|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() غزوة تبوك (1) صور من العسرة الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله؛ بَلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله تعالى حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ هاجروا فرارًا بدينهم، وجاهدوا في سبيل ربهم، وبذلوا أرواحهم، وانخلعوا من جُلِّ أموالهم؛ رغبة في رضوان الله تعالى وجنته، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ فكم كانت التقوى سببًا في تفريج الضوائق، وبسط الأرزاق، وحلول الأمن. ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطَّلاق: 2 - 3]. أيها الإخوة المؤمنون: سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تزخر بالحكم والأحكام، والدروس والفوائد، ليست قصصًا من نسج الخيال، ولا هي إبداع من لسان مُتَحَدِّث، أو قلم كاتب، يقرؤها من يقرؤها لجمال في الإنشاء، أو بلاغة في التركيب، أو استفادة من الأسلوب؛ بل هي حق واقع، وأخبارٌ جامعة. فيها الحدث والعبرة، والموعظة الحسنة. تحوي أحكامًا فقهية، ودروسًا تربوية، وتنطوي على علوم متعددة؛ كالسياسة؛ والاقتصاد؛ وشؤون الحرب؛ والجهاد؛ وأحكام الهدنة والسلام؛ وغير ذلك مما يحتاجه المسلمون. وكان مما وقع في شهر رجب من السنة التاسعة للهِجْرة من الأَحْداث الكبرى، والمغازي العظمى: غزوة تبوك، التي كانت آخر مَغَازي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوفاه الله تعالى[1]. كانت غزوة مليئة بالأحداث، فيها أخبار الموسرين الذين أنفقوا، والفقراء الذين عجزوا، وفيها أنباء المنافقين الذين فُضِحوا، وحكاية الثلاثة الذين خلفوا، ناهيكم عن أخبار المسير والحصار، وفرض الجزية على أهل الكتاب، وما الحديث عنها تكفيه الساعات؛ ولكن هذه أجزاء ومقتطفات عن العسرة والمشقة التي كانت فيها، حتى سماها القرآن ساعة العسرة؛ لأنَّ العسرة لَفَّتْهَا من كل مكان، وأحاطت بها من كل جانب؛ فوَقْتُها عسرة؛ إذ كانت في حَمَارة القيظ، وشدة الحر، وما أشد المسير تحت وهج الشمس اللافحة، وفوق الأرض الساخنة!! وكانت شدة الحر تدعو إلى المُقام في المدينة، ذات الماء الطيب، وثمار الصيف اليانعة، فلا يخرج للغزو في هذا الوقت إلا مؤمن يدفعه إيمانه إلى تقديم رضوان الله تعالى على لذة الحياة، والاستمتاع بطيباتها. ومن العسرة فيها: قِلَّة ما يجد كثير من المسلمين للتجهّز لها، فلقد جاء أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل الأشعريين فلم يجد سوى ستة أبعر دفعها إليه ليحمل عليها قومه[2]. لقد كان الأغنياء من الصحابة يتجهزون ويجهزون، والفقراء لا يجدون، اشتاقوا للجهاد في سبيل الله تعالى لكن أعجزتهم الوسائل التي تبلغهم الميدان، فسحت أعينهم بالدمع لهذا الحرمان. كان منهم علبة بن زيد قام من الليل يتهَجَّد، فصلى ما شاء الله ثم بكى، وقال: "اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغَّبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض"، وأصبح الرجل على عادته مع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين المتصدق هذه الليلة؟)) فلم يقم أحد، ثم قال: ((أين المتصدق؟ فليقم)). فقام إليه فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبشر، فوالذي نفسي بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة))؛ ذكره ابن إسحاق ووصله الحافظ[3]. لقد كان علبة بن زيد واحدًا من سبعة رجال من المؤمنين عُرِفُوا بالبكائين، أَتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون منه ما يخرجون عليه معه في هذه الغزوة، فلم يجد ما يحملهم عليه، فبكوا لذلك[4]، فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى المَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 91 - 92]. إنها صورة مُؤَثِّرَة للرَّغْبة الصحيحة في الجهاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يحسه صادقو الإيمان من ألم إذا ما حالت ظروفهم المادية بينهم وبين القيام بواجباته. إنهم لم يبخلوا بمالهم، ولم يفرحوا بتخلفهم؛ حتى كان منهم من تصدق بعرضه على المسلمين، يبيح كل من تكلم في عرضه بسوء أو ناله بغيبة، ومع أنهم عذروا، ولم يخرجوا للغزو فإن قلوبهم كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسير خبرهم فقال: ((إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم))، قالوا: "يا رسول الله، وهم بالمدينة؟" قال: ((وهم بالمدينة حبسهم العذر))؛ أخرجه البخاري[5]. ومن العسرة أيضًا: بُعْدُ المسافة بين المدينة وتَبُوك، ووعُورة الطريق، وقلة الظهر؛ فهي عسرة في كل شيء، فسرها جابر بأنها عسرة الظهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء[6]. وسُئل عمر رضي الله عنه عن شأن العسرة فقال: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى نظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده"، فقال أبو بكر الصديق: "يا رسول الله، قد عوَّدك الله في الدعاء خيرًا فادع لنا"، فقال: ((أتحب ذلك؟)) قال: "نعم"، فرفع يديه صلى الله عليه وسلم فلم يرجعهما حتى أظلت سحابة، فسكبت فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر"؛ رواه البزار، وصححه ابن حبان، والحاكم[7]. ويصف العسرة أبو سعيد أو أبو هريرة رضي الله عنهما فيقول: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فأصاب الناس مَجَاعة وقالوا: "يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنا"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((افعلوا))، فجاء عمر، وقال: "يا رسول الله، إنْ فعلوا قلّ الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة"، قال: ((نعم))، ثم دعا بنطع فبُسط، ثم دعا بفضل الأزواد، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة؛ حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال أبو هريرة: "فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال: ((خذوا في أوعيتكم))، فأخذوا في أوعيتهم حتى والذي لا إله إلا هو ما بقي في العسكر وعاءٌ إلا ملؤوه، وأكل القوم حتى شبعوا، وفضلت فضلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة))؛ أخرجه مسلم[8]. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى يصف العسرة: "كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يتعقبونه بينهم، وكان زادهم التمر المتسوس، والشعير المتغير، والإهالة المنتنة، وكان النفر يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء كذلك، حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة، فمضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم"[9]، فكان جزاؤهم أن تاب الله تعالى عليهم؛ حيث لم تردهم العسرة التي أحاطت بهم من كل جانب عن الخروج في سبيل الله تعالى. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا، مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أَحْمَده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. أما بعدُ: فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك حجم المشقَّة التي ستلحق به وأصحابه في غزوة العُسْرَة، فجلى للناس أمرهم، وأوضح وجهته. قال ابن إسحاق: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يعمد له إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس؛ لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو"[10]. سار عليه الصلاة والسلام إلى تبُوك في رجب، وعاد في رمضان، واستغرقت الغزوة خمسين يومًا من العُسْرة والمَشَقَّة، ثلاثون يومًا منها مسير وطريق، وعشرون يومًا أقامها في تبوك، وجبن الروم عن المُنَازَلة، فضرب الجزية على بعض قرى النصارى، ثم عاد وقد هابت الروم وحلفاؤها من قبائل العرب قوة المسلمين[11]. لقد وطدت هذه الغزوة سُلْطان الإسلام في شمالي شبه الجزيرة العربية، ومَهَّدَتْ لفتوح الشام التي استعد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعداد جيش أُسامة قبيل وفاته، فأنفذه أبو بكر رضي الله عنه ثُمَّ أَتبعه بجيوش الفتح الأخرى التي ساحت في بلاد الشَّام والعِراق، وكانت بداية تحرير شُعوب تلك المناطق من عُبُودية القيصرية والكسروية[12]. وما كان هَذا الحديث عن تبوك إلا لبيان حجم المَشَقَّة؛ حتى سُمِّيَتِ الغزوة غزوة العُسْرة، وفي ذلك دفع للمؤمنين إلى سُبُل الطَّاعة، ولو كان فيها بعض مشقة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم خير الخلق، وصحابته خير الأصحاب عانوا مشقة عظمى في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته، فهل نعمل ما عملوا؟ ونستطيع ما استطاعوا؟ إنَّ واقع الحال ينفي ذلك، وإذا كان كثير مِنَ المُسْلِمين يتخلَّفون عن صلاة الجماعة، أو لا يُؤَدُّون الصَّلاة في وقتها مع أنَّ ما فيها من المشقة لا يساوي عُشْر مِعْشار مَشَقَّة تبوك، فكيف سيطيق المسلمون مشقة جهاد الأعداء، ومقارعة الباطل؟! وما ذلوا ولا انهزموا إلا لما تَثَاقَلُوا عنِ الطَّاعات، وخلدوا إلى الدَّعَة والرَّاحة. حضر العسرة من حَضَر، وتخلَّف عنها من تخلَّف، وتحمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المشقة، وذهبت وذهبوا، وبقي الأجر موفورًا للغازين، والوزر مكتوبًا على المُخَلَّفِينَ، إلا من تاب منهم، وهكذا يفعل الطاعة من يفعلها، ويتخلف عن الصلاة من يتخلف عنها، وسينسى صاحب الطَّاعة المشقة التي لحقته؛ كما سينسى المُقَصِّر فيها الراحة التي خلد إليها، وسيمضون، وسيبقى الأجر للمسارعين، والوزر على المخلفين، وكل سيجد ما عمل يوم الدين، والجنة حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. وقصة العُسْرة تثبت أن الإيمان بالله تعالى يفوق كل قوة؛ فرغم قلة الزاد، وقلة الظهر، وبُعْد المسافة، وشدة الحر إلا أن الصحابة استطاعوا الوصول إلى تبوك، وحاصروا العدو، وجبن العدو المدجج بالأسلحة، والمُقيم على أرضه عن مُلاقاة أقوامٍ هم أقل منه عددًا، وأضعف عتادًا، وأشدّ جوعًا!! إنه إيمان المؤمنين، والرعب الذي قذفه الله في قلوب الكافرين، فما أحوج المسلمين إلى اليقين بأن الإيمان أقوى من كل قوة، ومن كان الله معه فلن يغلب من ضعف أو قلة: ﴿ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]. وصلوا وسلموا على نبيكم؛ كما أمركم بذلك ربكم... [1] انظر: "سيرة ابن هشام" (4/ 118)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 714). [2] كما في حديث أبي موسى الذي أخرجه البخاري في المغازي؛ باب غزوة تبوك وهي "غزوة العسرة" (4415)، ومسلم في الإيمان؛ باب ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه (1649). [3] أخرجه ابن سعد في "الطبقات" من طريق الواقدي (4/ 370)، وعزاه الحافظ في "الفتح" لابن إسحاق في "السيرة" ولم أجده في المطبوع منها، ولم أعثر عليه في النسخة المطبوعة لدي من "سيرة ابن هشام" التي حققها الدكتور عمر تدمري إلا أنَّ ابن هشام نقل عن ابن إسحاق أنه عد علبة بن زيد في البكائين، وذكره السهيلي في "الروض الأنف" (7/ 365 - 366)، وابن القيم في "زاد المعاد" (3/ 528 - 529)، وابن كثير في "البداية" (5/ 5)، وقال الحافظ ابن حجر: "وقد ورد مسندًا موصولاً"، وعزاه لابن مردويه وابن منده والخطيب وغيرهم وصححه، انظر: "الإصابة" (7/ 43)، وصححه الألباني في تعليقه على "فقه السيرة" للغزالي (405). [4] انظر: "سيرة ابن هشام" (4/ 119)، و"السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" (617). [5] أخرجه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أحمد (3/ 103)، وابن أبي شيبة (18856)، والبخاري في المغازي؛ باب (81) (4423)، وأبو داود في الجهاد؛ باب الرخصة في القعود من العذر (2508)، وابن ماجه في الجهاد؛ باب من حبسه العذر عن الجهاد (2764). وأخرجه من حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - مسلم في الإمارة باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (1911). [6] "الجامع لأحكام القرآن" القرطبي (8/ 177) عند تفسير الآية (117)، من سورة التوبة. [7] أخرجه الطبري في "جامع البيان" (11/ 5)، والبزار في "البحر الزخار" (214)، وصححه ابن خزيمة (101)، وابن حبان (1283)، والحاكم وقال: على شرط الشيخين (1/ 159)، وأخرجه أبو نعيم في "دلائل النبوة" (456 - 457)، والبيهقي في "الكبرى" (9/ 357)، وفي "دلائل النبوة" (5/ 231) وجوّد إسناده ابن كثير في "السيرة" (4/ 16)، وقال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في "الأوسط"، ورجال البزار ثقات، انظر: "مجمع الزوائد" (6/ 194 - 195). [8] أخرجه مسلم في الإيمان؛ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا (26). [9] "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 177)، ونحوه عن مجاهد وقتادة؛ كما في "جامع البيان" للطبري (11/ 55) عند تفسير الآية (117) من سورة التوبة، ولقد جاء في تفسير القرطبي: "كانت العسرة من المسلمين يخرجون على بعير يتعقبونه بينهم... فلعله تصحف من: كان العشرة من المسلمين.. وعن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب: أن الرجلين والثلاثة على بعير... عزاه السيوطي لابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في "الدلائل"، انظر: "الدر المنثور" (3/ 512). [10] "سيرة ابن هشام" (4/ 118). [11] انظر: "الرحيق المختوم" (436). [12] "السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" (638).
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() غزوة تبوك (2) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الآيات والمعجزات الحمد لله: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا ﴾ [الفتح: 28]، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أيَّدَ رسله بالمُعْجِزَات، وأنزل عليهم الآيات؛ دلالة على صدقهم، وبرهانًا على رسَالاتهم. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أرسله الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا؛ فبَلَّغَ الرِّسالة، وأَدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه؛ أمضوا حياتهم في خدمة الإسلام، ونشر شريعته في الأرض؛ فرَكِبُوا البر والبحر، وجاوزوا السهل والوَعْر، منهم من مات في مركبه وسط لُجَّة البحر، ومنهم من قضى تحت أسوار العدو، ومنهم من عاش حينًا من الدهر: ﴿ مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 23] والتابعين، ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بَعْدُ: فأوصيكم أيها المؤمنون ونفسي بتقوى الله عَزَّ وجل فنِعْم المنزلة مَنْ نالها، ويا لَسَعادة من حققها. هي النور والهُدى، وبها تُنال الدرجات العُلى، وبها تكون النجاة من نار تَلَظَّى. أيها المؤمنون: حياة المسلمين وعزهم ورفعتهم تكون في الجهاد في سبيل الله تعالى به تُنَال العِزَّة، وتُحْفَظ الكرامة، وتُحْقَن الدماء، وتُصَان الأعراض، ويُهَاب الأعداء، فلا تقوم للكُفْر قائمة في أرض فيها جِهادٌ خالص لله تعالى. الجهاد دليل قوة الإيمان، وصِحَّة اليقين، وصدق التوكل. يَبْذُل المُجَاهد ماله ودمه وجسده رخيصًا في سبيل الله تعالى يُكَابِد لأواء السفر، ومشقة السهر، وعنت الطريق، وكلب العدو، وكل هذا من أجل ماذا؟! إنه من أجل الإسلام، فهل إيمان يعدل هذا الإيمان، متى ما رُزِق المُجَاهد الإخلاص؟! وإن من المغازي المشهورة بعُسْرتها وشدتها: غزوة تبوك التي سُمِّيَتْ غزوة العُسْرَة؛ إذ اجتمع على المسلمين فيها عُسْرة الظهر، وعسرة الزَّاد، وعُسْرة الماء، وعسرة الحر، وعسرة الطريق، وعسرة إيذاء المنافقين وإرجافهم؛ ولكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم احتملوا في سبيل الله تعالى كل أنواع العسرة. إن المنافقين ما تركوا سبيلاً للتخذيل والإرجاف في هذه الغزاة إلا سلكوه، ولا عُذْرًا للتخلف عن الغزو إلا اختلقوه. وما كان الله تعالى ليتخلى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين أنواع من العسرة، وبين شُكوك المُنافقين وأراجيفهم؛ فجعل الله تعالى له من الآيات والمُعْجِزات في هذه الغزاة ما ثبَّت إيمان المؤمنين، ودحر أراجيف المنافقين، وسلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو قيل: إن هذه الغزوة أكثر غزواته مُعْجزات، لما كان ذلك ببعيد. قلَّت المراكب، وكلَّت الرواحل فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ببركة الظهر فبارك الله تعالى في سيرها. قال فضالة بن عبيد رضي الله عنه: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فجهد الظهر جهدًا شديدًا، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بظهرهم من الجهد، فتحين رسول الله صلى الله عليه وسلم مضيقًا سار الناس فيه وهو يقول: ((مرُّوا باسم الله)) فجعل ينفخ بظهورهم وهو يقول: ((اللهم احمل عليها في سبيلك؛ فإنك تحمل على القوي والضعيف، والرطب واليابس، في البر والبحر))، قال فضالة: فما بلغنا المدينة حتى جعلت تنازعنا أزمتها، فقلت: "هذه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القوي والضعيف فما بال الرطب واليابس!! فلما قدمنا الشام غزونا غزوة قبرس في البحر، فلما رأيت السفن وما يدخل فيها عرفت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم"؛ أخرجه أحمد وصححه ابن حِبَّان[1]. إن تبوك كانت في شِدَّة حرِّ فصل الصيف؛ فاجتمع عليهم مع حَمَارةِ القيظ، ووهج الشمس؛ ندرة الماء، وشدة العطش، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسقى لهم فسقاهم الله تعالى. روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: حَدِّثْنا عن شأن العُسْرَة، قال: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه العطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع، حتى نظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحرُ بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "يا رسول الله، قد عوّدك الله في الدعاء خيرًا فادع"، قال: ((أتحب ذلك؟)) قال: "نعم"، قال: "فرفع يديه صلى الله عليه وسلم فلم يرجعهما حتى أظلت سحابة ثم سكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر"؛ صححه ابن حبان والحاكم، وقال ابن كثير: "إسناده جيد"[2]. لقد أصاب المُسْلِمين في تَبُوك مجاعـة شديدة حتى همّوا بنحر ما يركبون؛ ليأكلوا، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم فبارك الله في طعامهم، قال أبو هريرة أو أبو سعيد - شك الأعمش - "لما كان يوم غزو تبوك أصاب الناس مجاعة في طعامهم، فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنَّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((افعلوا))، فجاء عمر رضي الله عنه فقال: "يا رسول الله، إن فعلت قلّ الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة لعلَّ الله عَزَّ وَجَلّ يجعل في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أَزْوَادِهِمْ، قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: ويجيء الآخر بكف تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة؛ حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: ((خذوا في أوعيتكم)) قال: "فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملؤوه"، قال: "فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة))؛ أخرجه مسلم[3]. وفي مُعْجِزَة أُخرى حاول أحد المنافقين أن يُشَكِّك في نُبُوَّتِه صلى الله عليه وسلم واستغل فرصة ضياع ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال هذا المنافق في ثلة من الصحابة: "أليس محمدٌ يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعٍ من أصحابه لا يدري ما قال المنافق، فقال لأصحابه: ((إن رجلاً قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فجاؤا بها))؛ أخرجه الطبري والبيهقي ورجاله ثقات[4]. وثبت في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام أخبرهم عن عين في تبوك تبض بشيء من ماء، فغسل وجهه فيها، فجرت بماء كثير، فاستقى الناس[5]، وأخبرهم أيضًا بريح شديدة تهب عليهم، وأمرهم بعقل رواحلهم فهبت ريح شديدة؛ كما قال[6]. وكانت مُدَّة هذه الغزوة خمسين يومًا من العسرة والمشقة؛ ثلاثون يومًا منها قضاها في الطريق ذهابًا وإيابًا، وعشرون يومًا حاصر تبوك ثم عاد بلا قتال حيث جبن الروم عن القتال. خرج في رجب وعاد في رمضان سنة تسع للهِجْرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا كثيرًا مُباركًا فيه؛ كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بَعْد: فإن أخبار مُعجزات النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك كثيرة بالنسبة لغيرها من الغزوات، وذلك يتناسب مع حجم التحدي؛ فإن المنافقين كما هي عادتهم قد أجلبوا بخيلهم ورجلهم في بث الشكوك، واختلاق الأكاذيب؛ تكذيبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإرجافًا للمُؤْمنين؛ وإرضاءً لمن حارب الله ورسوله. فإذا ما انضم إلى ذلك أنواع من العسرة والمشقة لحقت بالصحابة رضي الله عنهم فإن تكالب هذا عليهم قد يؤدي إلى الشعور باليأس والإحباط، واستبطاء نصر الله تعالى؛ ولربما وجدت مقالات المنافقين آذانًا صاغية، وما كان الله تعالى ليترك رسوله صلى الله عليه وسلم بل أيده بهذه المعجزات؛ ليحبط كيد المنافقين، ويفضح مكرهم، ويثبت قلوب المؤمنين على الحق؛ ولهذا كان في هذه الغزاة من المعجزات ما يتناسب مع حجم مشقتها، وحجم كيد المنافقين. وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فمنافقو هذا العصر يقومون بذات الدور الذي قام به أسلافهم من التشكيك في الإسلام، وبث الشائعات، وقذف الشبهات، والدعوة إلى غير دين الله. وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهر المسلمين؛ ليرد كيد المنافقين بما أيده الله تعالى به من مُعْجزات؛ ولكن المؤمنين عندهم كتاب الله تعالى أعظم معجزة، وأكبر آية، وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم هما النجاة لمن تمسك بهديهما، وسار على دربهما، ولن تضره فتنة ما دام على ذلك. ولكن الدَّيْمُومَة على ذلك عزيزة المنال، في ظل ما تموج به الفتن في هذه الأيام من أنواع الشبهات والشهوات؛ مما يزعزع إيمان ضعفاء القلوب؛ ولذا كان أجر المستمسك بدينه في هذه الأحوال يُعادل أجر خمسين من الصحابة رضي الله عنهم مع فضلهم، وقوة إيمانهم، كما ثبت ذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبضٍ على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله)) قيل: "يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟" قال: ((أجر خمسين منكم))؛ أخرجه الأربعة إلا النسائي[7]. وما ذاك إلا لشدة الابتلاء، وعظم الفتنة، وقلة النصير من البشر؛ فكان الأجر مناسبًا لعظيم الابتلاء. فاتَّقُوا الله ربكم، واثبتوا على الحق مهما كثر الزَّائِغُون، وعلا صوت المنافقين؛ فإن بعد العسر يسرًا، وبعد الشدة فرجًا، ولن يخذل الله تعالى من أخلص له العبودية؛ بل سينصره ويؤيده: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ ﴾ [الرُّوم: 47]، ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]. ألا وصلوا وسلموا على نبيكم؛ كما أمركم بذلك ربكم. [1] أخرجه أحمد (6/ 20)، والبزار (1840)، والطبراني في "الكبير" (18/ 317)، وصححه ابن حبَّان (4681). [2] أخرجه الحاكم وصححه وقال: على شرطهما (1/ 159)، وصححه ابن حبان (1383)، وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 357)، وفي "دلائل النبوة" (5/ 231)، والبزار (1841)، وعزّاه الهيثمي في "مجمع الزوائد" للبزار والطبراني في "الأوسط"، وقال: ورجال البزار ثقات (6/ 194)، وقال ابن كثير في "السيرة": "إسناده جيد ولم يخرجوه من هذا الوجه" (4/ 16). [3] أخرجه أحمد (2/ 421)، ومسلم في الإيمان؛ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا (27). [4] "تاريخ الطبري" (3/ 145)، و"دلائل النبوة" للبيهقي (5/ 232)، و"سيرة ابن هشام" (2/ 523). و"الاكتفاء" لأبي الربيع الكلاعي الأندلسي (1/ 368)، و"أعلام النبوة" للماوردي (159)، و"زاد المعاد" (3/ 533)، و"السيرة الحلبية" (3/ 107)، و"الإصابة (2/ 619)، و"البداية والنهاية" (3/ 240). [5] كما في حديث معاذ رضي الله عنه عند مسلم في الفضائل؛ باب في معجزاته ج صلى الله عليه وسلم (706). [6] كما في حديث أبي حميد الساعدي عند البخاري في الزكاة باب خرص التمر (1481)، ومسلم في "الفضائل" باب في معجزاته (1392). [7]أخرجه أبو داود في "الملاحم" باب الأمر والنهي (4341)، والترمذي في "التفسير" باب ومن سورة المائدة وحسنه (3058)، وابن ماجه في "الفتن" باب قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [المائدة: 105] (4014)، وصححه ابن حبان (385).
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() غزوة تبوك (3) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل أفعال المنافقين الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونَعُوذ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ï´¾ [آل عمران: 102]، ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ï´¾ [النساء: 1]، ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ï´¾ [الأحزاب: 70 - 71]. أما بَعْدُ: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها المسلمون: كانت غَزْوة تبوك التي حدثت في رجب من السنة التاسعة من الهجرة فرقانًا بين الإيمان والنِّفَاق؛ إذ كثرت فيها أعمال المنافقين، وعظمت أقاويلهم، واتسعت أراجيفهم، وعقبها بأسابيع أنزل الله تعالى سورة كاملة في شأنها فضحت المنافقين، وكشف أفعالهم[1]. لقد كان المنافقون يعيشون بين الصحابة، وجلُّ الصحابة رضي الله عنهم لا يعرفونهم إلا من أسرَّ له النبي صلى الله عليه وسلم ببعضهم؛ كحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ولكن بعد تَبُوك، وعقب نزول سورة براءة عرف الصحابة كثيرًا منهم؛ إذ نصَّتِ السورة على أقوالهم وأفعالهم، فعُرِفَ أن أصحاب تلك الأقاويل والأفعال كانوا منافقين. ولذا كان ابن عباس رضي الله عنهما يسميها الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، قال سعيد بن جُبَيْر: قلت لابن عباس: سورة التوبة، قال: "التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ï´؟ وَمِنْهُمْ ï´¾ [البقرة: 78] حتى ظنوا أنها لم تُبْقِ أحدًا منهم إلا ذكر فيها"؛ أخرجه البخاري[2]. وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يسميها الحافرة؛ كأنها حفرت عما في قلوب المنافقين من النفاق فأظهرته للمسلمين[3]، وسماها قتادة: المثيرة؛ لأنها أثارت عورات المنافقين وأظهرتها[4]. بدأ نفاقهم في هذه الغَزْوة قبل سير الجيش، فمنذ أن أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عازم على النفير إلى تبوك، وأمر المُسْلمين بالصدقة لتجهيز الجيش، جعل المنافقون يَلْمِزُون المُتَصَدِّقين. قال أبو مسعود البدري رضي الله عنه: "لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مُرائي، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا. فنزلت: ï´؟ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ï´¾ [التوبة: 79]، رواه البخاري ومسلم[5]. ولما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم النفير بدأ المنافقون يعتذرون عن المسير معه؛ وذلك لتثبيط همم الناس، وإضعاف معنوياتهم: ï´؟ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ ï´¾ [التوبة: 81]، فأنزل الله تعالى: ï´؟ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ï´¾ [التوبة: 81][6]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للجَدِّ بن قيس: ((يا جدُّ هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟)) فقال: "يا رسول الله، أوتأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشدَّ عجبًا بالنساء منّي، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر"؛ فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقال: ((قد أذنت لك)) وفيه نزل قول الله تعالى: ï´؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ ï´¾ [التوبة: 49][7]. وتتابعت أعذارهم الكاذبة على النبي صلى الله عليه وسلم فكان يَأْذن لهم فعاتبه الله تعالى بقوله: ï´؟ عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ ï´¾ [التوبة: 43][8]. وقبيل مسير الجيش بنوا مسجد الضرار ليجتمعوا فيه؛ مكايدة للمؤمنين، وتفريقًا لاجتماعهم، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه فنهاه الله عن ذلك، ثم لما عاد من تبوك أحرقه[9]. وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالإقامة في أهله، وخلّفه عليهم فقال المنافقون: "ما خلّفه إلا استثقالاً له وتخففًا منه" فأخذ علي رضي الله عنه سلاحه، وخرج من المدينة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف، فأخبره بما قال المنافقون عنه، وقال: "يا رسول الله، تخلفني في النساء والصبيان"، فكذَّب النبي صلى الله عليه وسلم مقولة المنافقين، وقال لعلي رضي الله عنه: ((ولكني خلَّفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي))[10]. سار جيش العُسْرَة إلى تَبُوك، وتخلف عن المسير من تخلف من المؤمنين وهم قِلَّة، وتخلف من المُنَافِقِين كثرة، وسار قومٌ من المنافقين مع الجيش؛ ليكملوا مهمتهم في الكيد والتآمر على المؤمنين، والتربص بهم، ولم يتوقفوا عن ذلك أو يخففوه؛ بل عظم شرهم، واستفحل خطرهم، حتى كانوا يوهنون عزائم المؤمنين، ويحطمون معنوياتهم بأقوالهم؛ إذ قال قائل منهم لجمع من الصحابة رضي الله عنهم وهم في الطريق إلى تبوك: "أتحسبون جلاد بني الأصفر؛ كقتال العرب بعضهم بعضًا، والله لكأنّا بكم مقرنين بالحبال". يقولون ذلك؛ إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين[11]. وأخذوا يستهزئون بقراء الصحابة رضي الله عنه ففي مجمع لهم قال أحدهم: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء" فقال رجل في المجلس: "كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال ابن عمر رضي الله عنهما: "فأنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة وهو يقول: "يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ï´؟ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ï´¾ [التوبة: 65، 66] [12]، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن اللعب والجد في إظهار كلمة الكفر سواء، ولا خلاف بين الأئمة في ذلك؛ كما نقله ابن الجوزي[13]. وأعظم من ذلك وأشدّ كفرًا أنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم فقام جماعة منهم - وهم ملثمون حتى لا يُعرفوا - بمحاولة تنفير دابة النبي صلى الله عليه وسلم لتطرحه من رأس عقبة في الطريق مع عتمة الليل، فعلم عليه الصلاة والسلام بكيدهم، وفطن لهم، وأمر بإبعادهم[14]. لقد كان شرهم في تبوك على المؤمنين مع شدة وعسرة، وحر شديد، ومفاوز بعيدة؛ لكن الله تعالى ثبت المؤمنين، وفضح المنافقين، ونُهي النبي صلى الله عليه وسلم بعدها عن الصلاة عليهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ï´؟ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ï´¾ [التوبة: 84 - 85]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أمَّا بعد: فاتقوا الله عباد الله: ï´؟ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ ï´¾ [الأنفال: 29]. أيها المؤمنون: كان المنافقون من أعظم الأعداء الذين ابتليت بهم الأمة المسلمة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا؛ يدسون الدسائس، ويدبرون المؤامرات، ويبثون الشائعات، ويتحالفون مع العدو ضد المسلمين. ولعظيم خطرهم وشرهم صُدِّرت أطول سورة في القرآن ببيان جملة من صفاتهم ومكرهم: ï´؟ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ï´¾ [البقرة: 9 - 10]. إنهم أخطر من اليهود والنصارى والوثنيين؛ لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ï´؟ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ ï´¾ [البقرة: 14]. كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يخفون نفاقهم خوفًا من تنزل الآيات التي تفضحهم ففضحهم الله تعالى وأما بعد النبي صلى الله عليه وسلم فإن كثيرًا منهم أظهروا نفاقهم وأعلنوه. ولهم في هذا العصر سمات يعرفون بها لا تخفى على أولي الألباب، إنهم يستهزئون بالله تعالى، وبالرِّسَالات، وبالقرآن، وبالصحابة، وبشعائر الإسلام الظاهرة، وبعباد الله الصالحين المتمسكين بالسنة. إنهم فيما يكتبون يبدون إعجابهم برموز النَّصارى، وربما بِشَعائرهم، ويثنون على كل ما جاء من الغرب، ويعتبرونه رقيًّا وحضارة بخيره وشره، وحُلوه ومرِّه! لا يفرقون بين شيء من ذلك!! ويطالبون المسلمين بقبول الآخر وعدم كراهيته، وبإلغاء النصوص التي فيها كراهية الآخرين؛ كما يقولون. إنهم يمدحون هذا الآخر - الذي هو الكافر - وغيروا اسمه من الكافر إلى الآخر؛ لاعتقادهم أن ما عنده من كفر قد يكون صحيحًا، وأنه لا يوجد حقيقة مطلقة كما يقولون، وأن عصر المعلومات حطم الأيدلوجيات، ويجعلون من ضمن الأيدلوجيات: الإسلام، أخزاهم الله وفضحهم. وفي الوقت الذي يمدحون فيه الكفر وأهله يشنون فيما يقولون ويكتبون حربًا لا هوادة فيها على كل من دعا إلى الإسلام، أو طالب بتحكيم شريعة الله تعالى ويصفونه بأبشع الأوصاف التي تخوف العالمين منه، وياليتهم لما طالبوا المسلمين بقبول الآخر - الذي هو الكافر - قبلوا هم الصالحين من عباد الله تعالى وكفوا ألسنتهم وأقلامهم عن أذيتهم؛ ولكن كيف يفعلون ذلك وهم يفرحون بكل مصيبة تقع على المسلمين؟، ويشمتون بهم، ويغتمون لكل حسنة تصيبهم: ï´؟ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ï´¾ [آل عمران: 120]. ألا فاتقوا الله ربكم، واحذروا النفاق والمنافقين، ولا يأمنن أحد على نفسه أن يكون فيه شيء من النفاق؛ فإن من أمن النفاق وقع فيه، ومن خافه سلم منه، وقد كان الصحابة يخافون على أنفسهم النفاق. نعوذ بالله من النفاق وأحوال المنافقين، ونسأل الله تعالى أن يحفظ المسلمين من كيدهم وشرهم إنه سميع مجيب. وصلوا على النبي المختار من ولد عدنان، محمد بن عبدالله؛ كما أمركم بذلك ربكم.. [1] هي سورة التوبة، واتفق المفسرون على أنها نزلت في السنة التاسعة لكن اختلفوا في الشهر، فقيل: "نزلت في أول شوال"، وقيل: "نزلت في آخر ذي القعدة"، والجمهور على أنها نزلت دفعة واحدة فتكون مثل سورة الأنعام بين السور الطوال، انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1/ 97). [2] أخرجه البخاري في التفسير؛ باب تفسير سورة الحشر (4882). [3] "التحرير والتنوير" (10/ 96)، و"محاسن التأويل" (4/ 80). [4] "التحرير والتنوير" (10/ 96) وعزاه القاسمي لابن أبي حاتم؛ كما في "محاسن التأويل" (4/ 80)، ولها أسماء كثيرة سوى المذكورة، عدَّ القاسمي منها أربعة عشر اسمًا: وعدّ بعضها ابن عاشور في "التحرير والتنوير". [5] أخرجه البخاري في التفسير "سورة التوبة"؛ باب: ï´؟ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوَّعِينَ مِنَ المُؤْمِنينَ فِي الصَّدَقَاتِ ï´¾ (4668)، ومسلم في الزكاة؛ باب الحمل بأجرة يتصدق بها، والنهي الشديد عن تنقيص المتصدق بقليل (1018). [6] "سيرة ابن هشام" (4/ 216 - 217)، و"تفسير الطبري" (14/ 499-400)، و"الجامع لأحكام القرآن" (8/ 216)، و"تفسير ابن كثير" (2/ 564). [7] "سيرة ابن هشام" (4/ 216 - 217)، و"تفسير الطبري" (14/ 287)، و"زاد المعاد" (3/ 526)، و"الاكتفاء" للكلاعي الأندلسي (2/ 271)، و"السيرة الحلبية" (3/ 103) عن ابن عباس وعن مجاهد وعن قتادة - رضي الله عنهم ورحمهم- [8] قاله مجاهد رحمه الله تعالى ورواه عنه الطبري (14/ 273). [9] "تفسير الطبري" (14/ 268). [10] أخرج الحديث البخاري في المغازي؛ باب غزوة تبوك وهي: غزوة العسرة (4416)، ومسلم في فضائل الصحابة؛ باب فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2404)، وليس في رواية الصحيحين ذكرمقولة المنافقين، وإنما هي في "سيرة ابن هشام" (3/ 519)، و"الثقات" لابن حبان (2/ 92). [11] "سيرة ابن هشام" (2/ 524)، و"الاكتفاء" (2/ 277)، و"زاد المعاد" (3/ 536)، و"السيرة الحلبية" (3/ 102). [12] "تفسير الطبري" (14/ 333)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 254)، و"الاكتفاء" (2/ 277)، و"زاد المعاد" (3/ 536). [13] انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (3/ 464 - 465)، و"السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" (633). [14] "مسند الإمام أحمد" (5/ 453)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 32) وقال الهيثمي عن إسناد أحمد: ورجاله رجال الصحيح. انظر: "مجمع الزوائد" (6/ 195).
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() غزوة تبوك (4) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل دعوة أهل الكتاب الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونَعُوذ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ï´¾ [آل عمران: 102]، ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ï´¾ [النساء: 1]، ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ï´¾ [الأحزاب: 70 - 71]. أمَّا بعْدُ: فإنَّ أصْدَقَ الحديث كلامُ الله تعالى وخير الهدي هدْيُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار. أيُّها الناس: أرسل اللهُ تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى المكلفين كافَّة، إنْسهم وجِنّهم، عَرَبهم وعَجَمهم، قريبهم وبعيدهم؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور ï´؟ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ï´¾ [سبأ: 28]، ï´؟ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ï´¾ [الأعراف: 158]، وأنزل عليه القرآن مصدر هداية وتذكرة لجميع المكلفين: ï´؟ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ï´¾ [التَّكوير: 27 - 29]. وقد قضى الله سبحانه بأن يكون محمدٌ صلى الله عليه وسلم خاتمَ المُرسلين، وشريعته خاتمة الشرائع، وهي باقيةٌ بحفظ الله تعالى لها إلى قيام الساعة؛ ولذلك أوجب الله تعالى عليه بلاغها للناس، ووجب على مَنْ بَلَغَتْه وآمن بها أن يبلغها من لم تبلغْهُ منَ النَّاس: ï´؟ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ï´¾ [المـائدة: 67]. فمن قَبِلَ الدعوة، ودخل في الإسلام صار أخًا للمسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم؛ عملاً بقول الله تعالى: ï´؟ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ï´¾ [الحجرات: 10] ومَنْ رَفَضَ الدعوة، وأَبَى الدخول في الإسلام فله ما أراد؛ إذ: ï´؟ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ï´¾ [البقرة: 256] بشرط أن يخضع لسُلْطَان المسلمين وحكمهم، وذلك بدفع الجزية للمسلمين: ï´؟ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ï´¾ [التوبة: 29]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وهذه الآية الكريمة نزلت أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، واستقامت جزيرة العرب، أمر اللهُ رسولَه بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع؛ ولهذا تجهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظْهَرَهُ لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحوٌ من ثلاثين ألفًا"[1]. كان هذا الاستنفار العَظيم سنة تسع للهجرة في شهر رجب، والوجهةُ كانت إلى تبوك؛ لإخضاع أهل الكتاب لحكم الإسلام؛ بإسلامهم، أو دفعهم الجزية، أو قتالهم على ذلك؛ ليكون الدينُ كله لله تعالى. اجتمعت الجموع التي ما جمع في الإسلام قبلها مثلها، وحثَّ النبي صلى الله عليه وسلم الناس على التبرُّع بالدَّوابّ والسلاح والطعام؛ لتجهيز هذا الجيش الكبير وتموينه، وقال عليه الصلاة والسلام: "من جهَّز جيش العسرة فله الجنَّة"، فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه[2]، وجاء بألف دينار في ثوبه فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: "ما ضرَّ ابنَ عفَّان ما عمِلَ بعد اليوم، يُرَدِّدُها مرارًا"[3]. لما تَمَّ تجهيز الجيش سار من المدينة إلى تبوك، وجَهِدَ الصحابة رضي الله عنهم جهدًا شديدًا في الطريق؛ لبُعْد المسافة، وشِدَّة الحر، وقِلَّة المؤونة والظهر؛ حتى سميت تلك الغزوة بغزوة العسرة. فلمَّا وصل الجيش إلى تبوك لم يجد جيشًا يواجهه؛ إذ جبن الروم وحلفاؤهم من العرب عن مُلاقاة المسلمين، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة[4]، أرسل فيها الرسل إلى مُلوك النصارى يدعوهم إلى الإسلام، ومن أبى فرض عليه الجزية، وأخضع بلاده لحكم المسلمين. روى الإمام أحمد، وأبو يَعْلى من حديث سعيد بن أبي راشد قال: "لقيتُ التنوخي رسولَ هِرَقلَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص، وكان جارًا لي شيخًا كبيرًا قد بلغ الفَنَد أو قرُب، فقلت: "ألا تخبرني عن رسالةِ هِرَقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هِرَقل؟" فقال: "بلى، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، فبعث دحية الكلبي إلى هِرَقْل، فلمَّا أن جاءه كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قسيسي الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم بابًا، فقال: قد نزل هذا الرجلُ حيثُ رأيتم، وقد أرسل إليَّ يدعوني إلى ثلاث خصال؛ يدعوني إلى أن أتّبعه على دينه، أو على أن نعطيه ما لنا على أرضنا، والأرض أرضنا، أو نُلقي إليه الحرب. والله لقد عرفتم فيما تقرؤون من الكتب ليأخذن ما تحت قدميّ، فهلم نتَّبعه على دينه، أو نعطيه ما لنا على أرضنا، فنخروا نخرةَ رجلٍ واحد حتى خرجوا من برانسهم، وقالوا: تدعونا إلى أن ندع النصرانية أو نكون عبيدًا لأعرابي جاء من الحجاز!". فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رفَّأهم ولم يكد - أي هدأهم - وقال: إنما قلت ذلك؛ لأعلم صلابتَكُم على أمركم، ثم دعا رجلاً من عرب تُجيب كان على نصارى العرب، فقال: ادع لي رجلاً حافظًا للحديث، عربي اللسان، أبعثه إلى هذا الرجل بجوابِ كتابه، فجاء بي فدفع إليَّ هرقلُ كتابًا فقال: اذهب بكتابي إلى هذا الرجل، فما ضيَّعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال: انظر هل يذكرُ صحيفته التي كتب إليَّ بشيء، وانظر إذا قرأ كتابي فهل يذكر الليل، وانظر في ظهره هل به شيء يريبك؟ فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوك، فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه، محتبيًا على الماء، فقلت: أين صاحبكم؟ قيل: ها هو ذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي، فوضعه في حجره، ثم قال: ممن أنت؟ فقلت: أنا أحد تنوخ، قال: هل لك في الإسلام الحنيفية ملة إبراهيم؟ قلت: إني رسول قوم، وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم. فضحِك، وقال: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين. يا أخا تنوخ، إني كتبتُ بكتابٍ إلى كسرى فمزَّقه، واللهُ ممزّقُه وممزّق ملكه، وكتبتُ إلى النَّجاشي بصحيفةٍ فخرَّقها، والله مخرّقه ومخرق ملكه - وهذا النجاشي غير النجاشي الذي أسلم ومات وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكتبتُ إلى صاحبِكَ بصحيفةٍ فَأَمْسَكَها، فلن يزال الناسُ يجدون منه بأسًا ما دام في العيش خير، قلت: هذه إحدى الثلاثة التي أوصاني بها صاحبي، وأخذتُ سهمًا من جعبتي، فكتبتها في جلد سيفي. ثم إنَّه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره، قلت: من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم؟ قال: معاوية. فإذا في كتاب صاحبي: تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله! أين الليل إذا جاء النهار؟)) قال: فأخذت سهمًا من جعبتي فكتبته في جلد سيفي، فلما أن فرغ من قراءة كتابي قال: إن لك حقًّا، وإنكَ رسول فلو وجدتُ عندنا جائزة جوزناك بها، وإنَّا سَفْرٌ مُرْمِلُون. قال: فناداه رجل من طائفة الناس، قال: أنا أُجوِّزُه، ففتح رحله فإذا هو يأتي بحلةٍ صفوريةٍ، فوضعها في حجْري، قلت: من صاحب الجائزة؟ قيل لي: عثمان. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم يُنزِل هذا الرجل؟ قال فتى من الأنصار: أنا، فقام الأنصاري وقُمْتُ معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تعال يا أخا تنوخ، فأقبلت أهوي إليه حتى كنت قائمًا في مجلسي الذي كنت بين يديه، فحلَّ حَبْوَتَه عن ظهره، وقال: هاهنا أمض لما أمرت له، فجُلتُ في ظهره، فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف مثل الحَجْمة الضخمة))[5]، وذلك هو خاتم النبوة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ï´؟ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا ï´¾ [الفتح: 28]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك عليه وعلى آله، وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعْدُ: فاتقوا الله عباد الله كما أَمَرَ، واجتنبوا الفواحش ما بطن منها وما ظَهَرَ، واعلموا أنَّ الله مع المتقين. أيها الناس: ماثلت غزوةُ تبوك غزوةَ الخندق في شدتها وعسرها، وما حاق بالصحابة رضي الله عنهم من ابتلاءاتها، كما كانت نهايةُ الغزوتين واحدة؛ إذ كفى الله تعالى المؤمنين القتال، فسلَّط على الأحزاب ريحًا رحلتهم عن المدينة، وقذف في قلوب النصارى رعبًا قعد بهم عن ملاقاة المسلمين في تبوك، وكانت تبوكُ نصرًا عظيمًا للإسلام والمسلمين؛ إذ أَخْضَع النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من القبائل والبلدان المُتحالِفَة مع الرومان لِسُلْطانِ المسلمين، وضرب عليهم الجزية، فبعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبدالملك صاحبِ دومة الجندل، فأسره خالدٌ وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية[6]، وأهدى أكيدر حلة من حرير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعجب الناس منها، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((أتعجبون من هذا، فوالذي نفسي بيده لمناديلُ سعد بن معاذ في الجنة أحسنُ من هذا))؛ رواه الشيخان[7]. وأرسل ملك أيلة هَدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصالحه على الجزية[8]. وهكذا فعل أهل جرباء وأذْرح فأعطوه الجزية[9]. وهكذا دانت كثير من البلاد والقبائل المتنصرة لسلطان الإسلام، ودخل كثير من أفرادها في دين الله تعالى فوطَّدَت هذه الغزوة سلطان الإسلام في شمالي الجزيرة العربية، ومهدت لفتوح الشام التي استعدَّ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعداد جيش أسامة قبيل وفاته، فأنفذه أبو بكر رضي الله عنه ثم أتبعه أبو بكر بجيوش الفتح الأخرى، ثم عمر رضي الله عنه حتى كُسر الرومان في معركة اليرموك، والفرس في القادسية، وعزَّ الإسلام، وانتشر في الأرض، وتحرَّر الناسُ من ظلم الأكاسرة والقياصرة. إن ما جرى في غزوة تبوك من مبادأة أهل الكتاب بالغزو لَمِمَّا يرد شبهة أولئك الكتَّاب المعاصرين الذين أرادوا تزوير مفهوم الجهاد في سبيل الله تعالى وحصره في الدفع فقط. وهدفُهم من هذا الترويج هو: إخضاعُ الإسلام لبنود الحضارة المعاصرة، وتطويعه للقوانين الدولية الجائرة، فما وجدوا سبيلاً لرضى أهل الكتاب عنهم إلا بالتلاعب بأحكام الله تعالى من تزوير مفهوم الجهاد، وتضييق نطاقه، وإلغاء أحكام أهل الذمة، حتى كتب أحدهم كتابه: "مواطنون لا ذِمّيون"[10]، بل وصل الحال ببعضهم إلى إلغاء حدِّ الردة، وبالغ بعضهم فرفض كلَّ الحدود بحجة عدم مناسبتها لهذا العصر. إن هؤلاء المزورين للدين، المتلاعبين بأحكام الشريعة قد ارتضوا أن يُسخطوا الله تعالى برضى الناس، فهم حريون بسخط الله تعالى عليهم، وأن يسخط عليهم الناس، وما رأينا من حاولوا إرضاءهم قَدْ رَضُوا عنهم ولا عن دينهم، ولا عن أفكارهم التي فيها من بنود الحضارة المعاصرة أكثر مما فيها من الإسلام، بل سخطوا عليهم ورفضوهم ولم يقبلوهم. أليست القوى الظالمة قد اعتبرت مقاومة المحتل المعتدي إرهابًا؛ لأنهم يريدون من الضحية أن يذبح ولا يعترض، وأن يُعذبَ فلا يتوجع. ولن يرضيهم شيء حتى يبدلوا ديننا، وصدق الله القائل: ï´؟ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ï´¾ [البقرة: 120]. ألا فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم، واثبتوا عليه مهما كانت التبعات؛ فإن حوض النبي صلى الله عليه وسلم لا يَرِدهُ من بدلوا وغيروا، ولسوف يحجبون عنه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((سُحقًا سُحقًا لِمَنْ بَدَّل بعدي))[11]. وصلوا وسلموا على نبيكم محمد، كما أمركم بذلك ربكم. [1] "تفسير ابن كثير" (2/ 542)، عند تفسير الآية (29) من سورة التوبة. [2] أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا به في الوصايا؛ باب: "إذا وقف أرضًا أو بئرًا..." (2778)، ووصله الدارقطني (4/ 199)، والإسماعيلي؛ كما ذكر الحافظ في "الفتح" (5/ 477)، وأخرجه أحمد في "المسند" (1/ 70)، وفي "فضائل الصحابة" (730)، والطاليسي (2/ 170)، والبيهقي (6/ 167) وغيرهم. [3] أخرجه أحمد (5/ 63)، والترمذي في "المناقب" باب: "مناقب عثمان بن عفان"، وحسنه (3701)، وأبو نُعَيْم في "الحلية" (1/ 95)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (3/ 102). [4] أخرجه أحمد (3/ 295)، وأبو داود في الصلاة باب: "إذا أقام بأرض العدو يقصر" (1235)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (4335)، والبيهقي في "الكبرى" (3/ 152)، وصححه ابن حبان (2738) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. [5] أخرجه أحمد (3/ 441 - 442)، وابنه عبدالله في "الزوائد" (4/ 74 - 75)، والبيهقي في "الدلائل" (1/ 266)، وأخرجه مختصرًا أبو عبيد في "الأموال" (625)، وابن زنجويه في "الأموال" (961)، وعزاه الهيثمي في "الزوائد" لأبي يعلى، وقال: ورجال أبي يعلى ثقات (8/ 234 - 236)، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية": "هذا حديث غريب، وإسناده لا بأس به تفرد به الإمام أحمد (5/ 15 - 16). [6] "سيرة ابن هشام" (4/ 232)، و"الإصابة" (1/ 413). [7] أخرجه البخاري في بدء الخلق؛ باب: "ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة" (3248)، ومسلم في "فضائل الصحابة" باب: "من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه (2469)، والترمذي في اللباس باب: "مس الحرير من غير لبس" (1723)، وأحمد (3/ 111) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وجاء أيضًا من حديث البراء رضي الله عنه عند البخاري في مناقب الأنصار؛ باب: "مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه" (3802)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: "من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه" (2468). [8] أخرجه البخاري في الجزية والموادعة باب إذا وادع الإمام ملك قرية هل يكون ذلك لبقيتهم (1361)، ونقل الحافظ في "الفتح" عن ابن إسحاق قوله: "لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه بحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية..." (6/ 308). [9] "سيرة ابن هشام" (3/ 230). [10] هو الكاتب الصحفي فهمي هويدي، هداه الله تعالى. [11] كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند البخاري في الرقاق باب: "في الحوض" (6584)، ومسلم في الفضائل باب إثبات حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته (2991).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |