|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() وما تجزون إلا ما كنتم تعملون د. أحمد فريد الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبين عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم. فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليمًا. أما بعد: قوله عز وجل: ﴿ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ * إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ [الصافات: 38 - 70]. هذه الآيات الكريمات من سورة الصافات، يصور الله عز وجل لنا فيها كيف يكون حال أهل الجنة في الجنة، وكيف النعيم الذي يعيشون فيه، وما يتحدثون به، وما يخبر بعضهم بعضًا به، ثم يبين الله عز وجل كيف يكون طعام أهل النار، وكيف يكون حال أهل النار، والله عز وجل عالم الغيب والشهادة، فالله عز وجل علم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فالله عز وجل يخبرنا عن الغيب، عن خلق آدم وعن الرسل المتقدمين، كما يخبرنا الله عز وجل عن يوم القيامة وما يكون بعد يوم القيامة، فالله عز وجل عالم الغيب والشهادة، فسجل الله عز وجل لنا هذه المحادثة بين رجل من أهل الجنة وبين أقرانه الذين هم متقابلون في الجنة على السُّرُر، وبدأ الله عز وجل هذه الآيات الكريمات بقوله عز وجل: ﴿ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 38، 39]. قالوا: هي شبيهة بقول الله عز وجل: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3]. فأصل الإنسان وأكثر الإنسان في خسر، كما يقول الله عز وجل لآدم يوم القيامة: ((يا آدم، أخرِج بَعْثَ النار، فيقول: يا رب، من كل كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون))[1]. أي: واحد إلى الجنة، وتسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، فالأصل أن الناس ذائقو العذاب الأليم، الأصل أن الإنسان في خسر، ثم قال عز وجل: ﴿ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 39]، أي أن الله عز وجل لا يظلم الناس شيئًا، وإنما هذا جزاء أعمالهم ﴿ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 39]، ثم استثنى الله عز وجل المخلصين من عباده، ما قال المصلين أو المتصدقين؛ لأن العبد قد يعمل هذه الأشياء رياء ليس طاعة، وليس إخلاصًا لله عز وجل، فقال عز وجل: ﴿ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 38، 39]، ثم استثنى الله عز وجل المخلصين من عباده، الذين أخلصوا أعمالهم لله عز وجل، والذين أخلصوا إيمانهم لله عز وجل، كما توعد الشيطان فقال: ﴿ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 39، 40]. وقال الله عز وجل: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 99، 100]. فاستثنى الله عز وجل المخلصين، هم وحدهم عباد الله الذين ينجون من هذا العذاب الأليم: ﴿ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الصافات: 40، 41]، أي رزق عظيم معلوم الكمية، ومعلوم الوقت، ومعلوم القدر، فأجمل الله عز وجل هذا الرزق المعلوم في هذه الآية، ثم فصَّل الله عز وجل بعد ذلك، فقال: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴾ [الصافات: 41 - 49]. كما قال عز وجل: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴾ [النبأ: 31]، فأجمل في آية واحدة، ثم قال: ﴿ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ﴾ [النبأ: 32 - 36]. فأجمل الله عز وجل النعيم، قال: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الصافات: 41 - 44]. ففي هذا من أدب بعضهم مع بعض، فهم وجوههم متقابلة، وسررهم متقابلة، وفي ذلك أيضًا إشارة إلى إخلاص قلوبهم، وإلى تقابل قلوبهم؛ لأن الله عز وجل قال في آيات أخرى: ﴿ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47]. كل صداقة وكل خلة في الدنيا لا بد أن يكون فيها شيء من الشوائب، أما في الآخرة عباد الله فتخلص المودة، وتصفو المحبة. ﴿ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ﴾ [الصافات: 44، 45]. والعرب تسمي الكأس كأسًا إذا كانت مملوءة خمرًا، والله عز وجل بيَّن في هذه الآيات أن خمر الآخر ليست كخمر الدنيا، فهي في الدنيا شراب خبيث نجس، نجس المعنى، وليست لذة للشاربين، ولذلك مَن يشربها يقذف بها في آخر حلقه، كذلك فيها آفات أربعة، كما قال ابن عباس: "تثقل رؤوسهم، وتتعب بطونهم، وتذهب عقولهم". فخمر الجنة ليس فيها شيء من هذه الغوائل، وليس فيها شيء من هذه الآفات: ﴿ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ﴾ [الصافات: 44 - 46]. أي لا تغتال عقولهم وقيل: لا تثقل رؤوسهم، ولا تحدث لهم صداعًا، ولا هم عنها ينزفون، لا تذهب عقولهم بالكلية، فأهل الجنة عباد الله لا ينامون، وأهل الجنة لا يموتون، وكذلك لا تذهب عقولهم؛ لأنهم يستمتعون في كل لحظة بما في جنة الله عز وجل من نعيم مقيم ﴿ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴾ [الصافات: 47، 48]. قيل قاصرات الطرف: لا ترى إلى زوجها، قيل: لجماله، وقيل: لمحبته، قاصرات الطرف عين: فهي لا تطمح بعينها ولا تريد أن ترى إلا زوجها، فهي تقصر طرفها ونظرها على زوجها، وقيل قاصرات الطرف: أي إن زوجها يقصر طرفه عليها، لا يتطلع إلى غيرها، ولا يبغي غيرها لشدة جمالها وشدة محبتها، والمعنيان متقابلان، وقد تجمع الآية المعنيين؛ أنه لا يريد أن يحول طرفه عنها لشدة جمالها، وهي كذلك لا تريد أن تحول طرفها عن زوجها لشدة محبتها لزوجها، ولقوة جمال زوجها كذلك. ﴿ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴾ [الصافات: 48، 49]. قيل: بيض النعام الذي تغطيه النعام بريشها، وهو أبيض مائل إلى الصفرة، وقيل: هذا أجمل بياض في المرأة، الأبيض المائل إلى الصفرة. ﴿ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [الصافات: 48 - 50]. فكل هذا وصف لنعيم أهل الجنة من المطاعم والمشارب، ومن السرر المتقابلين عليها، ومن الحور العين، ثم قال عز وجل: ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [الصافات: 50]؛ أي هذا من نعيمهم أنهم يتحدثون عن ما كانوا فيه من الدنيا، وعن ما حدث لهم في الدنيا، كما قال عز وجل: ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 25 - 28]. فمن نعيم أهل الجنة أنهم يحكي بعضهم مع بعض، ويحكي بعضهم عما حدث منهم في الدنيا، كما أن أهل العلم لهم نعيم خاص في الجنة، وهو أنهم يتشاورون في العلم والمسائل التي اختلفوا فيها في الدنيا، فإنها تظهر في الآخرة حقائق الأشياء، وتحسم الأمور التي اختلفوا فيها في الدنيا، فيكون هذا من النعيم الخاص بأهل العلم في الجنة، ففي هذه الآيات الكريمات - عباد الله - يحكي الله عز وجل أن رجلاً من أهل الجنة وهم يتساءلون قال: ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ [الصافات: 51 - 53]. فهو يحكي بعد أن وصل إلى هذا النعيم، وبعد أن وصل إلى عين اليقين، وبعد أن رأى نعيم الله عز وجل بعين رأسه، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا هذا النعيم، وأن نعيش هذا النعيم الذي نسمعه الآن. ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ [الصافات: 50، 51]؛ أي: صديق أو مقارن أو شريك ﴿ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ [الصافات: 52، 53]؛ هل تصدق هذه الخرافة؟ إننا إذا صرنا ترابًا وعظامًا تعاد الأجساد مرة ثانية، ثم نحاسب على أعمالنا. ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 78، 79]. فالذي يستبعد البعث عباد الله ينسى أنه لم يكن شيئًا مذكورًا، ينسى أنه كان ماءً مهينًا قذرًا، تستقذره النفوس، وخلق الله عز وجل منه هذا البشر السميع البصير المتحرك، فلماذا يستبعد البعث مرة ثانية؟ ﴿ أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 3، 4]. ويحكي المفسرون أن هذه قصة رجلين في الدنيا كانا شريكين، وكان معهما ثمانية آلاف دينار، فاقتسما هذه الثروة، فصار لكل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فأنفق الأول ألف دينار في بناء دار أو في شراء دار، فلما سأله صاحبه عن الألف دينار، قال: "اشتريت بها هذا القصر"، فتصدق بالألف دينار، وقال: اللهم إني أشتري عندك قصرًا في الجنة، وأصبح تصدق بالألف دينار، ثم إن شريكه قد تزوج زوجة حسناء جميلة بألف آخر. فقال الثاني: "اللهم إني أتزوج من حور الجنة بحورية". وأصبح تصدق بألفي دينار، ثم إن الأول قد اشترى بساتين بألفي دينار، فسأل الثاني عنه، فأخبره أنه اشترى بساتين بألفي دينار، فأراد الثاني أن يشتري بساتين في الجنة بالألفين الباقيين، ثم إنهما تقابلا. وقيل: احتاج الثاني إلى الأول، فسأله عن ثروته فأخبره بما فعل بها، فقال مكذبًا ومبينًا أنه سفيه العقل، قال: ﴿ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ [الصافات: 52، 53]. أي مجزيون بأعمالنا، محاسبون على أعمالنا، وأهل الجنة عباد الله لا يخطر بقلوبهم شيء، ولا يتمنون شيئًا إلا أحضره الله عز وجل لهم، فلهم فيها ما يشتهون، فكأن هذا القاص من أهل الجنة تمنى لو أنه رأى صاحبه الذي أنكر البعث وأنكر النشور وكذب بلقاء الله عز وجل، كأنه تمنى أن يراه في هذا الموقف، وأن يريه أقرانه الذين هم معه على سرر متقابلين: ﴿ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ﴾ [الصافات: 54]. قيل: هذا كلام الله عز وجل لهم، وقيل: كلام الملائكة، ﴿ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 54، 55]. فقالوا: من تمام نعيم أهل الجنة في الجنة أن يروا الذين عذبوهم في الدنيا، وأن يروا المكذبين والضالين والذين كانوا يحاربون شرع رب العالمين، أن يروهم وهم في النار، كما روي عن ابن عباس، وقيل عن كعب الأحبار: إن لأهل الجنة في الجنة كوات، فإذا شاء أحد منهم أن يرى أحدًا من أهل النار فإنه يراه، ﴿ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 54، 55]؛ أي في وسط النار، ﴿ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ﴾ [الصافات: 56]. قال بعض العلماء: لولا أن الله عز وجل عرفه إياه ما عرفه؛ لأنه يحترق وجهه ويحترق جسده، ولكن الله عز وجل يعرفه إياه ﴿ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ﴾ [الصافات: 56]؛ أي إن كدت لتهلكني، ﴿ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ [الصافات: 57]. أي المحضرين معك في العذاب، لولا أن الله عز وجل ثبتني على الإيمان وعلى طاعة الرحمن عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على الإيمان، وأن يختم لنا بالإيمان، ﴿ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ [الصافات: 57]، ثم يخاطب نفسه فيقول: ﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ [الصافات: 58 - 61]. فالعبد عباد الله إذا كان في نعيم فإنه يهمه أن يستمر هذا النعيم، وإنه ينزعج إذا علم أن هذا النعيم يزول منه، كما قال بعضهم: إن هذا الموت قد نغص على أهل الدنيا نعيمهم، فاطلبوا نعيمًا لا موت فيه. وكما قال الحسن البصري: "فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لب فرحًا، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت، إلا صغرت في عينه الدنيا، وهان عليه كل ما فيها". ونظر بعضهم إلى داره فأعجبه حسنها، وقال: "والله لولا الموت لكنت بك مسرورًا، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرَّت بالدنيا أعيننا". فكأن هذا عباد الله لما وجد هذا النعيم الذي قد وصل إليه، وهذه النعمة العظيمة التي حصلها، وبعد أن رأى شريكه وهو في النار، وكيف أن الله عز وجل نجاه من هذا العذاب، وفاز بجنة الواحد الوهاب، عند ذلك قال مخاطبًا لنفسه: ﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴾ [الصافات: 58]. أي أن النعيم لا يزول، ولا يتكدر هذا النعيم بذكر الموت، إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النارِ النارَ نادى منادٍ: يا أهل الجنة ويا أهل النار، ويأتي معه بكبش فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، كلنا قد ذاقه، هو الموت، ثم يذبح الكبش بين الجنة والنار، فيقول: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت؛ فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم. ﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [الصافات: 58، 59]. وكأن في هذا إشارة كذلك عباد الله إلى أن العبد الذي يدخل الجنة لا يموت مرة ثانية في الجنة، وهناك مَن يموتون في النار، وهم عصاة الموحدين، كما ورد في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون))[2]. أي: إنهم يبقون يعذبون لا يموتون فيستريحون، ولا يجدون حياة فيها راحة، ولكن أناس - أي من أهل التوحيد - تمسهم النار فتميتهم إماتة؛ أي تحرقهم النار وتميتهم، ثم يحملون ضبائر ضبائر؛ أي كحزم الحطب، ويلقى بهم على نهر في الجنة يقال له: نهر الحياة أو نهر الحيا، ويرش عليهم أهل الجنة من ماء الجنة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، كما تخرج نبتة الفول من الجلدة السوداء والقشرة السوداء، نبت أبيض نظيف، فهم يموتون مرة ثانية في النار، أما من يدخل الجنة فإنه لا يذوق إلا الموتة الأولى؛ أي التي ماتها في الدنيا ﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ﴾ [الصافات 58 - 60]. فأي فوز يساوي هذا الفوز عباد الله؟ وأي نعيم يعادل هذا النعيم الذي يخلد فيه أهل الجنة؟ ﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ ﴾ [الصافات: 58 - 61]. قيل: هذا من كلام الله عز وجل، وقيل: من كلام هذا المؤمن. فكل لحظة عباد الله لا تقرب العبد عباد الله من العمل لهذه الدار أي الجنة تكون حسرة على العبد يوم القيامة، فكيف بمن خطاه تقربه إلى دار البوار؟ كيف بمن يقترب من دار البوار بخطاياه وبخطاه؟ كل وقت تنفقه في غير التقرب إلى الله عز وجل حسرة. ما من قوم يجلسون مجلسًا لا يذكرون الله عز وجل فيه، ولا يصلون على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة؛ أي حسرة يوم القيامة، وإلا قاموا عنه كما يقومون عن جيفة حمار، فإذا كان الوقت الذي لا ينفق في طاعة الله حسرة على العبد يوم القيامة، فكيف بمَن وقته يقربه إلى النار، ومَن أعماله تقربه إلى دار البوار. ﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ ﴾ [الصافات: 58 - 61]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |