مراتب طالب العلم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         مشكلات التربية في مرحلة الطفولة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 14069 )           »          اللامساواة من منظور اقتصادي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 63 - عددالزوار : 34541 )           »          من الانتماء القبلي إلى الانتماء المؤسسي: تحولات الهوية والثقة في المجتمع الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          القواعد الشرعية المستنبطة من النصوص الواردة في اليسر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          خلاف العلماء في ترتيب الغسل بين أعضاء الوضوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          مدارس أصول الفقه: تأصيل المناهج والمدارس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          تخريج حديث: اتقوا الملاعن الثلاثة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الحديث التاسع: الراحمون يرحمهم الرحمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الآيات الإنسانية في القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 18-02-2020, 02:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,798
الدولة : Egypt
افتراضي مراتب طالب العلم

مراتب طالب العلم


الشيخ وليد بن فهد الودعان





وحكم الاجتهاد في كل مرتبة


لا شك أن الاجتهاد في الدين منزلة سامية يطمح لها كل من جد واجتهد في طلب العلم وتحصيله، ولما أن كانت منزلته عالية كان لا يمكن لكل من شدا في العلم طرفًا إدراكها؛ ولذلك درج العلماء على أن يشترطوا للاجتهاد شروطًا تنبئ عن قيمة من حصلها وأدركها، وتحجز عن درجة الاجتهاد أيدي المتطلعين إليها ولما يحصلوا شروطها، وإن من أهم تلك الشروط التمكن من استنباط الأحكام الشرعية من مظانها، ولا شك أن ذلك يستلزم إدراك العلوم المعينة على الاستنباط، ولما أن كان إدراك هذه العلوم يقع متفاوتًا ناسب البحث في القدر الذي يتمكن صاحبه من الاجتهاد إذا وصل إليه؛ ولذا عرض الشَّاطبي أحوال طالب العلم بالنسبة لتحصيله من العلوم، ثم بيَّن ما هي المرتبة التي يمكن لصاحبها الاجتهاد فيها.

رأي الشَّاطبي:
بين الشَّاطبي أن لطالب العلم ثلاث مراتب في تحصيله للعلوم، وهي:
المرتبة الأولى: ناقص العلم بالكليات والجزئيات.
المرتبة الثانية: العالم بالكليات دون الجزئيات.
المرتبة الثالثة: العالم بالكليات والجزئيات.
ويلاحظ أن الشَّاطبي ربط مراتب طالب العلم بالكليات والجزئيات وغاية ما حصل منها، وهو يعني بالكليات أصول الشريعة وقواعدها العامة التي ثبتت بالقطع، والتي تحكي مقاصد الشريعة وأسسها مجردة عن الأنظار المتعلقة بجزئيات المسائل والأدلة، أما الجزئيات فهي القواعد والفروع الفقهية الظنية، مع ما يرافقها من الأدلة الشرعية الخاصة بها مجردة عن النظر المقاصدي العام.
وقد تحدث الشَّاطبي عن كل مرتبة من هذه المراتب، وبيَّن صفة صاحبها، وحُكم اجتهاده، وسنبين رأي الشَّاطبي في كل مرتبة منها في مطلب مستقل.

المطلب الأول: ناقص العلم بالكليات والجزئيات:
وقبل أن نبين رأي الشَّاطبي في حكم اجتهاد صاحب هذه المرتبة، نبين وصفه لصاحب هذه المرتبة.
المسألة الأولى: صفة صاحبها:
رأي الشَّاطبي:
صاحب هذه المرتبة - فيما يرى الشَّاطبي - هو من كان في بداءة تفهم ما حصل، والبحث عن معاني ما حفظ، وعبر الشَّاطبي عنه بأنه من انتبه عقله لأن ينظر فيما حفظه، ويبحث عن أسبابه، وينهي البحث في المسألة، ومعلمه يرشده ويقومه بما يليق بالنسبة له، فيرفع ما يعرض له من إشكال، ويقوِّم ما يعرض له من أوهام، ويرشده إلى مواقع الجواب، فيؤصله في طلب العلم، ويثبت قدمه فيه.
ومِثل هذا في الحقيقة إنما يبحث عن الحكم والأسرار، وربما يظهر له في خاتمة بحثه حكم جزئية، وربما لا يظهر له، لكنه لا يتمكن من إظهار الكلي؛ لصعوبته وعُسره؛ ولذا فبحثه بحث مجمل غير مفصل، وليس أحسن من تعبير الشَّاطبي عن حقيقة موقفه بالنسبة للأدلة الشرعية؛ حيث عبر عنه بأنه: "ينازع الموارد الشرعية وتنازعه، ويعارضها وتعارضه؛ طمعًا في إدراك أصولها، والاتصال بحكمها ومقاصدها، ولم تتلخص له بعد"[1].

المسألة الثانية: حكم اجتهاده:
رأي الشَّاطبي:
يرى الشَّاطبي أن صاحب هذه المرتبة لا يمكنه الاجتهاد، ولا يصح منه، بل يلزمه التقليد وترك الاجتهاد[2]؛ قال الشَّاطبي بعد ذكر صفته: "فاللازم له الكف والتقليد"[3].
وقد وافقه الأصوليون على ذلك؛ فهم يرون أن الاجتهاد المطلق خاص بمن استكمل الآلة، وأن مَن ليس أهلًا للاجتهاد يحرم عليه الاجتهاد[4].
وصاحب هذه المرحلة هو ممن لا تنطبق عليه شروط الاجتهاد؛ فهو بعدُ لم يتمكن من الاستنباط على أصوله، ولم يُحِطْ بمدارك الأحكام، ولا تشبَّع بمقاصد الشريعة؛ فهو حري ألا يبلغ الوسع في الجهد، وإذا اجتهد أن يزل، وإذا بذل الوسع أن يحيف، وليس هو ممن رسخ في العلم بحيث يغتفر له الزلل لقلته، ولعدم أصالته.
قال الآمدي في شروط الاجتهاد: "أن يكون عالمًا بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها، وطرق إثباتها ووجوه دلالاتها على مدلولاتها، واختلاف مراتبها، والشروط المعتبرة فيها على ما بيناه، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها، وكيفية استثمار الأحكام منها قادرًا على تحريرها وتقديرها، والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها"[5].

ومِن المعلوم أن صاحب هذه المرتبة ليس كذلك، وعليه فكلُّ مَن لم يبلغ درجة الاجتهاد فلا عبرة باجتهاده[6]، وصاحب هذه المرتبة ينطبق عليه من باب أولى قول السمعاني: "إن من يعرف الفروع والأحكام، ولا يعرف دلائلها وعللها، فهذا ناقل يرجع إلى حفظه، ولا يعول على اجتهاده، ولا يرتفع الإجماع بخلافه"[7].
وقال الجويني ضمن كلام له: "فلا شك أن العوام، ومن شدا طرفًا قريبًا من العلم، لم يصِرْ بسبب ما تحلى به من المتصرفين في الشريعة، وليسوا من أهل الإجماع، فلا يعتبر خلافهم، ولا يؤثر وفاقهم"[8].

دليل الشَّاطبي ومن وافقه:
استدل الشَّاطبي على أن ناقص العلم في الكليات والجزئيات ليس من أهل الاجتهاد بدليلين:
الدليل الأول: لما أن كان صاحب هذه المنزلة ناقص الأهلية بالنسبة للاجتهاد لم يصح منه الاجتهاد؛ فهو لم يستكمل بعدُ ما يُعينه على الاجتهاد، ولم يتبين له مقصد الاجتهاد ومستنده؛ ولذا لا ينشرح صدره بما يجتهد فيه، بل تكثر عليه الاعتراضات، وتزداد عنده الإشكالات[9].
الدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى نهى أن نقفوَ ما ليس لنا به علم، ومن انتصب للاجتهاد وانتهك حرمته، وليس لذلك أهلًا، كان داخلًا فيما نهى الله عنه[10].

المطلب الثاني: العالم بالكليات دون الجزئيات:
وفي هذا المطلب نبين حكم الاجتهاد في المرتبة الثانية من مراتب طالب العلم، وقبل ذلك لا بد من بيان صفة صاحب هذه المرتبة، وذلك في المسألة الأولى من هذا المطلب.
المسألة الأولى: صفه صاحبها:
رأي الشَّاطبي:
صاحب هذه المرتبة - فيما يرى الشَّاطبي - هو مَن انتهى به اجتهاده ونظره إلى تحقيق العلم بالكليات حسَب ما دل عليه الدليل الشرعي؛ فهو قد حصَل له اليقين بما انتهى إليه من مقاصد الشريعة وأصولها، ولا يعارض هذا اليقين شك، بل الشك إذا أورد عليه كان كالبرهان الدال على صحة ما توصل إليه في بحثه، لكنه تعلَّق بالكليات حتى نسي، أو كاد أن ينسى، النصوص الجزئية والقواعد الشرعية، فهو لا يعوِّل في إثبات الأحكام إلا على الكليات والمقاصد دون نظر في استنباط الحكم هل دل عليه دليل خاص أو لا؟ ولذا يثبت ما تدل عليه الكليات ولو خالفت النص الخاص؛ وذلك لأنه لم يصل إلى مرتبة الجمع في النظر بين الكليات والجزئيات[11].

وقد ضرب الشَّاطبي أمثلة لمن تنطبق عليه أوصاف هذه الرتبة، ودلل على كل مثال:
المثال الأول: نفاة القياس:
ذكر الشَّاطبي أن ممن تنطبق عليه أوصاف هذه الرتبة نفاة القياس؛ فهم نفَوُا القياس جملة وتفصيلًا، وأخذوا بالنصوص على إطلاقها، وثبت عندهم هذا المذهب، واطرد لديهم في أحكام الشرع، واستدلوا لما ذهبوا إليه:
بأن الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين واختبارهم أيهم أحسن عملًا، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشرع، لا على حسب أنظارهم، فإذا اتبعنا النصوص كنا على يقين في الإصابة؛ لأن الشارع إنما تعبدنا بذلك، واتباع المعاني رأي، وما خالف النص منه لا يعتبر؛ لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي، فهؤلاء جردوا الألفاظ عن مقتضياتها، واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية، ولم ينظروا إلى حِكم الشريعة وأسرارها وغاياتها، واعتمدوا على كلي نظروا فيه، فاعتقدوا أنه الصواب، ولم ينظروا فيما عداه[12].

المثال الثاني: أصحاب القياس الذين أعملوه على الإطلاق:
وممن تنطبق عليه صفات هذه الرتبة - في تصور الشَّاطبي - أصحاب الرأي، وهم الذين أعملوا القياس على الإطلاق دون اعتبار ما خالفه من الأخبار في الجملة؛ فهم التفتوا إلى معاني الألفاظ وتوسعوا فيها فقدموها على النصوص، فإذا خالف النص المعنى العقلي قدم المعنى.
وهم استندوا إلى كلي فهموه من الشريعة فأعملوه، ولم يلتفتوا إلى غيره[13].
واستدلوا لما ذهبوا إليه: بأن الشريعة إنما جاءت لحفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وعلى هذا دلت الأدلة عمومًا وخصوصًا، وهذا الثابتُ باستقراء النصوص، فكل ما ورد مما يخالف هذه القاعدة فهو مردود شرعًا؛ لأن الشرع قد شهد بالمعتبر وغيره على وجه كلي عام؛ فالخاص المخالف يرد بمقتضى الكلي؛ لأن الكلي قطعي والخاص دليله ظني، فلا يتعارضان.
وهؤلاء جردوا المعاني ونظروا إلى مصالح الشريعة وحكمها وغاياتها، ولم يعتنوا بألفاظ النصوص وخصوصياتها[14].

المثال الثالث:
ضرب الشَّاطبي هذا المثال، وهو فيمن لم يوفِّق بين الكليات والجزئيات في حادثة معينة، بل أعمل إحداهما واطرح الأخرى، وهو وإن لم يكن حاله كحال من سبق من نفاة القياس ومَن أعمل القياس بإطلاق، ولكنه مشير إلى أهمية الربط بين الكليات والجزئيات، وهذا المثال:
هو ما جاء عن عبدالوارث بن سعيد أنه قال: "أتيت مكة فأصبت بها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فأتيت أبا حنيفة، فقلت له: "ما تقول في رجل باع بيعًا واشترط شرطًا؟"، قال: "البيع باطل، والشرط باطل"، وأتيت ابن أبي ليلى، فقال: "البيع جائز، والشرط باطل"، وأتيت ابن شبرمة، فقال: "البيع جائز، والشرط جائز"، فقلت: "سبحان الله! ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة"، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما، فقال: "لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن بيع وشرط)"، فأتيت ابن أبي ليلى، فأخبرته بقولهما، فقال: "لا أدري ما قالا، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشترِي بَريرةَ، واشترطي لهم الولاء؛ فإن الولاء لمن أعتق))، فأجاز البيع وأبطل الشرط"، فأتيت ابن شبرمة، فأخبرته بقولهما، فقال: "ما أدري ما قالاه، حدثني مِسعَر بن كدام[15] عن محارب بن دثار عن جابر بن عبدالله قال: (اشترى مني رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فشرطت حملاني، فأجاز البيع، والشرط)"[16].
قال الشَّاطبي: "فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه، ولم يرَ غيره من الجزئيات معارضًا؛ فاطَّرح الاعتماد عليه"[17].

المسألة الثانية: حكم اجتهاده:
رأي الشَّاطبي:
جعل الشَّاطبي صاحب هذه المرتبة محل نظر والتباس؛ فالحكم فيه متردد، وهو محل للخلاف؛ لتجاذب المحل لكلا الطرفين، وقد ذكر الشَّاطبي أدلة من يحتج بالمنع، أو الجواز، ولم يرجح أيًّا من القولين، إلا أنه في مواضع أخرى يؤكد على أهمية الجمع بين الكليات والجزئيات، وأن هذا النظر هو تمام النظر المقاصدي، بل يعبر عنه بأنه منتهى نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد[18].
ويؤكد الشَّاطبي أكثر من مرة أن من نظر في الكلي وأهمل الجزئي فهو على خطأ؛ ولذا يقول: "وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليِّه، فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيِّه"[19].
ويقول أيضًا: "فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف؛ فإن فيها جملة الفقه، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ، وحقيقته نظر مطلق في مقاصد الشرع، وأن تتبُّعَ نصوصه مطلقة ومقيدة أمرٌ واجب، فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشرع، ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار"[20].

وحيث أوجب الشَّاطبي تتبُّع نصوص الشرع - وهي جزئية - ولم يكتفِ بالكليات، كان في هذا دليل على أن رأيه في صاحب هذه المرتبة أنه لا يصح منه الاجتهاد.
وقد اختلف الأصوليون في اجتهاد أهل الظاهر، وهم من أصحاب هذه المرتبة: فوافق الشَّاطبي في عدم جواز الاجتهاد لهم: الجصاص[21] من الحنفية، والباقلاني[22]، والقرطبي[23] من المالكية، ويظهر أيضًا أنه اختيار ابن العربي[24] من المالكية، وهو وجه عند الشافعية[25]، اختاره ابن أبي هريرة، وطائفة من أقرانه[26]، والإسفراييني[27]، والجويني[28]، والغزالي[29]، والنووي[30]، ونسبه الإسفراييني للجمهور[31]، والقرطبي لجل الفقهاء والأصوليين[32]، والجويني - وتبعه الأبياري - [33] للمحققين[34]، والنووي للأكثر والمحققين[35].
وحمل المحليُّ كلام الجويني والمحققين على ابن حزم وأمثاله، لا على داود؛ فإنه كان جبلًا في العلم والحفظ، واسع الاطلاع على مذاهب الصحابة والتابعين، قادرًا على الاستنباط[36].
وفيه نظر؛ فإن منهم من نص على أن الخلاف في داود، ومن تبعه[37].

وخالفه آخرون، فقالوا: يعتبر بخلافهم: وإليه ذهب القاضي عبدالوهاب[38] من المالكية، واختار الشنقيطي الاعتبار بخلاف داود[39]، والاعتبار بخلاف الظاهرية وجه عند الشافعية[40]، اختاره أبو منصور البغدادي[41]، وابن السبكي[42]، ونسبه البغدادي للجمهور، وذكر أنه الصحيح من مذهب الشافعية، وذكر ابن الصلاح: أن ما اختاره الأستاذ أبو منصور هو الذي استقر عليه الأمر؛ ولهذا يذكر الأئمة من الشافعية خلافهم في الكتب الفروعية[43]، واختار هذا القول الشوكاني[44].

وفي المسألة أقوال أخرى:
فقيل: لا يعتبر باجتهادهم في الفروع، ويعتبر في الأصول: حُكي عن ابن أبي هريرة وغيره[45]، وحكاه بعضهم عن طائفة من الشافعية[46].
وقيل: يعتبر باجتهادهم إن كانت المسألة متعلقة بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي ولا مخالف للقياس فيها، أما في المسألة القياسية فلا يعتبر باجتهادهم: واختار هذا الأبياري من المالكية[47].
وقريب من هذا ما اختاره ابن الصلاح من أنه يعتبر باجتهادهم في غير ما كان معتمدًا على القياس، لكنه خصه بالقياس الجلي، أو المجمع عليه من القائلين بالقياس، أو المبني على دليل قاطع[48].

واختار الذهبي أن النظر إلى مستند الاجتهاد، فإن كان في اجتهاده مستندًا إلى عاضد كنصٍّ، فإن اجتهادهم معتبر، وإن خالف وانفرد فلا يعتبر[49].
ويمكن أن يكون قريبًا من المسألة أو شبيهًا بها خلاف الأصوليين في الاعتداد بخلاف الأصولي واجتهاده في الإجماع، والمراد بالأصولي هنا هو الأصولي غير المتصرف في الفقه، كما يفهم هذا من كلام الغزالي[50]، وابن قدامة[51]، والصفي الهندي[52]، والطوفي[53]، وعلى هذا فالأصولي الماهر المتصرف في الفقه ليس محل خلاف، خلافًا لِما قد يوهم ذلك، كما في عبارة الجويني[54]، وابن السبكي[55]، والزركشي[56]؛ إذ عباراتهم غير محررة في هذه المسألة؛ حيث أوهمت أن محل الخلاف هو الأصولي الماهر المتصرف في الفقه، وقد صرح المطيعي بأن الأصولي المتمكن من الفروع محل وفاق، ومحل الخلاف إنما هو الأصولي العامي في الفروع[57].

وقد اختلف الأصوليون في هذه المسألة على أقوال:
فقيل: خلافه واجتهاده في المسألة الفرعية غير معتبر: وبه قال الحنفية[58]، والمالكية[59]، وكثير من الشافعية[60]، وأكثر الحنابلة[61]، وهو الصحيح عن الإمام أحمد[62]، وبه قال الجمهور[63]، ومعظم الأصوليين[64]، وأكثر العلماء[65].
وقيل: إن خلافه معتبر: وبه قال الباقلاني[66]، والقاضي عبدالوهاب[67] من المالكية، والغزالي[68]، والرازي[69]، والآمدي[70]، والصفي الهندي[71] من الشافعية، والطوفي[72]، وعلاء الدين الكناني[73]، وابن بدران[74] من الحنابلة، وأبو الحسين البصري، وذكره عن شيوخ المعتزلة[75]، ونسب لقوم من المتكلمين[76].
وفصَّل السمعاني، فقال: "إن وافقوا الفقهاء في ترتيب الأصول وطرق الأدلة، كان خلافهم مؤثرًا، وإن خالفوهم فيما يقتضيه استنباط المعاني وعلل الأحكام، وغلبة الأشباه، لم يؤثِّرْ خلافهم"[77].

وقد نقل ابن برهان عن كافة العلماء - عدا الباقلاني - عدم الاعتداد باجتهاد من أشرف على رتبة الاجتهاد، حتى لم يبقَ عليه إلا أداة واحدة[78].
ومن خلال ما سبق يتضح أن صاحب هذه المرتبة محل خلاف بين الأصوليين، والأكثر قد وافقوا الشَّاطبي في عدم الاعتبار باجتهاد صاحب هذه المرتبة، وخالفه بعضهم فاعتبر اجتهاده.
والأظهر - والله أعلم - أن صاحب هذه المرتبة لا اعتبار باجتهاده في الجملة، وهذا ما قرره جمهور العلماء، واختاره الشَّاطبي، ولكن لا ارتباط بين عدم الاعتبار باجتهاده في الجملة وبين القول بعدم جواز تجزؤ الاجتهاد؛ إذ يمكننا أن نقول بهذا القول مع قولنا بجواز تجزؤ الاجتهاد؛ لأن كلامنا هنا عن حكم اجتهاد صاحب هذه المرتبة اجتهادًا مطلقًا، بحيث يكون متصرفًا في جميع الأحكام، ناظرًا في جميع الأدلة.

أما إذا كان الكلام في مسألة معينة، أو باب معين قد أحكمه صاحب هذه المرتبة، ونظر في جزئية وكلية، وأدرك مقاصد الشريعة في تلك المسألة، أو في ذلك الباب، فاجتهاده معتبر مقبول؛ ولذلك فصل من فصل، فقبل قوله في غير القياس، أو في غير المسألة التي لا دليل لهم فيها مطلقًا، وسر هذا التفصيل - فيما يبدو - وسر أيضًا عدم اعتبار قولهم في هذه المسألة، أو هذه الأبواب، إنما هو لعدم إدراكهم مقاصد الشريعة الكلية والجزئية في هذه الأبواب أو المسائل.
وعلى هذا التفصيل يتوجه القولان، ويلتئمان في نظري، فيكون قول الشَّاطبي والجمهور متوجهًا إلى اجتهاده في الجملة، وقول من اعتبر قوله أو فصَّل، متوجِّه على اجتهاده بالنظر في المسائل المجتهد فيها.
ويتأيَّد هذا بأن كثيرًا من الجمهور الذين لا يعتدون بقول الظاهرية ينقلون أقوالهم واختياراتهم مشيرين بذلك إلى الاعتداد بها.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 120.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 118.84 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]