|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() التشديد في إطلاق البصر الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله الخلاَّق العليم، خَلَق البشرَ، ومُطَّلِعٌ على ما تُكِنُّ صدورُهم وما يُعلِنُون؛ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، نحمدُه على نِعَمِه، ونشكرُه على مِنَنِه؛ فهو خالقُنا ورازقُنا وكافِينا ومُمِدُّنا، خَلَقنا في أحسنِ تقويم، ورَكَّب فينا الحواسَّ والعقولَ، وفَضَّلَنا على كثيرٍ ممَّن خَلَق تفضيلاً؛ {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:7-9]. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له؛ بيدِه أرزاقُنا وآجالُنا، ويَملِكُ أسماعَنا وأبصارَنا، ويُدَبِّرُ أمورَنا، ولا قوَّةَ لنا إلا به، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه؛ بلَّغَ الرِّسالة، وأدَّى الأمانة، ونَصَح الأُمَّة، وجَاهَدَ في الله تعالى حقَّ جهادِه حتَّى أتاه اليقين، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعِه إلى يوم الدين. أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ – تعالى - وراقبُوه، واعلَمُوا أنَّه قادرٌ عليكم، عالمٌ بكم، أقربُ شيءٍ إليكم؛ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} [ق: 16]. أيُّها الناس: نعمةُ البصرِ مِن النِّعم العظيمة التي امْتَنَّ اللهُ - تعالى - بها على العباد مع نعمتَيْ السمع والعقل؛ فبها يَنظرون إلى عجائبِ قدرةِ الله - تعالى - وبديعِ صُنْعِه في البَرِّ والبحر، والأرضِ والسماء؛ {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ} [العنكبوت: 20]، وبها يُبصِرُ النَّاسُ العلومَ والمعارفَ ويَقرؤونها، وبها يَتَمَتَّعون بما أودَعَه اللهُ - تعالى - في الكون من جمالِ الخلق. والبصرُ قوةٌ للمُبْصِر، لا يَحتاجُ معه إلى دليلٍ في سيره، ويتَّقي به المخاوفَ، وبه يُحرزُ مالَه، ويَدرأُ عن نفسِه، ولا يَطمَعُ فيه الأعادي واللُّصوص. امتَنَّ اللهُ - تعالى - به علينا، وأمَرَنا بشكرِه – سبحانه - على هذه النِّعمة العظيمة؛ {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، ولكنَّ شكرَ هذه النِّعمةِ في النَّاس قليلٌ؛ {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23]. ولعظيم نعمةِ الإبصار، وكثرةِ منافعِها، وشدَّةِ الحاجةِ إليها؛ كان فقدُها مصيبةً كبيرةً، يُعَوِّضُ الله - تعالى - مَن صَبَرَ عليها الجَنَّة؛ كما في حديث أَنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - يقولُ: ((إِنَّ اللهَ قال: إذا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ - يُرِيدُ عَيْنَيْهِ))؛ رواه البخاري، فسُمِّيتِ العينان في الحديث حَبِيبَتَيْن؛ لعظمةِ هذه النعمة وفخامتِها. ولكنْ هذه النعمةُ العظيمةُ تنقلبُ إلى نقمةٍ، حين يُطلقُها صاحبُها فيما حرَّم اللُه – تعالى - عليه، فَيَكتَسبُ بها آثامًا كثيرة، ويَحملُ بسببِها أوزارًا ثقيلة؛ ذلك أنَّ العبدَ يُسألُ يوم القيامة عن نعمةِ البصر: فِيمَ سخرَّها؟ وكيف انتفع بها؟ فإنْ سخرَّها فيما يُرضِي اللهَ – تعالى - عادتْ عليه بالخير والأجر، وإنْ سخرَّها في معصية الله – تعالى - بَاءَ بالإثم والوِزْر؛ يقول الله - تعالى -: {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وأخبرَنا ربنُّا - جَلَّ جلالُه - أنَّ الأبصار َتكونُ من الشهود يوم القيامة؛ {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصِّلت:20 ]، وثَبَت في الأحاديث أنَّ العبدَ يُختمُ على فيه وتنطقُ جوارحُه بأعمالِه السَّيِّئة، ومن جوارحِه عيناه تشهدان عليه بما نظر إليه. وجاء نهيٌ صريحٌ في القرآن عن الاغترار بزينة الدنيا، وإدامة النظر إلى المباح منها؛ لئلا تتعلَّق القلوبُ بها، فكيف إذن بالمحرمات؟! {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131]. قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية - رحمه الله تعالى-: "يتناول النظر إلى الأموال واللباس والصور وغيرِ ذلك من متاع الدنيا...وذلك أنَّ الله – تعالى - يمتِّع بالصور كما يمتع بالأموال، وكلاهما من زهرة الحياة الدنيا، وكلاهما يفتن أهلَه وأصحابه، وربما أفضى به إلى الهلاك دُنيا وأخرى. والهَلْكَى رجلان: فمستطيعٌ وعاجزٌ؛ فالعاجزُ مفتونٌ بالنظر ومدِّ العين إليه، والمستطيعُ مفتونٌ فيما أوتي منه، غارق قد أحاط به ما لا يستطيع إنقاذ نفسه منه" ا.هـ. إنَّ ربَّنا - تبارك وتعالى - محاسبُنا على أعمالنا، ويُجازينا بها، وقد أمَرَنا بغضِّ أبصارنا عما حرَّم علينا، فخصَّ الرجالَ بقوله - سبحانه -: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، وخصَّ النساءَ بقوله - تعالى -: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31]، فكما أنَّه لا يجوز للرجل أن يقصدَ النظر إلى المرأة التي لا تَحلُّ له، فكذلك المرأةُ لا يجوز لها أن تقصدَ النظرَ إلى الرجال الأجانب عنها؛ قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية - رحمه الله تعالى- : "وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنَّه لا يجوز للمرأة أنْ تنظرَ إلى الأجانب من الرجال بشهوة، ولا بغير شهوة أصلاً". إنَّ التَّلذُّذ بالنظر المُحرَّم إلى النساء بالنسبة للرجال، أو للرجال بالنسبة للنساء، سواء كان ذلك مباشرة أم في الأفلام، أم في الصور، أم غير ذلك - هو نوعُ زنا يقعُ فيه العبدُ لا محالةَ؛ لقوة الداعي، وضعف النفس، وغلبة الهوى، وتسَلُّطِ الشيطان، وتعدُّد وسائل الإغراء والإغواء؛ ولذا قال النبيُّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - : ((إِنَّ الله كَتَبَ على ابن آدَمَ حَظَّهُ من الزِّنَا، أَدْرَكَ ذلك لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تتمنى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك كُلَّهُ أو يكذبه))؛ رواه الشيخان. وقد أخبر النبيِّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - أنَّ المرأةَ تُقْبِلُ في صورة شيطان، وتُدبرُ في صورة شيطان؛ وما ذاك إلا لعظيم افتتان الرجل بها؛ قال العلماء: "معناه: الإشارة إلى الهوى، والدعاء إلى الفتنة بها؛ لما جعله اللهُ - تعالى - في نفوس الرجال من الميل إلى النساء، والالتذاذ بنظرهن وما يتعلق بهن، فهي شبيهةٌ بالشيطان في دعائه إلى الشرِّ بوسوسته وتزيينه له، ويُستنبطُ من هذا أنه ينبغي لها ألاّ تخرج بين الرجال إلا لضرورة، وأنه ينبغي للرجل الغضُّ عن ثيابها والإعراض عنها مطلقًا". وفتنةُ الرجل بالنساء أعظمُ من فتنته بأي شيءٍ آخر؛ كما في حديث أُسَامَةَ بن زَيْدٍ - رضي الله عنهما - عن النبيِّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - قال: ((ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ على الرِّجَالِ من النِّسَاءِ))؛ متفق عليه. وهي أوَّل فتنة وقع فيها بنو إسرائيل؛ كما جاء في الحديث. والاستئذان إنما جُعِل لأجل النظر، ومن تَلصَّصَ على الناس في بيوتهم، فطعَنَه صاحبُ الدَّار، فأذهبَ عينَه - فهو هَدَر، لا قَصَاصَ له ولا دِيَة؛ لما جاء في حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قال أبو الْقَاسِمِ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -: ((لو أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بحصاة، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ - لم يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ))؛ رواه الشيخان، وجعل الشارع الحكيم للطريق حقوقاً من أهمِّها غضُّ البصر. ولأجل هذا التَّشديد في غضِّ البصر عن محارم الله – تعالى - كان السلفُ حَذِرين جدًّا من إطلاق أبصارهم، ويُرَبُّون غيرَهم على الاحتراز في النظر؛ طاعةً لله – تعالى - وشكراً له على هذه النعمة الجليلة، وتسخيرًا لها فيما يُرضيه – سبحانه - وحَذَرًا من اكتساب الآثام؛ قال الحسنُ البصريُّ - رحمه الله تعالى -: "مَن أطلقَ طَرْفَه كان كثيرًا أَسفُه"، وقال له أخوه: "إنَّ نساءَ العجم يكشفْنَ صدورَهُنَّ ورؤوسَهنَّ، فقال: اصرف بصرَك". وكان في دار مجاهد - رحمه الله تعالى - عُلِّيَّةٌ قد بنيت - وهي الغرفة في الأعلى- فبقِي ثلاثين سنة ولم يشعر بها؛ وذلك لمحافظته على بصره وعدم إطلاقه، وخرج حسَّانُ بنُ أبي سنان - رحمه الله تعالى - يومَ عيد، فلمَّا عاد قالت له امرأته: "كم من امرأة حسناءَ قد رأيت؟ فقال: والله ما نظرت إلا في إبهامي منذُ خرجتُ من عندكِ إلى أنْ رجعتُ إليك". وقال خالد بن أبي عمران – رحمه الله تعالى -: "لا تُتْبِعَنَّ النظرةَ النظرةَ، فرُبَّما نَظرَ العبدُ نظرةً نَغَلَ منها قلبُه كما يَنْغِلُ الأَدِيمُ فلا يَنتفعُ به"؛ أي: يَفسَدُ فسادًا لا صلاحَ بعده، وقال العلاءُ بنُ زيادٍ - رحمه الله تعالى -: "لا تُتْبِعْ بصرَك رداءَ امرأةٍ؛ فإنَّ النظرةَ تجعلُ في القلب شهوة"، وسُئِل الإمامُ أحمدُ عن الرجل ينظر إلى المملوكة؟ قال: "إذا خاف الفتنةَ لا يَنظر، كم نظرةٍ قد ألقت في قلب صاحبها البلابل!"، وقيل له - رحمه الله تعالى -: "رجلٌ تابَ وقال: لو ضُرِب ظهرِي بالسِّياط ما دَخَلتُ في معصيةٍ، غيرَ أنَّه لا يَدَعُ النظر، قال: أيُّ توبةٍ هذه؟!". قال ابنُ الجوزي - رحمه الله تعالى -: "وإنما بالغ السَّلفُ في الغضِّ؛ حذرًا من فتنة النظر، وخوفًا من عقوبتِه، فأمَّا فتنتُه، فكم من عابدٍ خَرج عن صومعته بسبب نظرة! وكم استغاثَ مَن وَقَع في تلك الفتنة!".اهـ. نسألُ اللهَ - تعالى - أنْ يعفوَ عنَّا وعن المسلمين، وأنْ يهديَ ضالَّنا، وأنْ يُصلِحَ قلوبَنا وأعمالَنا، وأنْ يَرزقَنا غضَّ أبصارِنا عما حرَّم علينا، إنه جَوَادٌ كريم. وأقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ - تعالى - لي ولكم وللمسلمين. الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يُحبُّ ربنُّا ويرضى، نحمدُه على ما أعطى، ونشكرُه على ما أَوْلَى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ – تعالى - وأطيعُوه، وراقِبُوه في السرِّ والعلن، واجعلُوه أعظمَ النَّاظرين إليكم؛ {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، قال رجلٌ لوَهِيبٍ بن الورد: "عِظْنِي، قال: اتَّقِ أنْ يكونَ اللهُ – تعالى - أهونَ الناظرين إليك". أيُّها المسلمون: البصرُ هو الباب الأكبرُ إلى القلب، وأَعَمَرُ طرقِ الحواسِّ إليه، وبِحَسْبِ ذلك كثرةُ السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضُّه واجبٌ عن جميع المحرَّمات وكلُّ ما يُخشَى الفتنة من أجله. قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية - رحمه الله تعالى -: "النَّظر داعِيةٌ إلى فساد القلب، قال بعضُ السَّلف: النظر سهمُ سمٍّ إلى القلب". وكان بعضُ السَّلف يُحاسِبُ نفسَه على هفوةٍ واحدة، ونظرةٍ خاطفة، في حالة ضعفٍ بشري؛ كما رَوَى الأوزاعيُّ - رحمه الله تعالى - قال: "إن غَزوانَ وأبا موسى الأشعريَّ كانا في بعضِ مغازِيهم، فكشفتْ جاريةٌ، فَنَظَر إليها غزوانُ، فرفع يدَه فَلَطَم عينَه حتى نَفَرت، فقال: إنكِ لَلَحاظة إلى ما يضرُّك ولا ينفعك، فلقِي أبا موسى فسألَه فقال: ظلمتَ عينَك، فاستغفرِ اللهَ وتُبْ؛ فإنَّ لها أوَّلَ نظرةٍ، وعليها ما كان بعد ذلك". ومن الصالحين من أرجع عقوبةً أصابَتْه إلى النَّظر الحرام؛ قال عمرو بنُ مُرة - رحمه الله تعالى -: "نظرتُ إلى امرأة فأعجبتني، فكُفَّ بصرِي، فأرجو أن يكون ذلك جزائي". والعقوبةُ على إطلاقِ البصر في الحرام قد لا تقعُ إلا بعد حين؛ قال أبو عبدالله بن الجلاء: "كنت واقفًا أنظرُ إلى غلامٍ نصراني حَسَنِ الوجه، فمَرَّ بي أبو عبدالله البلخي فقال: إيش وقوفُك؟ فقلت: يا عم، ما ترى هذه الصورة تعذب بالنار! فضَربَ بيدِه بين كَتِفَيَّ وقال: لَتَجِدَنَّ غِبَّها ولو بعد حين، قال ابنُ الجلاء: فوجدتُّ غِبَّهَا بعد أربعين سنة، أُنسيتُ القرآن". إذا تقرَّر ذلك - أيُّها الإخوة - وعُلِم ما في إطلاق البصر بالنظر من الخطر على الناس رجالاً ونساءً، فإنَّ المحنةَ بذلك شديدةٌ في هذا العصر، والبلاءَ به عظيمٌ؛ إذ إنَّ من أكبر سماتِ هذا العصر: كثرةُ النساء السَّافرات المتبَرِّجات، وانتشارُ ظاهرةِ العُري والاختلاط في الأرض، ولو قيل: إنَّ أكثرَ معصيةٍ يقعُ فيها الناسُ في هذا الزمن هي إطلاقُ البصر في المحرَّمات، لما كان ذلك بعيداً؛ إذ إنَّ المحرَّمات تُحاصِرُ الناسَ في كلِّ مكان، فالأسواقُ تَعُجُّ بالمتبرجات المستعرضات اللائي يفتنَّ الناس، والمستشفيات فيها من سفورِ النساء واختلاطِهن بالرجال ما لا يخفى على أحد، وفي المطارات والطائرات ما هو أكثر من ذلك، ومَن سافر خارج البلادِ فلا تكاد عينُه تقعُ إلا على حرام، ولا تسلمُ من ذلك إلا في فترات النوم؛ إذ إنَّ التَّكشُّف والعُرْي هو صفةُ أكثر بلاد الدنيا. وأعظمُ من ذلك أنَّ معصيةَ النظر إلى المحرمات قد اقتحمَتْ على الناس بيوتَهم، وغَزَتْهم في مجالسِهم وفُرُشِهم؛ حيثُ الفضائيَّات المليئة بأنواع النساء الرخيصات اللواتي يَعرضْنَ أجسادَهنَّ ومفاتِنَهنَّ للمشاهدين في أغانٍ ماجِنة، وأفلامٍ هابطةٍ، وغيرِ ذلك، حتى أضحَتْ صناعةُ الفتنة بالمرأة بِضاعةً رائجةً في الفضائيَّات والمجلاتِ وغيرِها؛ لإفسادِ قلوب الناس، وزيادة آثامِهم، والإمعانِ في إضلالِهم، وكم من قلبٍ سليم معافًى راحَ ضحيةً لهذه الصور والأفلام!فَفَسَد بعد الصَّلاح، وانتَكَسَ بعد الرَّشاد، فلا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله – تعالى - ولا عصمةَ إلا به - سبحانه - أمامَ هذا البلاء الذي عمَّ وطمَّ في هذا العصر، فلم يَسلَمْ منه إلا النادرُ من الناس. وأضحى كبحُ النفس عسيرًا، وغضُّ البصر ثقيلاً؛ فإنَّ كثرة الإمساس أذهبتْ إحساسَ كثيرٍ من الناس، والواجبُ على العباد مجاهدةُ نفوسِهم على غضِّ الأبصار، ومجانَبَةِ ما يُظَنُّ فيه كثرةُ الحرام قدرَ المستطاع، مع دوام التوبة والاستغفار، وعدم اليأس والاستسلام للشيطان؛ فإنَّه إنْ ظَفَرَ اليومَ بإصرار العبدِ على إطلاق بصرِه في الحرام، والتَّلذُّذ به، قادَهُ غدًا إلى الفاحشة الكبرى، نَعوذُ بالله - تعالى - من الفواحش ما ظَهَرَ منها وما بَطَن، ونسألُه العصمةَ لنا وللمسلمين أجمعين. وصلُّوا وسلِّمُوا على نبيِّكم.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() النظر إلى المحرمات (2) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل الحمد لله الخلاَّق العليم، الرَّزَّاق الحكيم؛ خلَق الإنسانَ من علَق، وعلَّمه ما لم يعلم ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78] نحمده على نِعَمه العظيمة، ونَشكره على آلائِه الجسيمة. وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحْدَه لا شريك له؛ لا معبود بحقٍّ سواه، ولا نعبد إلا إيَّاه، مخْلِصين له الدِّينَ ولو كره الكافرون؛ خلقَنَا في أحسن تقويم، وشقَّ أسماعنا وأبصارنا، فتبارك الله أحسن الخالقين. وأشهد أنَّ محمَّدًا عبْدُه ورسوله؛ أمَر بحفظ الأسماع والأبْصار والقلوب عمَّا يفتنها، وأرشد إلى ما يَحفظها ويعصمها، وبيَّن علاجها حالَ مرَضِها؛ رحمةً بأمَّته، ونصحًا لها، وشفقةً عليها، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصْحابه وأتْباعه إلى يوم الدِّين. أمَّا بعد فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واعْمُروا أوقاتكم بما يُرْضِيه، وجانبوا ما يسخطه؛ فإنَّكم موقوفون للحساب غدًا، ومسؤولون عمَّا عملتم ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 6 - 9]. أيُّها النَّاس، حين خلَقَ الله - تعالى - البَشَر، وأمرهم بطاعته، وأحلَّ لهم ما ينفعهم، وحرَّم عليهم ما يضرُّهم؛ فإنَّه - سبحانه - قد ابتلاهم بالشَّهوات؛ شهوات الأسماع والأبصار، وما يَنتج عنها من شهوات البطون والفُروج؛ لِيظهر خضوعهم وإذعانهم، وتقديمهم مرضاةَ الله - تعالى - على شهواتهم. لقد أمَرَهم الله - تعالى - رجالاً ونساءً بغضِّ أبصارهم، وحِفْظِ فروجهم عمَّا حرَّم عليهم، والاكْتفاء بما أحلَّ لهم؛ ففي الرِّجال:﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [النور: 30]، وفي النِّساء: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 31]. إنَّ غضَّ البصر كان فيما مضَى - قبل اختراع التَّصوير الثَّابت والتصوير المتحرِّك - أسْهَلَ على النُّفوس؛ لأنَّه غضٌّ عن النِّساء في الطُّرق والأسواق، وهنَّ في الغالب مُحْتشمات مسْتَتِرات. أمَّا في عصرنا، فالأمر أعْسَر، والمحنة بالنَّظر أكْبَر، والفتنة به أشدُّ؛ لانتشار الصُّور الثَّابتة والمتحرِّكة في كلِّ مكان، حتَّى اقتحمت على النَّاس بيوتهم عبْرَ أجهزة شتَّى، ووَلَجتْ جيوبهم تُرَافقهم أينما حلُّوا، عدا الصُّور في الأسواق والطُّرق وغيرها. وكان التصوير الثَّابت والمتحرِّك أهمَّ سبب أدَّى إلى تهَتُّك النِّساء، وعرْض مفاتنهنَّ، والاتِّجار بأجسادهنَّ، في أفلام ومسلسلات وأغانٍ، وغير ذلك... بل تعدَّى ذلك إلى مسابقاتٍ في الجمال وقلَّة الحياء، وأفلام في الإثارة، والزِّنا، والسِّحاق، وعمل قوم لوط. وكثْرةُ صور الإثارة والتَّعرِّي، ومحاصرتها للنَّاس في كلِّ ميدان أضعَفَ إنكارَ القلوب لها، وأماتَ الإحساس بحُرْمتها، فأَلِفَتها كثيرٌ من النُّفوس، وشَخصَت إليها أكثر العيون، فأفسدت القلوب، وسعَّرت الشَّهوات، وقادت إلى كثير من المحرَّمات. وفي زمننا هذا لا يكاد أحدٌ يَسْلم من النظر إلى المحرَّمات، طوعًا أو كراهيةً، فكان في ذلك فتنةٌ للمسترسلين في النَّظر، وأجْرٌ للغاضِّين من البصر؛ لأنَّه كلَّما عظم البلاء، واشتدَّت الفتنة، فقابلها المؤمن بالثَّبات والصَّبر، نال عظيم الثَّواب والأجر. وللحفظ من معصية النَّظر أسبابٌ، إنْ أخَذ بها المؤمن أعانته على طاعة الله - تعالى - بغضِّ بصره، وعلى سلامة قلبه من الفتنة. إنَّ مراقبة الله - تعالى - في السِّرِّ والعلن، واليقين بأنَّه مطَّلِعٌ على العبد أينما كان، يَجعل من المؤمن رقيبًا على نفسه، فيعبد الله - تعالى - كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه فإنَّ الله - سبحانه - يراه ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾[النحل: 19] ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾[غافر: 19] وهذه الآية هي في الرَّجل يكون مع القوم، فيَرى امرأةً حسناء، فإنْ غَفلوا عنه لَحَظَها، وإن فَطَنوا إليه غضَّ عنها، والله - تعالى - وحْدَه يَعلم ما يُخْفِي في صدْرِه عنهم. وعلى المرء أن يستحييَ من الملائكة الكِرَام الكاتبين؛ فإنَّ النَّاس إنْ غفلوا عنه، أو كان خاليًا وحْده فمَلائكة الرَّحمن يلازمونه، وينظرون إليه، ويُحْصُون عليه ﴿ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴾ [يونس: 21] ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]. فمَن اسْتحيا من النَّاس أن يُطْلِق بصَره في المحرَّمات، فأَولى أنْ يسْتحيي من الله - تعالى - ثمَّ مِن ملائكته - عليهم السلام - قال رجلٌ للنَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أوصِنِي، قال: ((أُوصِيك أن تَسْتَحيي من الله - عزَّ وجلَّ - كما تستحيي من الرَّجل الصَّالح من قومك))؛ رواه الطَّبرانيُّ. وسُئِل الجنيد - رحمه الله تعالى -: بمَ يُستَعان على غضِّ البصر؟ قال: "بعِلْمِك أنَّ نظَر الله أسْبَقُ من نظَرِك إليه"، وقال رجلٌ لوهيب بن الورد: عِظْني، قال: "اتَّق أنْ يكون الله أهْونَ النَّاظرين إليك"، وقال بعضهم: "اسْتَحِ من الله على قدْرِ قرْبِه منك، وخَفِ الله على قدْر قُدْرته عليك". ولْيتذكَّر أنَّ بصَره يشهد عليه يوم القيامة بما أبصر، فلا يشهد عليه بحرام {﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[فصلت: 20]. ومِن أعظم أسباب حِفْظ البصر المحافظةُ على الفرائض، وإتْباعها بالنَّوافل، فمَن فعل ذلك نال ولاية الله - تعالى - ومحبَّته، وكان مسدَّدًا في سمعه وبصره وبَطْشه وخطوه؛ كما قال الله - تعالى - في الحديث القدسيِّ: ((وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ ممَّا افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنَّوافل حتَّى أُحِبَّه، فإذا أحببْتُه كنتُ سمْعَه الَّذي يَسمع به، وبصَرَه الَّذي يبصر به، ويده الَّتي يَبْطِش بها، ورجله الَّتي يمشي بها))؛ رواه البخاريُّ. ولْيَعْلم مَن استهان بإطْلاق بصَرِه أنَّ النَّاس يَنظرون إلى حرماته بِقَدْر نظَرِه هو إلى حُرمات غيره؛ فإذا كان لا يَرضى ذلك لأهله فلا يُطْلق بصَره في أهل غيره؛ ولَمَّا جاء شابٌّ إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستأذنه في الزِّنا، سأله هل يَرضى ذلك لأحد من محارمه، فلمَّا أجابه بالنَّفْي، أخبره أنَّ النَّاس كذلك لا يَرضونه لمحارمهم. والزَّواج سببٌ للإحصان؛ فبِه تُحْفَظ الأبصار والفرُوج، وقد شَرع الله - تعالى - التَّعدُّد مثْنَى وثُلاث ورُباع؛ لِيُشبِع الرَّجل ميله إلى النِّساء؛ وليغضَّ بصره عن الحرام. ومَن عجز عن الزَّواج كان الصَّوم له علاجًا، وعبادةً يتقرَّب بها إلى الله - تعالى - فينال أجْرَ الصَّوم، وأجْر اتِّخاذه وسيلةً إلى غضِّ بصره، وإحصان فرْجِه. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: كنَّا مع النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - شبابًا لا نجد شيئًا، فقال لنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا معشر الشَّباب، من استطاع الباءة فليتزوَّج؛ فإنَّه أغضُّ للبصَر، وأحْصَن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصَّوم؛ فإنَّه له وجاءٌ))؛ رواه الشَّيخان. وعلى المؤمن أن يجتهد في الدُّعاء بأن يحفظ الله - تعالى - بصرَه عن الحرام، وأن يعينه على ذلك؛ فإنَّه إِنِ استُجِيب له ذهَب عنه ما يجد مِن لهف على مشاهدة المحرَّمات، وقد جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، علِّمني دعاءً، قال: ((قل: اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من شرِّ سَمْعي ومن شرِّ بصري...)) الحديث؛ رواه أبو داود. فإنْ وقَع بصَرُه على امْرأة مباشَرةً، أو على صورتها في شاشة أو صحيفة أو غيرها، فلْيَصرف بصره سريعًا؛ لئلاَّ يَعْلقَ في قلبه شيءٌ بسببها؛ فإنَّ أدْران القلوب وفِتْنَتها تتراكم بإدامة النَّظر، والاستمتاع بالمشاهدة، فيعسر علاجها، وقد أرشد النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى صرف البصر فورًا، قال جرير بن عبدالله - رضي الله عنه -: "سألتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن نَظَر الفُجَاءة، فأَمَرني أن أصْرِف بصري"؛ رواه مسلمٌ، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعليٍّ - رضي الله عنه -: ((يا عليُّ، لا تُتْبِع النَّظرة النَّظرة؛ فإنَّ لك الأُولى، وليست لك الآخرة))؛ رواه أبو داود. فإن وقع في قلبه شيءٌ ممَّا نظر إليه، فليدفعه بإتيان أهله، كما فعل النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين رأى امرأةً فأتَى امرأته زينب، وهي تمعس منيئةً لها، فقضى حاجته ثمَّ خرج إلى أصحابه، فقال: ((إنَّ المرأة تُقْبِل في صورة شيطان، وتدْبِر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدُكم امرأةً فليأتِ أهله؛ فإنَّ ذلك يردُّ ما في نفسه))؛ رواه مسلمٌ. ولْيَقض على محاسن ما رأى بتذكُّر مساوئها، ولا سيَّما النِّساء المتخلِّعات؛ فإنَّهنَّ بُؤَر الأمراض والقاذورات، ولْيَستَعِضْ عن ذكرهنَّ بتذكُّر الحور العين وأوصافهنَّ في القرآن والسُّنَّة؛ فإنَّ ذلك ينفعه في حفظ بصره، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إذا أَعجب أحدَكم امرأةٌ فلْيذْكر مناتنها". وقال ابن الجوزيِّ - رحمه الله تعالى -: "اعْلَم - وفَّقك الله - أنَّك إذا امتثلْتَ المأمور به من غضِّ البصر عند أوَّل نظرة، سلِمْتَ من آفات لا تُحصى، فإذا كرَّرتَ النَّظر لم تَأمن أن يُزرع في قلبك زرعًا يصعب قَلْعه، فإن كان قد حصل ذلك فعلاجه الحمية بالغضِّ فيما بعد، وقطع مراد الفكر بسدِّ باب النَّظر". نسأل الله - تعالى - أن يُعِيذنا من شرِّ أبصارنا، وأن يرزقنا غضَّها عمَّا حرَّم علينا، وأن يُغْنِينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمَّن سواه، إنَّه سميعٌ مجيبٌ. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الخطبة الثَّانية الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مبارَكًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحْده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن اهْتَدى بِهُداهم إلى يوم الدِّين. أمَّا بعد، فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 123]. أيُّها النَّاس، إنَّ من أهمِّ أسباب حفْظِ البصر من الحرام اجتنابَ فُضول النَّظر، ومفارقةَ المجالس الَّتي فيها شاشاتٌ تَعْرِض صُوَر النِّساء، ولْيعوِّد المرْءُ نفْسَه على اجتناب كثرة الالْتفات والنَّظر إلى النَّاس، ولا سيَّما إذا كان في سوق أو طريق أو نحوه؛ فإنَّ ذلك من سوء الأدب، ويؤدِّي إلى الوقوع في المحرَّم من النَّظر. إنَّ شأن البصر في هذا الزَّمن يَحتاج إلى مجاهدة ومصابرة؛ لكثرة الدَّاعي إلى المحرَّمات، ومَن جاهد نفسه على ذلك أعانه الله - تعالى - ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾[العنكبوت: 69]. والصَّبر عن إطلاق البصر في المحرَّمات هو من الصَّبر عن المعاصي، ومن صَبَّر نفسه في ذلك اعتادته، فكان غضُّ البصر دَيْدَنَه، وقد قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: ((واعْلم أنَّ في الصَّبر على ما تكْره خيرًا كثيرًا))؛ رواه أحمد، وفي حديث آخَر قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ومن يستعْفِف يُعِفَّه الله، ومن يستَغْنِ يُغْنِه الله، ومن يتصبَّر يصبِّره الله))؛ رواه الشَّيخان. فمن جاهد نفْسه على العفَّة مع قوَّة دواعي الشَّهوة، أعفَّه الله - تعالى - وصبَّره عن شهواته، وأغْناه بحلاله عن حرامه؛ لأنَّ من معاملة الله - تعالى - لخلقه أنَّه ما ترَك عبدٌ شيئًا لله - تعالى - إلاَّ عوَّضه الله - تعالى - خيرًا ممَّا ترك. قال أبو الحسين الورَّاق - رحمه الله تعالى -: "من غضَّ بصره عن محرَّم، أورثه الله بذلك حكمةً على لسانه، يَهتدي بها، ويهدي بها إلى طريق مرضاته"، علَّق شيخُ الإسلام على كلامه هذا فقال: "وهذا لأنَّ الجزاء من جنس العمل؛ فإذا كان النَّظر إلى محبوبٍ، فتَرَكه لله عوَّضه الله ما هو أحبُّ إليه منه، وإذا كان النَّظر بنور العين مكروهًا أو إلى مكْروه، فتركه لله أعطاه الله نورًا في قلبه، وبصرًا يبصر به الحقَّ". وقال أبو عمرو بن نجيد: "كان شاه بن شجاع حادَّ الفرَاسَة وقلَّ ما أخطَأَت فراسَتُه، وكان يقول: مَن غضَّ بصره عن المحارم، وأمسك نفْسَه عن الشَّهوات، وعَمَّر باطنه بدوام المراقبة، وظاهِرَه باتِّباع السُّنَّة، وعوَّد نفْسَه أكْلَ الحلال - لم تُخْطِئ له فراسةٌ". عباد الله، وما هي إلاَّ أيَّامٌ ويحلُّ شهر الصِّيام، وقد عوَّدَنا لصوصُ رمضان من أهل الفضائيَّات والإعلام على سرقة صيام الصَّائمين، وإتْلاف أجْر القائمين، بِمَشاهدَ فاضحة، وبرامِجَ هازلة، ومسلسلات غير هادفة، يحضِّرون لها منذ شوَّال الماضي؛ لإفساد هذا الرَّمضان، كما هي عادتهم في كلِّ عام، فمَن أسلم قياده وأهله لهم، واستسلم لبرامجهم؛ فقد بخسَ من أجره بقدر ما حضر منها، ومن صان بصَره وبصر أهل بيته عن برامجهم، وأشغل نفسه وأهْلَه في طاعة الله - تعالى - فقد عرف حقيقة رمضان، وحَظِي بلذَّة الصِّيام والقيام؛ ذلك أنَّ ترك المشتهيات فيه هو لأجْل الله - تعالى - ومنها شهوات النَّظر المحرَّم. قال الله - عزَّ وجلَّ - في الحديث القدسيِّ: ((الصَّوم لي وأنا أجزي به؛ يدَعُ شهوته وأكْله وشربه من أجْلي، والصَّوم جُنَّةٌ))؛ رواه الشَّيخان. ومن يدري؟ فلعلَّه يَستجنُّ في رمضان من محرَّمات النَّظر الَّتي أَلِفها في كلِّ العام، فيوفَّق إلى توبة نَصُوح ممَّا حرَّم الله - تعالى - عليه، ويعوَّض بطاعة يجِدُ لها لذَّةً لا يجدها في سواها. نسأل الله - تعالى - أن يبلِّغنا رمضان، وأن يسلِّمنا إلى رمضان، وأن يسلِّم لنا رمضان، وأن يتسلَّمه منَّا متقبَّلاً، إنَّه سميعٌ قريبٌ. اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |