف بالثالوث المدمر، وهو تفشي الفقر، وظهور الأمراض، وانتشار التخلف، إنما مرده إلى الدين الإسلامي، بدليل أن البلاد الغربية لما تنصلت من الدين، ارتقت وتفوقت، وصارت حضارتها قبلة العالمين، ومغناطيس المشدوهين المبهورين. إن الناظر في تاريخ المسلمين، وتاريخ ما يسمى بالنهضة الغربية الحديثة، يتبدى له لأول وهلة، أن سبب تمكن ذلك الثالوث المرعب من بلاد المسلمين ليس مرجعه إلى دين الإسلام، وأن ما حققه الغرب من تفوق تكنلوجي وحضاري، لم يكن وليد العقل الغربي، بل اعتمد في قيامه على الحضارة الإسلامية نفسها، وعلى عقول المسلمين، وعلومهم، وثرواتهم بعد احتلال بلادهم. لقد عرف المسلمون حين استضاؤوا بهدي شريعة الله قمة الحضارة، يوم كان الغرب يغط في نوم الجهالة، ويسدر في مهاوي التخلف. تقول لوسي لوبيز أستاذة الأدب الإسباني والأدب المقارن متحدثة عن قرطبة يوم كان يحكمها المسلمون: "كانت قرطبة مدينة معبّدة الطرقات، مضاءة بالمصابيح المعلّقة على جنبات الشوارع، وعلى مداخل البيوت، قبل سبعمائة عام من الوقت الذي امتلكت فيه مدينة لندن مصباحًا واحدًا يضيء الشارع فيها، وقبل قرون من الوقت الذي كان فيه سكان باريس يستطيعون المشي في الطرقات في يوم ماطر، دون أن يغوصوا إلى ركبهم في الطين". ويُرجع قاضي طليطلة يومذاك ابنُ صاعد، المتوفي سنة 462هـ سببَ تخلف الأوروبيين الشماليين إلى بعد الشمس عن رؤوسهم. يقول:"فإفراط بُعد الشمس عن مُسامَتَةِ رؤوسهم، بَرَّدَ هواءهم، وكثّف جوهم، فصارت لذلك أمزجتهم باردة، وأخلاطهم فجّة، فعظمت أبدانهم، وابيضّت ألوانهم، وانسدلت شعورهم، فعدموا بهذه دقة الأفهام، وثقوب الخواطر، وغلب عليهم الجهل والبلادة، وفشا فيهم العمى والغباوة". لقد كان الغربيون في الأندلس عالة على المسلمين في كثير من العلوم. ففي الطب مثلا يعدون أبا القاسم الزهراوي إمامهم في الجراحة، فهو مؤلف الموسوعة الطبية المعنونة بـ:"كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف في الطب العام وفي الصيدلة وفي الجراحة" في ثلاثين جزءا، الذي ظل قسم الجراحة منه بعد ترجمته إلى اللاتينية يدرّس في الجامعات الأوربية حتى القرن السابع عشر الميلادي. وقل مثل ذلك في علم الفلك، وعلم الرياضيات، فضلا عن العلوم الإنسانية وغيرها. أما على مستوى علاقة الحاكم بالمحكوم التي يتبجح الغربيون اليوم أنهم رفعوا الحواجز عنها، فصار الرئيس يلتقي الناس، ويمشي بينهم ، فنذكر مثالا واحدا لحاكم مغربي لم ينصفه التاريخ، وهو السلطان يعقوب المنصور الموحدي، الذي آلى على نفسه أن يسير على نهج السابقين من الخلفاء الراشدين وغيرهم. فقد ازدهرت الحياة الاقتصادية في عهده، واستتب الأمن في كثير من مناطق الدولة، وكانت أيامه كما يقول ابن أبي زرع :"أيام دَعَة، وأمن، ورخاء، ورفاهية، وبنية حسنة، صنع الله عز وجل في أيامه الأمن بالمشرق والمغرب والأندلس، وكانت الظعينة تخرج من بلاد "نول لمطة" حتى تصل "برقة" وحدها، لا ترى من يعارضها ولا من يكلمها"، وكان الدينار يقع من الرجل في الشارع العمومي، فيبقى ملقى لا يرفعه أحد عدة أيام، إلى أن يأخذه صاحبه، ويمكث القاضي الشهر وأكثر، لا يجد من يحكم عليه، لتناصف الناس، وارتفاع مستواهم الخلقي. وذكر صاحب "المعجب" أنه كان: "مؤثرا للعدل، متحريا له.. وكان يتولى الإمامة بنفسه في الصلوات الخمس.. وكان يقعد للناس عامة، لا يحجب عنه أحد من كبير أو صغير، وكان إذا وفد عليه أهل بلد، فأول ما يسألهم عن عُمَّالهم، وقضاتهم، وولاتهم، فإذا أثنوا خيرا قال: اعلموا أنكم مسؤولون عن هذه الشهادة يوم القيامة، فلا يقولَن امرؤ منكم إلا حقا.. وكان كثير الصدقة.. وكان كلما دخلت السَّنة، يأمر أن يُكتب له الأيتام المنقطعون، فيُجمعون إلى موضع قريب من قصره، فيختنون، ويأمر لكل صبي بمثقال وثوب ورغيف ورمانة، وربما زاد على المثقال درهمين جديدين. وبنى بمدينة مراكش "بيمارستانا"، ما أظن أن في الدنيا مثله.. فإذا نَقِهَ المريض، فإن كان فقيرا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل، وإن كان غنيا دَفع إليه ماله وتركه وسبَبَه.. وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله، يعود المرضى، ويسأل عن أهلِ بيت أهلِ بيت يقول: كيف حالكم، وكيف القُوَمَةُ عليكم؟.. لم يزل مستمرا على هذا إلى أن مات رحمه الله ". فمتى كان دين الإسلام سببا للفقر والتخلف؟ ومتى وقف في وجه العلوم والأخلاق؟. قال تعالى:" وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ". ورحم الله عمر بن الخطاب الذي قال: "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به، أذلنا الله" صحيح الترغيب. هل تطلبون من المختار معجزة ![]() يكفيه شعب من الأجداث أحياه ![]() هي الشريعة عين الله تكلؤها ![]() فكلما حاولوا تشويهها شاهوا ![]() الخطبة الثانية إن ما آلت إليه كثير من بلاد المسلمين من تبعية وأمية وفقر، راجع إلى تنكب طريق شريعة الإسلام، والازورار عن سنة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم ، إذ كيف يعقل أن نوصم بالجهل، والتخلف، والأمية، ومن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، والله تعالى يأمرنا بالتأمل في آيات الآفاق والأنفس ويقول:"أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ"، ويقول تعالى:"وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ"؟. كل العجائب صنعة العقل الذي ![]() هو صنعة الله الذي سوَّاكا ![]() والعقل ليس بمدرك شيئا إذا ![]() ما الله لم يكتب له الإدراكا ![]() وكيف ينتشر الفقر بيننا، والمال مال الله، جعله شركة بين كل المسلمين؟. يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ". قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه :"فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ، حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ" مسلم. ويقول تعالى: "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ". وكيف يكون بيننا فقير، وأحد أثرياء العرب تبلغ زكاة أمواله قرابة ثلاثة أرباع مليار دولار؟. إن الداء ليس في شرع الله، حاشاه وهو الذي أخرج الناس من ظلمات الجهل والفقر، إلى حياة النور والعدل والرحمة، إنما الخلل كامن في بعض المسلمين الذين تأولوا الدين على غير مراده، فصاروا يتساهلون في أحكام الشريعة تارة، ويضربون بعضها ببعض تارة أخرى، وينسبون الآراء والمواقف إلى الدين بغير علم، فطُلب العلم بغير إخلاص، وطلبت الوظيفة بغير إخلاص، وطلبت المسؤوليات بغير إخلاص إلا من رحم الله، فكيف لا نصير لقمة سائغة في أفواه هؤلاء الذين يلمزوننا بالضعف، ويرمون ديننا بالتخلف، وأهله بالتفرق؟. تأبى الرماح اذا اجتمعن تكسراً ![]() واذا افترقن تكسرت آحادا ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() الإسلام دين الوسطية (8) د. محمد ويلالي شبه حول وسطية الإسلام (7) الخطبة الأولى انتهى بنا المطاف ـ ونحن نتحدث عن وسطية الإسلام، وما يثيره الغربيون وأتباعهم من شبه حول هذه الوسطية ـ إلى الرد على زعمهم بأن الإسلام كان سبب تفشي الثالوث المدمر لديار المسلمين: الفقر، والمرض، والتخلف، وعلمنا كيف أن السر في ذلك يكمن في طباع بعض المسلمين الذين تنكبوا الطريق، لا في دينهم الذي يحضهم على العلم، والتفكر في آيات الآفاق والأنفس، والذي حقق المسلمون الأوائل في ظله من الرخاء، والعدل، والرحمة، والازدهار في العلم، والاقتصاد، والاجتماع ما لم تعرفه حضارة أوربا إلا بعد قرون من الزمن. غير أن أحقاد المناوئين لا تنتهي، واتهاماتهم لا تقف عند حد، وتربصاتهم لا يحجزها قيد، كما قال تعالى: ï´؟ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ï´¾ [البقرة: 109]، وكما قال تعالى: ï´؟ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ï´¾ [النمل: 14]، فتوالت شبههم حتى أوصلوها إلى أزيد من خمسمائة، نقف ـ اليوم ـ على واحدة أخرى مما اعتبروه قاصمة ظهر المسلمين، والنهاية في إقناع المتربصين بأن وسطية الإسلام زائفة، ومحاسنه مكذوبة، حيث ادعوا أن الإسلام يمنع الحريات، ويكمم الأفواه، ويفرض الرأي الواحد، ويجابه المخالفين، ويرفض المعارضين. ونحن نقول: إن كنتم تقصدون بعض المسلمين ممن تجاوزوا الحدود الشرعية في هذا الزمان، فصدقت عليهم هذه التهمة، فإنهم ليسوا دليلا على أن الدين الإسلامي كذلك، وليسوا مرجعا نحتكم إليه، فلربما عرف تاريخكم أسوأ منهم، ممن مارسوا دكتاتورية الفكر، والعقيدة، والسلوك. وإن كنتم تحتكمون إلى نصوصنا الشرعية، المؤصلة للعلاقات بين الناس، والضابطة لمعاملة بعضهم لبعض، فدوننا هذه النصوص بفهم من اتخذوا الإسلام منهج حياة، فاحتكموا لمبادئه، وامتثلوا لتوجيهاته، واهتدوا بهديه. لقد أسس الإسلام لحرية الرأي والتعبير بوضوح، حين أقر الاختلاف المفروض بين الناس، تبعا لاختلاف مشاربهم، وثقافاتهم، واعتقاداتهم، ومواقفهم، بل اعتبر هذا الخلاف إغناء للآراء، وتعدادا للمواقف، لاختيار الوجيه منها، واعتماد الأفضل من بينها، ولذلك قال تعالى: ï´؟ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ï´¾ [هود: 118، 119]. قال ابن كثير - رحمه الله -:"قيل: وللرحمة والاختلاف خلقهم، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله: ï´؟ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ï´¾ [هود: 118، 119]. قال: الناس مختلفون على أديان شتى، ï´؟ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ï´¾، فمن رحم ربك غير مختلف. قيل له: فلذلك خلقهم؟ قال: خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه". ومن باب الأمر بالإدلاء بالرأي، قال تعالى: ï´؟ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ï´¾ [البقرة: 283]. ومن هذا الإقرار أمر المختلفين بالتحاكم إلى الوحيين، ففيهما الحل القاطع لكل نزاع، والدواء الشافي لكل خلاف. قال تعالى: ï´؟ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ï´¾ [النساء: 59]. ومن أعظم مبادئ الشريعة الإسلامية، التي تفصح عن حرية إبداء الرأي، والتوجه بالخطاب الناصح لمن تنكب الطريق، وزاغ عن السبيل، أو مال عن السداد، واحتاج إلى رشاد، مبدأ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي يتعدى التصحيح الديني إلى أوجه النشاط الإنساني داخل المجتمع المسلم. فهؤلاء صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول عنهم أبو سلمة بن عبد الرحمن: "لم يكن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منحرفين، ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله، دارت حماليق عينيه كأنه مجنون" صحيح الأدب المفرد. ولربما كان ذلك بحضور النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن ينكر عليهم شيئا من ذلك، كما قال جَابِرُ بنُ سَمُرَةَ - رضي الله عنه -:"جَالَسْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ، فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ، وَيَتَذَاكَرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ" صحيح سنن الترمذي. وكم اجتهد خلفاء المسلمين كي يتعلم الناس، ويصبحوا قادرين على إبداء آرائهم، في مجالسهم، وكتبهم، ودروسهم؟. فهذا يوسف بن تاشفين ـ على سبيل المثال ـ كان أول شيء يفعله عند دخول أية مدينة مغربية أن يبني المساجد لتعليم العلم ومدارسته. قال صاحب "الاستقصا": إن يوسف بن تاشفين، بعد أن دخل مدينة فاس: "أمر ببنيان المساجد في شوارعها وأزقتها، وأيُّ زقاق لم يجد فيه مسجداً عاقب أهله"، فكانت المساجد بمثابة المدارس اليوم. ولعل يوسف بن تاشفين تنبه إلى إلزامية التعليم منذ ذلك الحين. وكان يستفيد من العلماء، ويستمع لرأيهم، لا يستبد دونهم برأي، بل كان ينزل عند فتواهم، ويعمل بآرائهم. فقد ذكر صاحب كتاب "الحلل الموشية" أن يوسف بن تاشفين - رحمه الله - كان: "يفضل الفقهاء، ويعظم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها برأيهم، ويقضي على نفسه بفتياهم". وهذا تحقيق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:"لدِّينُ النَّصِيحَةُ". قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: "لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" مسلم. قال الإمام النووي - رحمه الله -:"وأمَّا النصيحة لأئمة المسلمين، فمعاونتهم على الحقِّ، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، ونهيهم عن مخالفته، وتذكيرهم برفق، وإعلامهم بما غفلوا عنه، ولم يبلغهم من حقوق المسلمين". وكان - صلى الله عليه وسلم - يشجع صاحب الحق أن يبدي رأيه من دون خوف، ما دام قصدُه النصحَ بآدابه، ومبتغاه الحقَّ بضوابطه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"ألا لا يَمْنَعَنَّ رَجُلاً هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ" صحيح سنن ابن ماجة. وقد طُبِّقَتْ حرِّيَّة الرأي على طُولِ التاريخ الإسلامي تطبيقًا رائعًا، حتى إن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يراجعنه، فيبدين رأيهن أمامه ولا يتحرجن من ذلك. وهذا عمر بن الخطاب لما أراد أن يحد مقدار الصداق خوفا من التغالي فيه، قامت إليه امرأة، وذكرته بقول الله تعالى: ï´؟ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ï´¾ [النساء: 20]، فرجع إلى قولها وقال:" فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب فليفعل". ومع الاختلاف في ثبوت هذه القصة، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -:"إن هذه القصة دليل على كمال فضل عمر، ودينه، وتقواه، ورجوعه إلى الحق إذا تبين له". الخطبة الثانية إن بلاد الغرب الحديثة، التي ترفع شعار الحرية، وتوهم الناس بأن الفرد له أن يقول ما شاء، ويفعل ما شاء، لهي أول من يخرق هذا المبدأ حين يتعارض مع مصالحها الخاصة. ففي إحدى الولايات الغربية، استشاط حاكمها غضبا من أجل رسم كاريكاتوري في كتاب فكاهي، يسخر من تمثال الحرية المشهور، فصادر الكتاب، ومنع تداوله، وأمر بسحبه من المكتبات، ولم يتحرك أحد منهم حين حاولت الرسومات تشويه صورة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بل اعتبروا ذلك حريةً في الرأي، واستقلالا في التعبير. ولما أفصح الباحث البريطاني الدكتور جون بولبي، عن موقفه من إهمال الغربيين لتربية أبنائهم، وبين دور الأم في بناء شخصية الطفل، وأن "مشاكل الطفولة تُعد أخطر من الاضطرابات الدولية، والحروب العرقية، والأمراض القديمة والجديدة"، حتى قال: "إذا نظرنا للأمر ببساطة وهدوء، فسنجد أنَّ جميعَ العباقرة، سواء العلماء العظام، أمِ الكُتَّاب والفنانون الذين غيَّروا وجه البشرية، نشأوا في بيوت تظلُّها الأم برعايتها وحنانها"، أقول: لما أفصح عن ذلك، قامت النساء - بدعم من عدة هيئات - بحملة مضادة، واتهمنه بالعنصرية والتمييز، حتى لقبنه بعدو المرأة الأول، مع أن أبحاثه اليوم - في ظل الوضع المتردي الذي تعرفه الأسرة الغربية - صارت محطة لإعادة النظر في تقويم النظريات التربوية المتعلقة بطرق العناية بالأطفال، وأساليب علاجهم بالمستشفيات، وكيفية التعامل معهم بمؤسسات رعاية الطفولة. وفي بعض البلاد الغربية، نجد حظرا قويا لحجاب المرأة المسلمة، حتى وإن كانت تحمل جنسية هذه البلاد، وفي بعضها يمنع بناء المساجد ورفع الأذان، وفي بعضها يحرق المصحف الكريم أمام الملإ. فمن الذي يصادر حرية الرأي، ومن الذي يكمم الأفواه، ويخنق الحريات؟ هربوا من الرق الذي خلقوا له ![]() فَبُلوا بِرِقِّ النفس والشيطان ![]() لا ترض ما اختاروه هم لنفوسهم ![]() فقد ارتضوا بالذل والحرمان
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() الإسلام دين الوسطية (9) د. محمد ويلالي شبه حول وسطية الإسلام (8) الخطبة الأولى تعددت شبه الطاعنين في وسطية الإسلام، وتنوعت سهام الرامين حقيقة دين الإسلام، وصفاءه، وهديه. ولقد عالجنا جملة من هذه الشبه التي استهدفت كتاب الله تارة، فرمته بالتناقض، والبعد عن الواقع، وتناولت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة أخرى، واتهمتها بالتخلف، وتقصدت رموز المسلمين تارة ثالثة، فنفثت في سيرتهم سموم التكذيب والتزيد. ونحط الرحل اليوم إن شاء الله عند إحدى غرائب هذه الشبه، التي يَعجب لها كل من له عقل أو فكر، وهي ادعاؤهم أن ديننا يظلم الأطفال، ويكلفهم ما لا يطيقون، ويعاقبهم وهم غير مكلفين، ويحتجون لذلك بما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم من أن الأمراض تكفير للذنوب، وأطفالنا يصابون بالأمراض، والأوجاع، وصنوف الإعاقات العقلية والجسدية، وهم لا ذنب لهم يحتاج إلى تكفير، ويرون أن ذلك من أعظم المتناقضات في الإسلام. وقبل أن نرد على هذا الزعم المهترئ، نقر بأن الطفولة في بلاد المسلمين تعاني عدة مشاكل صحية، ولقد بين آخر تقرير رسمي لوزارتنا في الصحة، أن 20 في المئة من أطفالنا وشبابنا المغاربة، يعانون من اضطرابات نفسية، من قبيل الاكتئاب، واضطراب المزاج، والاضطرابات السلوكية والمعرفية، وأن نصف الحالات المرضية تبدأ في سن الرابعة عشرة، وبين أن قرابة 50 في المئة من الفئة العمرية 15 سنة فما فوق، عرفت على الأقل اضطرابا نفسيا في حياتها، وأن نسبة مهمة من هذه الشريحة الاجتماعية تتعرض يومياً لخطر التدخين والمخدرات، وأن 16 في المئة من التلاميذ المتراوحة أعمارهم ما بين 13 و15 سنة يدخنون، و6 في المئة من الشريحة العمرية نفسها سبق لهم أن تناولوا مشروبات كحولية، و4 في المئة سبق لهم أن تناولوا مواد مخدرة، و4 في المئة من هذه الفئة حاولوا الانتحار مرة واحدة أو عدة مرات، ونحو 30 في المئة كانوا ضحية عنف، مما استدعى معالجة الحالات النفسية لأبنائنا بإحداث 32 فضاء لصحة الشباب، و20 مركزا مرجعيا للصحة المدرسية والجامعية، و30 مركزا للصحة الجامعية، وإدماج العيادات النفسية في 83 مؤسسة، وإحداث ستة مراكز لعلاج الإدمان. والنموذج المغربي هنا يسحب على أغلب البلاد العربية والإسلامية، فإن ثلث أطفال العالم الثالث يفتقرون إلى المياه الصحية، و250 مليون طفل يعملون في الدول النامية، نصفهم يعمل بدوام كامل، بل إن 17 مليون طفل يموتون في العالم سنويا، بسبب الجوع وسوء التغذية. أما الرد على مقولتهم في أن الابتلاء يكفر الذنوب، والأطفال لا ذنب لهم، فمن وجوه متعددة: 1ـ إن أطفال غير المسلمين ليسوا بمنأى عن الإصابات والابتلاءات، بل إن تنصلهم من التدين ما زادهم في أطفالهم إلا عنتا وضنكا، فتفشت فيهم الأمراض الفتاكة، والأخلاق المنحرفة، وحُرموا لذة العيش الحقيقية تحت أحضان الآباء والأمهات، الذين يرفضون بنسبة 60 في المئة أن ترتبط حياتهم الزوجية بعقد شرعي، حتى إنه سجل في إحدى الدول الغربية المتقدمة طفل من كل 3 أطفال يولد بصورة غير شرعية، وهذا أول تخطيط ظالم للأطفال قبل أن يولدوا. وحتى المتزوجون، بلغ متوسط عمر الرجال المقبلين على الزواج منهم في إحدى البلدان الغربية سنة 2005، 36.2 سنة، وبلغت النسبة في أوساط النساء 33.6. وفي بلد متقدم جدا، يوجد ما بين 45 إلى50 ألف من النساء والأطفال، يجري الاتجار بهم، و16 في المئة من الفتيات هناك بين 12و17 سنة يعانين من مشاكل ذات علاقة بالمخدرات، وحتى زعماء الدين الذين يسمون عندهم بالقساوسة، لم يسلموا من الفضائح الشذوذية على الأطفال، حيث تم نقل 167 قساً كاثوليكيا من مواقعهم الكنسية، بسبب تفجر فضيحة الاعتداءات الجنسية على الأطفال. والحديث عن جرائم الاعتداء على الأطفال هناك لا تنتهي. فكيف ينسبون مشاكل أطفالنا إلى ديننا، بينما هم يمارسون أفظع الاعتداءات بمحض إرادتهم؟ 2ـ إن إصابة الطفل بالمرض، ليس عندنا من قبيل ظلمه وقهره، وإنما هو من قبيل الابتلاء الذي يَثقُل به ميزان حسناته، ويضاعَف له به الجزاء إن مات وهو طفل أو مكلف. وقد قضى عدل الله تعالى أن لا يظلم صغيرا ولا كبيرا مثقال ذرة، بل حتى الكافر يوفى له أجره في الدنيا، كما قال تعالى: "مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ". ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً، يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ، فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْراً" صحيح الجامع. 3ـ قد يكون هذا الابتلاء في الصغر سببا لتكفير الذنوب التي ترتكب في الكبر، فهو من قبيل تعجيل العقوبة، التي تمحض المسلم من الخطايا، وتُسلم إلى إحراز رضا رب العالمين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ، عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ، أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" صحيح سنن الترمذي. 4ـ إن مرض الطفل وابتلاءه، هو تكفير لذنوب والديه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ، فِي نَفْسِهِ، وَوَلَدِهِ، وَمَالِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ" صحيح سنن الترمذي. 5ـ وقد تكون وفاة الطفل سبيلا لإدخال والديه الجنة، إذ أبناء المسلمين الذين ماتوا صغارا هم من أهل الجنة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم ـ:"صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ، يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنِفَةِ ثَوْبِكَ هَذَا، فَلاَ يَتَنَاهَى حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ وَأَبَاهُ الْجَنَّةَ" مسلم. ويقول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ" البخاري. 6ـ وقد يعلم الله تعالى أن بقاء هذا المولود سبيل للإفساد في الأرض، فيعجل الله بموته، فيريح منه العباد والبلاد، كما في قصة الخضر الذي قتل الغلام، وعلل ذلك بقوله: "وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا". أما مرجعهم الديني الذي يسمونه زورا وبهتانا بالكتاب المقدس فيقول: "كل من وُجِدَ يُطعَن، وكل من انحاش يسقطُ بالسيف، وتُحَطَّمُ أطفالهم أمام عيونهم، وتُنهَب بيوتهم، وتُفضَح نساؤهم". ويقول: "طوبى لمن يمسكُ أطفالك ويضربُ بهم الصخرة". إذا لم تخش عاقبة الليالي ![]() ولم تستحي فاصنع ما تشاء ![]() الخطبة الثانية أما الابتلاء عند المسلمين فهو في حقيقته نعمة، وليس نقمة، إذ الدنيا مطبوعة على الأكدار والمصائب، لأنها دار تمحيص وتخليص. طبعت على كدر وأنت تريدها ![]() صفوا من الأقذاء والأكدار ![]() قال تعالى: ï´؟ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ï´¾[محمد: 31]. قال ابن كثير:" فتارة بالسراء، وتارة بالضراء". وقال الإمام الشافعي في قوله تعالى: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين". قال: "والثمرات: موت الأولاد، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه". وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على الله، ابتلي بفقد ابنه الأكبر، الذي لم يعش إلا أياما يسيرة. ومات ابنه الطيب وهو صغير. كما ابتلي صلى الله عليه وسلم بفقد ابنه إبراهيم، الذي لم يزد عمره عن سنة وعشرة أشهر، وقال صلى الله عليه وسلم عند موته: "إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ" البخاري، وعند وفاته كسفت الشمس، فقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلوا، وادعوا الله" متفق عليه. قال شيخ الإسلام: "فمن ابتلاه الله بالمر، بالبأساء والضراء، فليس ذلك إهانة له، بل هو ابتلاء وامتحان، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيدا، وإن عصاه في ذلك، كان شقيا". وقد تكون كثرة الابتلاءات في المال والولد دليلا على محبة الله لك.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم ـ:"إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" صحيح الترمذي. إذا لم تستطع للرزء دفعا ![]() فصبرا للرزية واحتسابا ![]() هكذا يعتبر المسلمون مصائبهم في أبنائهم، لا يتضجرون، ولا يتأففون، ولا يسخطون، بل يعلمون أن ما أصاب أبناءهم إنما هو بتقدير القادر الحكيم، الذي له مقاليد السماوات والأرض.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |