|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() حقيقة الزمن (1) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الزمن من خلق الله تعالى الحمد لله الخلاق العليم؛ خلق كل شيء فأتقنه، ودبر ما خلق وأحكمه، وشرع لهم من الدين أحسنه وأعدله {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88] نحمده على نعمه الظاهرة والباطنة، ونشكره على آلائه المتوالية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ قَصُر علم العباد عن معرفته عز وجل فلم يفوه سبحانه حقه، ولا قدروه حق قدره {مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بالله تعالى، وأتقاهم له، وصف ربه عز وجل بما يستحق أن يُوصف به، ورغَّب العباد في رضوانه وجنته، وحذرهم من نقمته وعذابه {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ} [المائدة:92] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أزكى هذه الأمة عملا، وأنفعهم علما، اجتنبوا ما نُهوا عنه، وسارعوا إلى ما أُمروا به، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واعملوا صالحا؛ فإن الأيام تمضي، والأعمار تنقص، وإن عامكم هذا يشارف على الانتهاء، وأنتم تعيشون أيامه الأخيرة، ليخلفه عام جديد، وكل عام يمضي يبعدكم عن دنياكم، ويقربكم من قبوركم، فخذوا من الزاد ما ينفعكم، واعتبروا بمرور الليالي والأيام فإنها من أعماركم {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]. أيها الناس: هذا الزمان الذي نعيشه ونعرف له ماضيا وحاضرا ومستقبلا أُعجوبة من الأعاجيب، وآية باهرة من آيات الله تعالى، تدل على قدرته وعجيب صنعه سبحانه وتعالى.. آية بينة انبرى لمعرفتها الدارسون، واحتارت فيها العقول، وتخبط فيها البشر قديما وحديثا. ومنذ القدم والإنسان يحاول كشف كُنه الزمن وحَدَّه وبدايته وطريقة سيره، فما يدرك حقيقة من حقائقه بعد جهد جهيد إلا علم شيئا من قدرة الخالق عز وجل، واكتشف ما مضى من جهله وعجزه، وما يغيب عنه من حقائق الزمن فإنه يتخبط فيه يمينا وشمالا بنظريات وفرضيات، حتى يأتي لاحق فيكشف خطأ السابقين وتخبطهم. ومن عجيب قدرة الله تعالى، ومن أدلة عجز البشر أن أرقى العقول البشرية وأقواها تفكيرا وحِدَّةً واستحضارا يعسر عليها تحديد مفهوم الزمن في الوجود، وإن كان أخمل البشر وأغباهم يجدون سهولة في الشعور بالزمن وإدراك أثره. لقد كرس كثير من الفلاسفة القدماء وأهل الكلام وعلماء الفلك عقولهم لمعرفة قصة الزمن، وظن أكثرهم أن الزمن في الأرض مطلق لا يتناهى أبدا، فليس له بداية، ولا نهاية له، ومن هذا التقرير الخاطئ انبثقت مذاهبُ الدُّهرية، والقولُ بالتناسخ، وغير ذلك من الأقوال الفاسدة، والعقائد الباطلة. وفي الحضارة المعاصرة فتح الله تعالى للبشر من آفاق العلوم والمعارف ما توصلوا بها إلى كثير من الحقائق، وفي ما يتعلق بالزمن ظهر ذلك جليا على أيدي علماء الفيزياء والرياضيات والفلك فاكتشفوا النسبية التي منها نسبية الزمن، وأن الزمن الذي تعيشه المخلوقات على الأرض هو بالنسبة لها، وهو غير الزمن الذي يوجد في الكواكب الأخرى لا من جهة الليل والنهار، ولا من جهة الفصول والأعوام. ومن تأمل الكتاب والسنة وجد العجب العجاب في النصوص المعتنية بالزمن، الكاشفة لكثير من حقائقه وأسراره، ويكفي دليلا على ذلك أن ما يتعلق بالزمن وعلاماته في القرآن يعسر إحصاؤه بدقة من كثرته وتنوعه، والله تعالى سمى سورا بالزمن أو أجزاء منه أو بما يدل عليه كالقمر والنجم والشمس والفجر والليل والضحى والعصر، وأقسم سبحانه بكثير منها، وقد حاول أحد الباحثين أن يحصي بعض ما يتعلق بالزمن في القرآن الكريم فجمع أكثر من أربع مئة موضع. والمتقرر في عقيدة المسلم أن الله تعالى خالق الزمن ومدبره، وخالق علاماته وآياته وهي الشمس والقمر والنجوم، وما ينتج عنها من الليل والنهار والشهور والفصول؛ فبالشمس يُعرف الليل والنهار، فتشرق ليبدأ النهار، وتغرب ليبدأ الليل، ويهل القمر ليبدأ الشهر، ويضمحل لينتهي الشهر، وبالنجوم تعرف الفصول ابتداء وانتهاء، وبها يهتدي المسافرون، ويزرع الزارعون، وكل ذلك من خلق الله تعالى وتدبيره، وتسخيره لمنافع الأرض ومن عليها {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33] وفي آية أخرى {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ} [فصِّلت:37] ودلت الآيات القرآنية على أن هذه الآيات الكونية مسخرة لمنافع العباد ومصالحهم {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [النحل:12]. ومن منافع هذه الآيات الكونية، ونتائج تسخيرها للبشر حسابُ الزمن، وضبط الأيام والشهور والفصول والأعوام، وتلك علة لخلق الزمن منصوص عليها في القرآن الكريم {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ} [يونس:5] وفي آية أخرى {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] وللزمن غاية كما لعلاماته غاية، وجريان الزمن إنما هو بجريان علاماته، وإذا توقفت علامات الزمن توقف هو عن المسير {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:38-40] وفي آية أخرى {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد:2]. وآية الزمن في الدنيا -وهي الشمس والقمر- تنتهيان بانتهاء الدنيا، وبانتهائهما ينتهي زمن الدنيا {فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالقَمَرُ} [القيامة:7-9] وفي سورة أخرى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التَّكوير:1-2] وفي غيرها {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار:1-2] وروى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يوم الْقِيَامَةِ) رواه البخاري. ولما كان الزمن وعلاماته من خلق الله تعالى، يأتمر بأمره، ويخضع لحكمه وتدبيره؛ فإنه سبحانه وتعالى قادر على إيقاف عمله في حق أشخاص بأعيانهم فلا يعمل فيهم الزمن ما يعمله في غيرهم، كما أخبر الله تعالى عن الرجل الذي أماته الله تعالى مئة عام ثم بعثه {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] فهذا توقف عمل الزمن في حقه وفي حق طعامه وشرابه مئة سنة، وعمل الزمن في حماره فكان عظاما أحياها الله تعالى مرة أخرى وكساها لحما، فلما بعثه الله تعالى ابتدأ عمل زمنه مرة أخرى من اليوم الذي مات فيه، وهذا من عجائب قدرة الله تعالى وآياته، وجاء في أخبار بني إسرائيل أن بنيه ماتوا وبني بنيه هرموا وهم شيوخ أقوامهم في صدور مجالسهم، وهو جدهم ولا يزال شابا يافعا. وأبين من ذلك وأعظم دلالة على توقف عمل الزمن بإرادة الله تعالى: قصة أصحاب الكهف حين ضرب الله تعالى على آذانهم فناموا ثلاثة قرون وتسع سنوات.. توقف خلالها عمل الزمن فيهم فلم تُبْلَ أجسادهم، ولا انقضت أعمارهم ولا هرموا، ولم يُحسب ذلك من أعمارهم، واستأنفوا يومهم بعد نومهم، وأرسلوا أحدهم بورقهم إلى مدينتهم ليحضر لهم طعاما فإذا المدينة تغيرت، وإذا جيلهم قد فني، وخلفته أجيال في إثر أجيال كلها فنيت، وقد توقف زمنهم بنومهم، فسبحان من حبس عمل الزمن فيهم وأجراه في غيرهم، وكانوا آية من الآيات يتلى خبرها في كتاب الله تعالى. {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:25-26] وقد يكون حبس الزمن عاما بحبس آيته وهي الشمس، فيتوقف الزمن بتوقفها، وقد وقع ذلك في تاريخ البشر كما حصل ليوشَعَ بنِ نونَ عليه السلام فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ![]() ![]() وفي هذا الحبس توقف للزمن، ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى. ومن عجيب قدرة الله تعالى أن علامة الزمن قد ترجع إلى الوراء، فيكون رجوعها رجوعا للزمن؛ كما في حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ حين غَرَبَتْ الشَّمْسُ: (تدري أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قلت: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حتى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لها وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فلا يُقْبَلَ منها وَتَسْتَأْذِنَ فلا يُؤْذَنَ لها، يُقَالُ لها: ارْجِعِي من حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ من مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لها ذلك تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) متفق عليه. فرجوع علامة الزمن وهي الشمس عن المشرق إلى المغرب هو رجوع للزمن؛ ولذا جاء في بعض الآثار أن تلك الليلة التي رجعت فيها الشمس من المشرق إلى المغرب طويلة جدا حتى إن النائم يستيقظ وسطها، والقائم تطول عليه، ويدوك الناس فيها إذا صلوا الفجر يومها، ويعجبون من تأخر الشمس عن الشروق فتفجأهم بطلوعها من المغرب. فسبحان من خلقها وأجرها، وسبحان من أمرها فأطاعته {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83].بارك الله لي.... الخطبة الثانية الحمد لله حمدا يليق بجلاله وعظمته، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]. أيها المسلمون: كون الزمن من خلق الله تعالى فإن الله تعالى فوقه، ولا يحتاج إليه، ولا يحيط الزمن به؛ لأن الله تعالى غني عما سواه، وما سواه فقير إليه، وهو المتصرف في خلقه ومدبرهم، وهو سبحانه وتعالى خالق الزمن، وفي القرآن ما يدل على هذه الحقيقة العظيمة فيما يتعلق بالزمان والمكان، قال الله تعالى {هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ} [الحديد:3]. نُقل عن أبي سعيد الخراز أنه قيل له: بماذا عرفت ربك؟ قال: بجمعه بين الأضداد، وقرأ قوله تعالى {هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ} [الحديد:3] . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أراد بذلك أنه مجتمع في حقه سبحانه ما يتضادفي حق غيره؛فإن المخلوق لا يكون أولا آخرا باطنا ظاهرا.اهـ وهنا يقف العقل البشري عن إدراك كنه ذلك ومعرفة كيفيته لعجزه وقصوره، ولكمال الرب جل جلاله وقدرته على كل شيء، فما ثَمَّ إلا الإيمان والتسليم، وتعظيم الرب جل جلاله، أو الإلحاد في أسمائه وصفاته، وتعطيله سبحانه عما يستحقه من الإثبات والإجلال، وهذا هو المزلق الخطر الذي ضل فيه الفلاسفة وأهل الكلام قديما، وغرقت في لجته طوائف كثيرة من أهل الإسلام وغيره، حين أخضعوا صفات الرب جل جلاله لعقولهم القاصرة المحدودة، ولو عرفوا مقدارهم لعلموا أن ذا الكمال المطلق سبحانه لا يحيط به العقل القاصر، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وإذا كانت كبار العقول البشرية قد عجزت عن إدراك كُنه الزمن ومفهومه في الوجود وهم يعيشونه ويجري عليهم، والزمن من خلق الله تعالى، فكيف يجيلون عقولهم في كنه الخالق سبحانه؟! من أجل ذلك أُمر العباد بالتفكر في خلق الله تعالى، ونهوا عن التفكر في ذاته عز وجل. وجاء في السنة ما يفسر الآية فيما يتعلق بالزمن؛ كما في حديث عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله ولم يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ) رواه البخاري. ومن دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم أنت الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: واعلم أن لك أنت أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، بل كل شيء فله أول وآخر وظاهر وباطن حتى الخطرة واللحظة والنَفَس وأدنى من ذلك وأكثر، فأولية الله عز وجل سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه، فأوليتُه سَبْقُه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء.... فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة وهي إحاطتان زمانية ومكانية: فإحاطة أوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده.... فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه، والباطن في ظهوره لم يزل أولا وآخرا وظاهرا وباطنا...اهـ ومرور الزمن، وعمله في الناس قد أفسد الدنيا عليهم، فينقلهم الزمن من مرحلة الشباب والقوة إلى مرحلة الشيخوخة والضعف، وجريانُ الزمن يسرع بهم إلى الموت، وتلك سنة الله تعالى في عباده، وكان الزمنُ آيته سبحانه التي قدرها لتحقق هذه الحكمة العظيمة. قال الخليفة المنصور للربيع بن يونس: ما أطيب الدنيا لولا الموت! قال الربيع: يا أمير المؤمنين، ما طابت إلا بالموت، قال: وكيف؟ قال: لولا الموت لم تقعد هذا المقعد. ولما كان الزمن يجري بأهل الدنيا حتى يفسد عليهم نعيمهم فيها كان من نعيم الآخرة أن الزمن لا يعمل فيهم عمله؛ فأعمارهم ثابتة في ثلاث وثلاثين سنة، وهو منتهى قوة الشباب واكتماله، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أهل الجنة لا يبلى شبابهم، وفي القرآن العظيم أنهم خالدون فيها أبدا، وقال سبحانه {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلَّا المَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} [الدُخان:56] وتوقف عمل الزمن في أهل الجنة هو من كمال نعيمهم ودوامه. والمؤمن يقرأ ذلك في القرآن ويعلمه، ويرى أن الزمن يجري به في الدنيا إلى الهرم والموت، والعاقل من عمل بما علم، فكرس دنياه الفانية بفناء زمنها للعمل الصالح الذي يكون سببا لخلوده في نعيم الآخرة، فلا يجري به زمن فيها إلى الهرم والموت، فأعدوا للقيامة عدتها، وخذوا من مرور الأيام، وانتهاء الأعوام معتبرا {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ} [البروج:11]. وصلوا وسلموا على نبيكم....
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() حقيقة الزمن (2) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] الحمد لله الكريم الوهاب، العزيز الغفار؛ جعل في الكون منَ الآيات والبراهين ما يدل على عظمته وقُدْرَتِه، وحُسن خلقه وتدبيره؛ {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}[1]. نحمده على وافِر نعمِه، وجزيل عطاياه، ونَشْكُره على عظيم منِّهِ وهدايته، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ جعل الدنيا دار ابتلاء لعبادِه، وظرفًا لأعمالهم، ويوم القيامة يُجْزَوْن بها؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[2]. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أعرف الخلق بالله - تعالى - وأتْقاهم له، وأعلمهم بحقيقة الدُّنيا ومصيرها، كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو، فيقول في دعائِه: ((اللهمَّ بعلمكَ الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيِنِي ما علمتَ الحياة خيرًا لي، وتوفَّنِي إذا علمت الوَفَاةَ خَيْرًا لي))، صَلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه؛ تَرَضَّى عنهم ربُّهم - سبحانه - في كتاب يُتلى إلى يوم القيامة، وإن رغمتْ أنوف الكارهينَ لهم، والحاقدين عليهم؛ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}[3]، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين. أمَّا بعدُ: فأوصِي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله - تعالى - فإنَّ كلَّ عام ينقضي علينا، فإنه من أعمارنا، وهو مستودع أعمالنا، وهو شاهدٌ علينا، فتزوَّدُوا مِنَ الأعمال الصالحة ما يُقرِّبكم إلى الله - تعالى - واحْذَرُوا الدنيا وزينتها وفتنتها، فإنها وإنِ اخْضَرَّتْ لأهلها، يوشك أن تصفَرَّ وتزول، ويوشك جامِعُها أن يترك ما جَمَع، ويوشك بانِيها أن يفارقَ ما بنى، ولا يبقى إلاَّ العمل؛ {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[4]. أيها الناس: الزمن آيةٌ احتارَ فيها البَشَرُ، وعجبوا منها أشد العَجَب، ومع أنهم يعيشون في الزمن، فإنهم لا يدركون كُنْهَه، ولا يعرفون بدايته ونهايته، وتخبطوا فيه تخبُّطًا كبيرًا، وأنكر أقوام منهم أنَّ للزمن بداية ونهاية؛ {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}[5]. والكلامُ عنِ الزمن وآياته وعلاماته وآثاره طويلٌ جدًّا، ويكفي أنَّ الآيات القرآنية التي ذَكَرَتِ الزمنَ أو شيئًا منه قاربتْ أربعمائة آية، وأقسم الله - تعالى - بِجُمْلَةٍ مِن علاماته وأجزائه، وسميتْ سورٌ في القرآن ببعضه وبعض علاماته؛ كـ{الفَجْر}، و{الشمس}، و{اللَّيْل}، و{الضُّحَى}، و{العَصْر}، وغيرها. ومِن أجزاء الزَّمن: الليلُ والنهار، وعلامتهما: الشَّمس والقمر، فالقمر لِلَّيل، والشمس للنَّهار، جاء ذكرهما كثيرًا في كتاب الله - تعالى - لأهمية ذلك عند البَشَر، فالنَّهار والليل هما زمن العمل، والبناء للدُّنيا وللآخرة. إنَّ الليل والنهار آيتانِ على وُجُود الخالق - سبحانه - وعلى عظيم قدرته، وعلى حُسن خلقه وتدبيره، جاء ذِكْرهما في القرآن كثيرًا في سياق بيان قدرة الله - تبارك وتعالى - ولُزُوم التفَكُّر في خلقه، وصرف العبادة له وحده دون سواه؛ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[6]، وقال: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}[7]، وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ}[8]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}[9]. والليل والنهار والشمس والقمر آيات مُسَخَّرات لأهل الأرض، فلا يطالها البشر، ولا يقدرون على تغييرها أو تأخيرها، ولا يستطيعون الإفسادَ فيها كما أفسدوا في الأرض؛ بل هي آيات مسخرات للأقوياء والضُّعفاء، والأغنياء والفقراء، والسادة والعبيد؛ بل ومسخرات للحيوان، والطير والزواحف، كلهم ينتفعون بها، ولا يملك أحدٌ منَ الناس - مهما كانت قوته - أن يحولَ بين أهل الأرض، وبين الانتفاع بالليلِ والنهار، والشمس والقمر، ونجد النَّص على آيةِ التسخير هذه في جُملةٍ منَ الآيات القرآنية؛ {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ}[10]، وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}[11]، وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ}[12]، وقال: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}[13]، وقال: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}[14]. وكون الليل ظلامًا، والنهار ضياءً آيةٌ منَ الآيات العجيبة، ونعمة منَ الله - تعالى - على عبادِه، ففي الضياء يعملون ويكدحون، وفي الظلام ينامون ويرتاحون، وقد ذكَّرنا الله - تعالى - بهذه الآية والنِّعمة في عدد منَ الآيات؛ قال - سبحانه وتعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}[15]، وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}[16]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا}[17]، وقال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}[18]، وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}[19]. وذكر لنا ربُّنا - سبحانه وتعالى - أنه لو شاء لجعل الدنيا ليلاً بلا ضياء، ولو شاء لجعلها نهارًا بلا ليل؛ ولكنه - عز وجل - رحم عباده، فعاقب بين الليل والنهار؛ ليستقيمَ عيشُهم، وتعمر أرضهم، وتصلح أحوالهم؛ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[20]. وتَعَاقُبُ الليل والنهار، ودخولُ كل واحد منهما في الآخر حتى يمحوه، وأخذ كل واحد منهما من زمن الآخر صيفًا وشتاء - كلُّ ذلك آياتٌ عظيمة، تدلُّ على أنَّ المتصرِّفَ فيهما بذلك هو الله وحده لا شريك له، وأن أيةَ قوَّة - مهما بلغتْ - لا تستطيع أن تمنعَ تعاقبهما، ولا أن تأخذَ منَ الليل للنهار، ولا منَ النهار لليل؛ ولذلك يضبط الناس حياتهم ومعاشهم ونومهم على وفق ساعات الليل والنهار؛ لعجزهم عن تغيير ذلك أو تعديله، ونجد هذا المعنى العظيم مذكورًا في كتاب الله - تعالى - في عدد منَ الآيات؛ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}[21]، وفي آية أخرى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}[22]، وفي ثالثة: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}[23]، وفي رابعة: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}[24]، وفي خامسة: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ}[25]. ولعظمة هاتينِ الآيتينِ - الليل والنهار - أَقْسَمَ الله - تعالى - بهما في كتابه العزيز؛ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}[26]، وأقسم - سبحانه - بعلامتيهما الشمس والقمر؛ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا}[27]. والمُلاحَظ - أيها الإخوة - تقديمُ الليل على النهار في الآيات القرآنية، والعرب كانوا يجعلون النهار تبعًا للَّيل، وعلى هذا جاءتْ أغلب أحكام الشريعة في الصيام، والفطر، والأعياد، وغيرها، بينما كان الأعاجم يقدِّمون النهار على الليل. والشريعةُ الغَرَّاء حَدَّدتْ بداية الليل، مِن غروب الشمس إلى طُلُوع الفجر، وبداية النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ كما جاء في نصوص الصيام: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[28]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقبل اللَّيل مِن ها هنا، وأدبر النَّهار مِن ها هنا، وغربت الشَّمس، فقد أفطر الصَّائم))؛ رواه الشيخان. أيُّها الناس: إنِّي ساجد فاسجدوا معي كما جاء في السنة، أعوذ بالله منَ الشيطان الرجيم: {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ}[29]. بارَكَ الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية الحمدُ لله حمدًا طيبًا كثيرًا مُباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنِ اهتدى بهداهم إلى يوم الدِّين. أما بعد: فاتَّقُوا الله - عباد الله - وأطيعوه، {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}[30]. أيُّها المسلمون: الليلُ والنهار، والشمس والقمر آياتٌ بيناتٌ على وجود الله - تعالى - وربوبيته وألوهيته، وأنه - سبحانه - المتصَرِّف في الكون دون سواه، وأغلب الآياتِ التي وَرَدَ فيها ذكر الليل والنهار، والشمس والقمر، جاءتْ في سياق الثناء على الله - تعالى - وذِكْر ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأُمِرَ العبادُ بِلُزُوم توحيده لا شريك له، وذُيِّلَتْ هذه الآيات بالتفكُّر والاعتبار؛ كما في قوله - تعالى -: {لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[31]، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[32]، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[33]، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[34]، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}[35]. ومِن عظيم الاعتبار بالليل والنهار: أن نعلمَ أن تعاقبهما يُنقص أعمارنا، ويُقَرِّب آجالنا، ويعجل آخرتنا، وأن كلَّ عام يمضي فهو لنا أو علينا، بما أودعناه مِن أعمالنا، وكان السَّلَفُ الصالح والعلماء والحكماء يعلمون ذلك، ويعملون صالحًا بِمُقْتضاه، ويعظون الناس به. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ما نَدِمْتُ على شيء ندمي على يوم غربتْ شمسُه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي". وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "ابن آدم، إنكَ لم تزل في هدم عمرك منذ ولدتك أمك". وقال عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى -: "إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما". وقال الحسن البصري - رحمه الله تعالى -: "ابن آدم، إنكَ بين مطيَّتينِ يوضعانك: الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، حتى يُسلمانك إلى الآخرة". وقال داود الطائي - رحمه الله تعالى -: "إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإنِ استطعتَ أن تقدِّم في كلِّ مرحلة زادًا لما بين يديها، فافْعل". وقال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: "ينبغي للإنسان أن يعرفَ شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قُربة، فيقدم الأفضل فالأفضل منَ القول والعمل". واعلموا - يا عباد الله - أنه لا راحة في الدُّنيا، إن هي إلاَّ عمل فيما ينفع، أو فيما يضر، والراحة الكاملة في الجنَّة، فالسعيدُ مَن أتى ما ينفعه، وجانَب ما يضره. جاء رجل مِن أهل خراسان إلى الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - فقال: "يا أبا عبدالله، قصدتكَ من خراسان؛ أسألك عن مسألة، قال له: سَلْ، قال: متى يجد العبدُ طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة". أسألُ الله - تعالى - أن يُوفِّقنا لفِعْل الخيرات، واكتساب الحسنات، وأن يجعلَنا منَ المعتبرين بِتعاقُب الليل والنهار. وصلُّوا وسلموا على نبيِّكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] السجدة: 6، 7. [2] الزلزلة: 7، 8. [3] الفتح: 18. [4] الحديد: 20. [5] الجاثية: 24. [6] آل عمران: 190. [7] يونس: 60. [8] الإسراء: 12. [9] الأنبياء: 33. [10] الأعراف: 54. [11] إبراهيم: 33. [12] النحل: 12. [13] فاطر: 13. [14] الزمر: 5. [15] يونس: 67. [16] الإسراء: 12. [17] الفرقان: 47. [18] النمل: 86. [19] النبأ: 10، 11. [20] القصص: 71 - 73. [21] الحج: 61. [22] المؤمنون: 80. [23] النور: 44. [24] الفرقان: 62. [25] يس: 37. [26] الليل: 1، 2. [27] الشمس: 1، 2. [28] البقرة: 187. [29] فصلت: 37، 38. [30] البقرة: 123. [31] البقرة: 164، النحل: 12. [32] الرعد: 3. [33] النحل: 79، النمل: 86. [34] يونس: 67، الرُّوم: 23. [35] آل عمران: 13، النور: 44. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ} [الإسراء: 12]
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() حقيقة الزمن (3) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله العليم الحكيم، {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، نحمده على وافر نعمه، وجزيل عطاياه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دلتْ آياته ومخلوقاته على قدرته وعظمته، وإتقانه لخلقه؛ {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88}، فحقٌّ على الخلق أن يعبدوه - سبحانه - ولا يشركوا به شيئًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اصطفاه ربه - سبحانه - واجتباه، ومن الخير والهدى أناله وأعطاه، فكان نبيًّا رسولاً، وعبدًا شكورًا؛ {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113}، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، سادة هذه الأمة علمًا وعملاً، نصر الله - تعالى - بهم نبيَّه، وأقام بهم دينه، وهدى بهم عباده؛ فنتقرب لله - تعالى - بمحبتهم وموالاتهم، ونبرأ إليه ممن يبغضهم ويعاديهم، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - عبادَ الله - وأطيعوه، واعلموا أنكم إليه راجعون، وبأعمالكم محاسبون؛ فأنتم عبيده وهو ربكم، خلقكم لعبادته، وابتلاكم بدينه ودنياه، فمن سخَّر دنياه لدينه، وجعلها مطيةَ آخرته، سَعِدَ في الدارين، ومن جعل الدنيا أكبرَ همِّه، وأهمل آخرته، ندم حين لا ينفع الندم؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الغَرُورُ} [فاطر: 5]. أيها الناس: للزمن أهميتُه عند البشر؛ لأنه مستودع أعمالهم، وموضع أفراحهم وأحزانهم، ولا قيمة لهم بلا زمنهم الذي عاشوه، وعملوا فيه، فكُتب لهم أو عليهم ما عملوا. والزمن أعجوبةٌ من الأعاجيب، خلقه الله - تعالى - وخلق علاماتِه، وأودع خلقه فيه، فيؤثِّر الزمن فيهم بالهَرم والموت، ولا يتأثر الزمن بهم، فلا يقدِّمونه ولا يؤخِّرونه، ولا يستطيعون إيقافه. ومن قرأ القرآن بتدبُّرٍ، وجد امتلاءه بذِكر الزمن وأجزائه، وآياته وآثاره، وقد قُسِّم الزمن إلى قرْن وعقد وسنة، وفصل وشهر وأسبوع، ويوم وليلة، وقسم اليوم والليلة إلى أجزاء وساعات، ومن ضعْف البشر ونقص علمهم أنهم لا يعلمون متى كان هذا التقسيم؟ ولا كيف كان؟ ولا يعرفون من قام به؟ وليس لديهم في علمه إلا أخبارٌ تاريخية ظنية، فيها من الاختلاف والاضطراب ما يُسقط الثقةَ بها. لقد جاء ذكر اليوم في القرآن مكررًا في أكثر من أربعمائة وسبعين موضعًا، هذا غير ذكر أجزاء اليوم والليل، وكثيرًا ما يُذكَر اليوم أو الجزء منه مقرونًا بالعمل الصالح؛ لتذكير من يقرأ القرآن بأهمية شغل الزمن بالعمل، وفي ذِكر الجنة ونعيمها يذكِّرنا ربُّنا - جل جلاله - أن أهلها استحقُّوها بعملهم الصالح في أيام الدنيا؛ ليحفزنا للعمل الذي يرضاه منا، ما دمنا في أيامها، فيقال لأهل الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ} [الحاقَّة: 24]. إن أجزاء اليوم والليلة كثيرة جدًّا، وقد ذُكر في القرآن منها الفجرُ، والبكرة والغدو، وهما أول النهار، والإشراق، والصبح، والضحى، ودلوك الشمس وهو الزوال، والعشي وهو من الزوال إلى الغروب، والأصيل وهو آخر النهار، والغروب، والشفق، والغسق، والسَّحَر. ذكرت هذه الأجزاء من اليوم والليلة مقرونةً بقدرة الله - تعالى - لتعظيمه وشكره؛ نحو قوله - سبحانه -: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} [الأنعام: 96]، وقوله - سبحانه -: {رَبُّ المَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ المَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرَّحمن: 17، 18]. وتأتي أحيانًا مقرونة بذِكر عذاب المعذَّبين؛ لكونهم عُذِّبوا في ذلك الوقت؛ لتحذيرنا من سلوك مسلكهم، ولأخْذ العبرة مما حلَّ بهم، نحو قوله - تعالى -: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81]، وقوله - سبحانه -: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 38]. وتأتي أحيانًا - وهو الأكثر في القرآن - مقرونة بعبادة الوقت المذكور؛ لأن الهدف من إيجاد الإنسان في الدنيا، وهدايته بالقرآن، هو عبادةُ الله - تعالى - فكانت الآيات القرآنية تكرِّس هذا المعنى في ذكر اليوم والليلة وأجزائهما. يبتدئ المسلم يومه بالفجر، وفي القرآن أمرٌ بصلاة الفجر، وتذكيرٌ بأن ملائكة الليل والنهار تحضرها مع الأمر بسائر الصلوات؛ {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، والغدو والبكرة أول النهار، والأصيل آخره، وقد أمر المؤمن بتسبيح الله - تعالى - في هذين الجزأين من اليوم، سواء أُريد بذلك صلاتا أول النهار وآخره، أو أريد بهما ذِكر الله - تعالى - فيهما، ومنه أذكار الصباح والمساء؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 41، 42]، وفي آية أخرى: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9]، وفي ثالثة: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الإنسان: 25]. وأثنى الله - تعالى - على رجالٍ يحافظون على صلاة أول النهار وآخره، ويَعمُرون المساجد في هذين الوقتين؛ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 36، 37]، والمؤمن منهيٌّ عن الغفلة فيهما، ومأمورٌ بالذِّكر؛ {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]. وربما أُطلق على آخر النهار العَشِيُّ، وفيه آيات عدة تأمر بالذكر في العشي، منها أن زكريا - عليه السلام - لما بُشِّر بالولد أُمر بالعبادة فيه بقول الله - تعالى -: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]، وأَمر - عليه السلام - قومه بذلك: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]، وأحيانًا يُذكر الإشراق مع العشي، كما في ذكر تسبيح الجبال لله - تعالى - مع نبي الله - تعالى - داود - عليه السلام - في هذا الوقت: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص: 18]. والإشراق وقت الضحى، ومنه صلاة الضحى؛ كما في حديث عبدالله بن الحارث: "أن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان لا يصلي الضحى، حتى أدخلناه على أم هانئ، فقلت لها: أخبري ابنَ عباس بما أخبرتِنا به، فقالت أم هانئ: دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي فصلَّى صلاة الضحى ثماني ركعات، فخرج ابن عباس وهو يقول: لقد قرأتُ ما بين اللوحين، فما عرَفتُ صلاةَ الإشراق إلا الساعة؛ {يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ}، ثم قال: هذه صلاة الإشراق"؛ رواه الحاكم. وأُمر نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أذى المشركين، والاستعانة على ذلك بعبادة العشي والإبكار؛ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر: 55]، وأَمره الله - تعالى - بعبادته في أوقات أخرى مع أمره بالعبادة في طرفي النهار؛ لأن العبادة سببٌ للثبات على الحق، وكلما كان العبد أكثرَ عبادةً، كان أكثر صلابة في الحق وثباتًا عليه، وكلما اشتد أذى الأعداء، لزم للثبات زيادةٌ في العبادة؛ {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]، وفي آية أخرى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40، 41]. وعبادة الليل مذكورة في القرآن؛ إذ امتدح الله - تعالى - القائمين بها من أهل الكتاب؛ {مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]، وأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم – وأمته: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، وأثنى الله - تعالى - على من يقومون بعبادته - سبحانه - في ساعات من الليل، وما قادهم لذلك إلا علمُهم بالله - تعالى - وما يجب له - عز وجل -: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزُّمر: 9]. والسَّحَرُ آخر الليل، وهو وقت دعاء واستغفار؛ لأن الله - تعالى - أثنى على المستغفرين فيه، فذكر جملة من أوصاف المؤمنين الذين استحقُّوا بها جنتَه: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، وفي موضع آخر: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18]. إن من طالَعَ هذا الكمَّ الهائل من الآيات القرآنية، وهي تربط بين أجزاء الزمن وبين عبادة الله - تعالى - علِم أهمية الزمن في حياة المؤمن، وأنه ينبغي له أن يَعمُره بطاعة الله – تعالى - فيحافظ على الفرائض، ويُتبعها بالنوافل، ويتقلَّب في أنواع العبادات من ذكرٍ وصلاة وقرآن، ودعاء واستغفار، آناء الليل وآناء النهار؛ ليكون زمنه عامرًا بذكر الله - تعالى - وطاعته، ويعافى من داء الغفلة الذي أفسد كثيرًا من القلوب حين فُتنتْ بالدنيا وزينتها، وأعرضتْ عن ذِكر الله - تعالى - الذي هو حياتها وسعادتها، وقد قال نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَلُ البَيْتِ الذي يُذْكَرُ اللهُ فيه، وَالبَيْتِ الذي لا يُذْكَرُ اللهُ فيه، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ))؛ رواه مسلم. أسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من أهل ذِكره وشكره وحسن عبادته، وأن يمنَّ علينا بصلاح قلوبنا وأعمالنا، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يجنِّبنا ما يُسخطه، إنه سميع مجيب. وأقول ما تسمعون وأستغفر الله. الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - تعالى – وأطيعوه؛ {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131، 132]. أيها المسلمون: طولُ الأمل في الدنيا أفسد على كثير من الناس حياتَهم، فتعلَّقوا بزينتها وهي إلى زوال، وتركوا العمل لدار القرار، وتمضي بهم الشهورُ والأعوام إلى قبورهم، وكثيرٌ منهم في غفلة عما يُراد بهم، وكم مضتْ عليهم من أيام وشهور وأعوام وهم يَعِدون أنفسهم بالتوبة والعمل الصالح، فيؤجِّلون ذلك إلى غير أجل، ويعجِّلون عمل الدنيا حتى يبغتهم أجلُهم وهم ما زالوا في تسويفهم ومواعدهم، وهذا حال المغرورين - نعوذ بالله تعالى أن نكون منهم. يقول الحسن البصري - رحمه الله تعالى -: "المؤمن في الدنيا كالغريب، لا يجزع من ذلِّها، ولا يأنس في عزها، للناس حال وله حال، وجهوا هذه الفضول حيث وجهها الله - عز وجل". واعلموا - عبادَ الله - أنكم في شهر المحرَّم، وصيامه أفضل الصيام بعد رمضان كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَرْفَعُهُ، قال: "سُئِلَ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ وَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟"، فقال: ((أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلَاةُ في جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ))؛ رواه مسلم. وحريٌّ بمن افتتح عامَه الجديد بالصيام، أن يُفتح له أبواب من الخير كانت مغلقة عنه، وأن يستضيء بنور الصيام في سَنته الجديدة؛ لأن الصيام ضياء، فمن صام المحرم كله تطوعًا لله - تعالى - فقد أتى بالفضيلة في صيام النفل، ومن صام منه ما تيسَّر، فقد أحسن، ومن غُلب على الصيام، فلا يفرط في عاشوراء لمزيّته؛ فإن صيامه يكفر سنة، ولا يُحرَم من ذلك إلا محرومٌ - نعوذ بالله تعالى من الحرمان. وصلوا وسلموا .
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |