|
ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الإفراط والتفريط الشيخ علي بن محمد بن ناصر فقيهي بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرَفِ الأنبياء والمرسَلين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وصَحبه أجمعين. أمَّا بعدُ: فنتوجَّه بالشُّكر لله - عزَّ وجلَّ - الذي جمَعَنا في هذا المكان الطيِّب للمُذاكرة فيما يجبُ على المسلم أنْ يقومَ به إزاءَ دِينه، ونشكُر للجمعيَّة (جمعية إحياء التراث) التي تقومُ بهذا العمل منذ سَنواتٍ عديدة، وتُنظِّم هذه المحاضرات في شتَّى أنواع العلوم التي تفيدُ المسلمَ في عَقيدته، وفي عِبادته، وفي شُؤونه الاجتماعيَّة، وتنويعها لهذه المحاضرات التي تشتَمِلُ على هذه الموضوعات التي تُبيِّن لطُلاَّب العِلم ضرورةَ اتِّباع المنهج السلفي، والاقتداء بنبيِّهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبِمَن اقتَدَى بهدْيه واستَنَّ بسُنَّته؛ لأنهم متَّبِعون يعمَلُون بما جاء في كِتاب الله وفي سُنَّة رسُوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك أنَّ هذا الدِّين شاملٌ للحياة كلها؛ عقيدةً وعبادة، ومعاملات وأخلاقًا، ونحبُّ أنْ نوضِّح نقطةً مهمَّة وهي أنَّ بعضَ الناس يقول: إنَّ مَن يدْعون للمنهج السلفي والعقيدة الصحيحة السليمة لا يَعرِفون من الأحكام الشرعيَّة، ولا يهمُّهم من أمر المسلمين وواقعهم إلا جُزئيَّة واحدة وهي العقيدة، بل أيضًا يَقصُرونها على الثُّلث من العقيدة؛ لأنَّ التوحيد كما نعلَمُ توحيد الربوبيَّة وتوحيد الألوهيَّة، وتوحيد الأسماء والصفات، فهم يقولون: إنَّ هؤلاء لا يتحدثون إلا عن الأسماء والصِّفات فقط، وهذا الكلام يُخالِفُ الواقعَ؛ فهذه الجمعيَّة التي قامَتْ على هذا المنهج السلفي عمَلُها. ومن الواضح أنَّ منهج السلف الصالح ومَن ينهج منهجهم واتَّبع سبيلهم لا يَترُك شيئًا من أمور الدِّين، بل أعمالهم شاملةٌ للعقيدة والعبادة والرِّعاية الاجتماعيَّة والمصالح العامَّة. وندخُل في موضوعنا فأقول: هذه المحاضرة - أو قد أقولُ: مُذاكرة بيني وبينكم - عُنوانها الذي طُلِبَ منِّي أنْ أتحدَّث فيه هو: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الإفراط والتفريط). هكذا طُلِبَ منِّي حينما قُدِّمتْ لي الورقة لطلب المشاركة؛ ولهذا أردت أنْ أحصر الحديث في هذا العنوان في فِقراتٍ مُحدَّدة ليستَوعِب السامع بعض الحديث، أو بعض ما يُقال في هذه الفقرات التي يشمَلُها عُنوان المحاضرة: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الإفراط والتفريط". والحديث عن هذا الموضوع يبدَأ بالحديث عن وُجوبه. هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبٌ؟ وإذا كان واجبًا فعلى مَن يجب؟ وما دليل ذلك؟ الفقرة الثانية: الحديث عن العِلم، وذلك بأنْ يكون المتصدِّي لهذه المهمَّة العظيمة التي هي وظيفةُ الرُّسُلِ - عليهم الصلاة والسلام - على علمٍ وبصيرة بما يدعو إليه، متَّبِعًا في ذلك سبيلَ المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأتْباعه في منهج دَعوته أمرًا ونهيًا. الفقرة الثالثة: ذكْر بعض وسائل الدعوة بالأمر المعروف والنهي عن المنكر. الفقرة الرابعة: وسطيَّة هذه الأمَّة في جميع أمورها بين الأمم السابقة، ووسطيَّة أهل السُّنَّة والجماعة من سلَف هذه الأمَّة في الفِرَقِ الإسلاميَّة بين الإفراط والتفريط، وهو الشطر الثاني من عُنوان المحاضرة، وبيان أنَّ سِيرة السلف (أهل السُّنَّة والجماعة) كانوا على هُدًى قاصد وصراط مستقيم. ونبدأ بالحديث عن الفقرة الأولى، وهي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى مَن يجب. إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمرٌ واجبٌ على هذه الأمَّة، كلٌّ حسَب طاقته وقُدرته؛ إذ لا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسعَها، وقد اختار الله - عزَّ وجلَّ - هذه الأمَّة وأخرَجَها لهذه المهمَّة بعدَ الإيمان به؛ فقد جاء وَصْفُ هذه الأمَّة المحمديَّة بالخيريَّة المطلقة؛ لقِيامها بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والإيمان به؛ كما قال - تعالى -: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، مع أنَّ لهذه الجماعة خِلالاً وأمورًا أخرى أهَّلَتْها لأنْ تكون خيرَ أمَّة، ولكنَّ هذه الثلاث المسائل هي أعظَمُها، وهي الإيمان بالله - وإنْ جاء مُتأخِّرًا في ترتيب الآية - والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مُكوَّن من مسألتين: المسألة الأولى: هل وصْف هذه الأمَّة بالإيمان بالله - عزَّ وجلَّ - هو خاصٌّ بها مع أنَّ الأمم السابقة شاركَتْها في ذلك فما من أمَّةٍ بُعِثَ فيها رسولٌ إلا وُجِدَ في تلك الأمَّة مَن يؤمن به ويتَّبعه، فهل الإيمان الذي وُصِفَتْ به هذه الأمة خاصٌّ بها دون الأمم السابقة؟ المسألة الثانية من السؤال: لماذا قُدِّمَ الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر مع أنَّ الأصل هو الإيمان بالله - عزَّ وجلَّ؟ أجيبُ عن المسألة الأولى: بأنَّ إيمان هذه الأمَّة يتميَّز عن إيمان الأمم السابقة كلها؛ لأنَّ هذه الأمَّة آمَنتْ بجميع الرُّسل الذين أرسلَهُم الله - عزَّ وجلَّ - وآمَنتْ بالكتب التي أُنزِلتْ على أولئك الرُّسل، فإيمانها شاملٌ عام، أشمل من إيمان تلك الأمم بأنبيائها؛ لأنَّ أولئك كذَّبُوا بعض الرُّسل، فالله - تبارك وتعالى - قال عن هذه الأمَّة: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285]، فهذه الأمَّة لم تُفرِّق بين الرُّسل بل آمَنت بهم جميعًا، مَن جاء مسمًّى في القُرآن ومَن لم يُسَمَّ؛ لأنَّ الله - تبارك وتعالى - أخبر وقال: ﴿ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾ [غافر: 78]. فهذه الأمَّة تؤمنُ بالرسل جميعًا؛ لأنها تصدق بما جاء في كتاب الله - عزَّ وجلَّ - وبما جاء في حديث جبريل المشهور في حَدِّ الإيمان، حينما سأل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ما الإيمان؟ قال: ((أنْ تؤمن بالله ومَلائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر وتؤمن بالقدر خيره وشره))، ويُوضِّح هذا الإيمان الشامل وأنَّ هذه الأمَّة استحقَّتْ وصْف الخيريَّة لتميُّزها فيه؛ لأنَّ كثيرًا من الأمم التي قبْلها لم تؤمن بما كان قبلَها من الرسل، والكتب التي أُنزِلتْ، بل كذبوا أو كفروا بهم؛ كما قال - تعالى - عنهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 150-151]. قال الإمام ابن جرير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: ﴿ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ﴾ [النساء: 150]؛ يعني: أنهم يقولون: نُصدِّق بهذا، ونُكذِّب بهذا، كما فعلت اليهود في تكذيبهم عيسى ومحمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبلَه - بزعْمهم - وهم لم يُصدِّقوا بذلك، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبلَه - بزعْمهم. هذا كلامُ ابن جرير، ثم يقول في معنى قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ﴾ يقول: أيُّها الناس، هؤلاء الذين وصَفتُ لكم صفتَهم هم أهلُ الكفر بي، المستحقُّون عَذابي، والخالدون في ناري حقًّا، فاستَيْقِنوا بذلك، ولا يُشكِّكنَّكم في أمرهم انتحالهم الكذب، ودَعواهم أنهم يُقِرُّون بما زعَمُوا أنهم به مُقِرُّون من الكتب والرسل فإنهم في دَعواهم ما ادَّعوا من ذلك كَذَبَةٌ؛ وذلك أنَّ المؤمن بالكتب والرُّسل هو المُصدِّق بجميع ما في الكتاب الذي يَزعُم أنَّه به مُصدِّق، وبما جاء به الرسول الذي يَزعُم أنَّه به مؤمن ("تفسير ابن جرير" 6/5). ونقرأ في كتاب الله أنَّ وصْف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جاء في تلك الكتب في التوراة والإنجيل، وأنَّ أهْل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولكنَّهم كفروا به حَسَدًا وبغيًا؛ إذ هم يُكذِّبون بما في كتاب الله، ويُكذِّبون بأنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - رسولُ الله، وهم يعرفونه حقَّ المعرفة كما يعرفُ المرء ابنه، لا يَشُكُّون فيه؛ لأنَّ الإنسان لا يشكُّ في معرفته لولده. المسألة الثانية: وأمَّا تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله فهو لمعنًى اختَلَف المفسِّرون في تحديده، فمنهم مَن قال: لأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سِياج الإيمان، وبهما يستمرُّ نقاؤه وصَفاؤه وتوهُّجه، بل استمراره، وكلَّما ضعُف الإيمان أو كلَّما ضعُف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضعُف الإيمان، ودخلت عليه البِدَع والمعاصي التي تَحُول دون تمامه وقوَّته[1]، إلا أنَّه باتِّفاق الجميع أنَّ الإيمان هو الأساس الذي يُبنَى عليه الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المتكر، وإذا لم يكنْ ثمَّة إيمانٌ على أساسه يُتَصوَّر المعروف فيُؤمَر به، والمنكرُ فيُنهَى عنه - فليس هناك أمرٌ بالمعروف ولا نهيٌ عن المنكر بالمعنى الشرعي؛ وعلى هذا فإنَّ خيريَّة هذه الأمة بعد الإيمان بالله تظهَرُ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من أعظم ما به كانت هذه الأمَّة خيرَ أمَّة أُخرِجتْ للناس فهو من أظهر خَصائصها وأبرز مميزاتها عن سائر الأمم؛ ولذلك قدَّمَه الله - عزَّ وجلَّ - في الذِّكر على الإيمان به - تعالى - مع كونه - أي: الإيمان - مُتقدِّمًا عليهما في الوجود والرُّتبة فقال: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]. أمَّا أدلَّة وُجوبه على كلِّ فردٍ من أفراد الأمَّة المكلَّفين من ذَكَرٍ أو أُنثى، فنجدُ ذلك في كتاب الله الكريم، وسُنَّة رسوله الأمين - صلَّى الله عليه وسلَّم - فالله - عزَّ وجلَّ - قد أمَر هذه الأمَّة بأنْ تأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن يكون في الأمَّة جماعةٌ تقومُ بذلك؛ فقال - تعالى -: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]. يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: والمقصود من هذه الآية أنْ تكون فرقةٌ من الأمَّة مُتصدِّية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كلِّ فردٍ من الأمَّة كلٌّ بحسبه، ثم ذكَر الأدلَّة من السُّنَّة فقال: كما ثبت في "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيدٍ الخدري - رضِي الله عنه، الذي نجدُه في ابن كثير قال: من حديث أبي هريرة، والرواية من حديث أبي سعيد - قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّره بيده، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه، فإنْ لم يستطعْ فبقلبه، وذلك أضعَفُ الإيمان)). وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" في (كتاب الإيمان) باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، قال الإمام النووي - رحمه الله - في شرح هذا الحديث: وأمَّا قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ((فليُغيِّره)) فهو أمرُ إيجابٍ بإجماع الأمَّة، وقد تطابَق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتابُ والسُّنَّة وإجماعُ الأمَّة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدِّين، ولم يخالفْ في ذلك إلا بعضُ الرافضة، ولا يُعتَدُّ بخِلافهم، ثم إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضُ كفايةٍ إذا قام به بعضُ الناس سقَط الحرج عن الباقين، وإذا ترَكَه الجميع أَثِمَ كُلُّ مَن تمكَّن منه بلا عُذرٍ ولا خوفٍ، ولنا وقفةٌ مع هذا الحديث في قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((فليُغيِّره بيده، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه))، فلمَن يكونُ التغيير باليد؟ أولاً: الخطاب مُوجَّه للأمَّة جميعًا ((مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّره بيده))، وقوله: ((منكم)) يشمَلُ الذكور والإناث، وهو يشمَلُ كلَّ مكلَّف، ولكن قال: ((فليُغيِّره بيده)). التغيير باليد: أولاً لكلِّ مسلم في بيته بين أُسرته وأولاده ومَن هم تحتَ يده، إذا ارتَكب أحدُهم منكرًا يحتاجُ إلى التغيير باليد، فيُغيِّره، ولكن قد يأتي أيضًا في وقتٍ من الأوقات أنَّ الأب في البيت لا يستطيعُ أنْ يُغيِّر مع أولاده المنكرَ الذي يرتكبونه، وهذا واقعٌ، والناس يعرفونه، قد يأتي في وقتٍ من الأوقات لا يستطيع أنْ يُغيِّر بيده مع الأولاد أنفُسِهم، فينتقل في هذه الحالة إلى التغيير بلسانه، أمَّا مع الآخَرين الذين هم ليسوا تحت سُلطَتِه ولا تحتَ يده، فالأمر في التغيير باليد راجعٌ إلى المسؤول، إلى الجهة المكلَّفة بالحِسبة؛ لأنَّه لو ذهَب الإنسان بنفسه، وأراد أنْ يُغيِّر فقد يترتَّبُ على هذا العمل مَفسَدةٌ أعظمُ من المصلحة، فإذا جئتَ للإنسان وهو في السُّوق أو في أيِّ مَكان كان مرتكبًا لمنكرٍ من المنكرات، وجئتَ ومددت يدك للتغيير، فقد يمدُّ يده، وتأتي المسألة والنتيجة بأكبر ممَّا أردت أنْ تُغيِّره؛ لأنَّ التغيير أو الأمر بالمعروف ينبغي أنْ يكون بالمعروف، وتغيير المنكر ينبغي أنْ يكون بغير منكر؛ إذ التغيير باليد لكلِّ مَن يستطيعُه، فإذا لم يستطع الإنسان ذلك فإنَّه ينتقل إلى المرحلة الأخرى، وهي التغيير باللسان، والرسولُ - عليه الصلاة والسلام - لا ينطق عن الهوى وهو يُبيِّن أنَّه سيأتي في وقتٍ من الأوقات لا يستطيعُ الإنسان أنْ يُغيِّر حتى بلسانه، فإذا تكلمت بلسانك في تغيير هذا المنكر فسيتوجَّه إليك الضَّرر بصورةٍ أكثر، بل إنَّك تُلقِي بنفسك في التَّهلُكة، وتترتَّب على أعمالك مضرَّة، فإذا وصل الأمر إلى هذه الحالة فعليك أنْ تنتقل إلى المرحلة الأخرى وهي أنْ تكرَهَ هذا المنكر بقلبك، ولكن إذا اندمجت مع المجتمع، ولم يتحرَّك حتى قلبك لكَراهة هذا المنكر وتغييره، فقد جاء في هذا الحديث: ((وليس وراء ذلك مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان)). إذًا يجبُ علينا أنْ نعلم وأنْ نفقَهَ في الدِّين بأنَّ التغيير باليد هو لِمَن يستطيعه، وإذا لم يستَطِعِ المسلم التغيير باليد فينتقل إلى التغيير باللسان، فإذا عجز عن ذلك فيكرَهُ ذلك المنكر بقَلبِه، وهذا الذي يجبُ عليه؛ لأنَّ الله لا يُكلِّف نفسًا إلا وُسعها، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد بيَّن لنا هذا المنهج، فعلينا أنْ نتَّبعه لأنَّنا إذا خالَفْناه وقَعْنا في أمورٍ أعظم ممَّا نريد أنْ نعمل فيه الإصلاح، ولَمَّا كان الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر بهذه الدرجة؛ أي: إنَّه واجبٌ على كلِّ واحدٍ من أفراد هذه الأمَّة، عدَّهما كثيرٌ من السَّلَفِ شرطًا في استحقاق الخيريَّة المشار إليها في هذه الآية، فقد روى ابن جريرٍ - رحمه الله - بسنده عن عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - أنَّه في حجَّةٍ حجَّها قرَأ هذه الآية: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، ثم قال: يا أيها الناس، مَن سرَّه أنْ يكون من تلك الأمَّة فليُؤدِّ شرطَ الله فيها وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقد كانت هذه الأمَّة أكثرَ الأمم قيامًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل لم يكن في أمَّةٍ من الأمم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلما هو في هذه الأمَّة، ولقد كانت أعظم الأمم التي قبلنا - وهم بنو إسرائيل - مُفرِّطين فيهما غير قائمين بهما كما قصَّ الله - عزَّ وجلَّ - علينا تقصيرهم فقال: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ [المائدة: 78- 79]. فلمَّا قامت هذه الأمَّة بهذا الأمر مع تقصير غيرها من الأمم وتفريطها فيه، كانت جديرةً بما أثبَتَه الله ورسوله لها من الخيريَّة؛ إذ خيرُ الناس آمَرُهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، كما جاء عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الإمام أحمد في "مسنده" عن درة بنت أبي لهب، قالت: قام رجلٌ إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو على المنبر فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس خيرٌ؟ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خيرُ الناس أقرَؤُهم وأتْقاهم، وآمَرُهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرَّحِم)). وبعدَ إيراد هذه الجمل المختصرة على الفقرة الأولى، وهي وجوبُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبَيان مَن يجبُ عليه، كلٌّ حسَب طاقته، وأدلَّة ذلك من الكتاب والسُّنَّة، ننتقل للحديث عن الفقرة الثانية، وهي العلم بما يدعو إليه؛ أي: علم الآمِر بالمعروف والناهي عن المنكر بما يدعو إليه، مُتَّبِعًا سبيل المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - في منهج دَعوته أمرًا ونهيًا، قال الله - عزَّ وجلَّ - لنبيِّه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]. فالبصيرةُ هي العِلم الشرعي، والعلم بما يدعو إليه، وقد بيَّن العلماء أنَّه إنما يأمُر وينهى مَن كان عالمًا بما يأمُر به وبما ينهي عنه، كما بيَّنوا أنَّ ذلك يختلفُ باختلاف الشيء المأمور به والمنهي عنه، فإنْ كان من الواجبات الظاهرة والمحرَّمات المشهورة؛ كالصلاة والصيام، وكالزنا وكشرب الخمر، ونحو ذلك، فيكون كلُّ المسلمين عُلَماء بذلك؛ يعني: كل واحد يعلم أنَّ ترك الصلاة وترك الصيام والتهاون في هذه الأمور المتَّفَق عليها عمل منكر، وكل واحد من المسلمين يعلم أنَّ شُرب الخمر حرامٌ، وأنَّ الزنا حرام، وأنَّ السرقة حرام، وأنَّ الكذب حرام، والغيبة والنميمة، هذه كلُّها معروفةٌ ومشهورةٌ، فكلُّ واحدٍ يجبُ عليه أنْ ينكر ذلك المنكر: أنْ يأمر بالمعروف، وأنْ ينهى عن المنكر، ولكن بالأسلوب الذي سبَق ذِكرُه، وهو أنْ يكون بالشيء الذي يستطيعه أمَّا الشيء الذي لا يستطيعه فإنَّه ينتقلُ إلى المرحلة التي تَلِيه كما ورد في الحديث الشريف: إمَّا باليد، وإمَّا باللسان، وإمَّا بالقلب. فمَن تكاسَل بأداء هذه الواجبات المفروضة الظاهرة، أو ارتكب تلك المحرَّمات المشهورة، فلكلِّ مسلمٍ أنْ يستنكر ذلك على فاعِلِه، وهو معنى قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن رأى منكم))؛ لأنَّ هذا الخطاب مُوجَّه للأمَّة كلها، ((مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّره بيده...)) الحديث. ويكون تغييره بالأسلوب المناسب كما في نصِّ الحديث، باليد للمستطيع؛ كالرَّجُل في بيته مع من هم تحت يده، وقد يأتي وقتٌ لا يستطيع أنْ يغير بيده كما قُلنا، أمَّا إذا كان الأمر المدعو له، أو المنهي عنه من دَقائق الأفعال والأقوال، وممَّا يتعلَّق بالاجتهاد لم يكنْ للعوام وأشباههم مدخلٌ فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء؛ يعني: الأمور الدقيقة التي لا يفهَمُها إلا العلماء أهلُ الاجتهاد، فهم الذين يتدخَّلون في هذا الموضوع، وأمَّا العامَّة وأشباههم فليس لهم ذلك. ولو نظَرْنا في المجتمع الإسلامي عُمومًا وفي طلاب العلم المبتدِئين فإنَّنا لن نجدَ منهم مَن يتوفَّر فيه ذلك؛ لأنَّ عَواطِفهم الدينيَّة تطغَى على معرفتهم العلميَّة، أمَّا العلماء البارزون المعروفون الذين أمضَوْا أعمارهم في طلب العلم وتحصيله، وفي النظر في مصالح المسلمين، وفيما ينبغي أنْ يعمل أمرًا ونهيًا، فلهم ذلك؛ لأنهم أهلٌ له، أمَّا نحن فإنَّه لا ينبغي لكلِّ واحدٍ منَّا أنْ يَدخُل في تلك الأمور الصَّعبة التي لا يُدرِكها، ولا يُدرِك عَواقبها، وما يترتَّب عليها - إلا العلماء المجربون، علماء الشرع الذين يفهَمون واقع الأمَّة، وليس معنى ذلك أنَّ العلماء الذين أفنوا أعمارهم في تحصيل العلم وطلبه، وفي قضاء حوائج الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنهم لا يفهمون الواقع؛ فهذا نبزٌ لهم، وإنما هم يفهمون واقع الأمَّة، ويفهَمون الأمور التي ينبغي أنْ نعمَل لتصلحها، والأمور الأخرى التي ينبغي أنْ تُتجنَّب حتى لا تترتَّب عليها المفاسد التي هي أعظم من المصالح التي يُفكِّر فيها. ثم العلماء قد أعطَوْا هذا الباب العِناية وألفوا كتبًا في ذلك، ومن أحسن الكتب في هذا الموضوع الكتاب الصغير في الحجم العظيم في النفع، وهو كتاب: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؛ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - ومَن رجَع لسِيرة سَلفنا الصالح يجد أنهم قاموا بتبليغ الرسالة المحمديَّة خيرَ قيام، سالكين خير الطرق وأزكاها، ممتَثِلين أمر ربهم خالِقهم ومولاهم؛ حيث قال - عزَّ وجلَّ - لنبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمَّته تبعٌ له في ذلك؛ قال - تعالى -: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وقال - سبحانه -: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾ [هود: 112]، وأثنى الله على الدعاة وأشاد بصَنِيعهم؛ فقال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، ورغَّب في الدعوة وحذَّر من تركها؛ إذ هي رسالةُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفريضة أمَّته؛ فقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين ﴾ [يوسف: 108]. وهذه النُّصوص من الكتاب والسُّنَّة وما كان عليه سلَف الأمَّة تُبيِّن للمسلم أنَّ الدعوة إلى الله تكونُ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينبغي أنْ نعلم أيها الإخوة أنَّه لا فرقَ بين الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما الدعوة إلى الله، ونحن نقولُ في تعريف الدعوة هي: امتِثالُ ما أمَر الله به واجتنابُ ما نهى عنه. فالأمر بالمعروف هو الحثُّ على العمَل بما أمَر الله به - عزَّ وجلَّ - والنهي عن المنكر هو الانتهاء عمَّا نهى الله عنه، فلا فرْق فيما يُسمَّى بالدعوة إلى الله، وفيما يُسمَّى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكلاهما واحدٌ، وهذه النُّصوص من الكتاب والسُّنَّة وما قام به سلف هذه الأمَّة، تُبيِّن للمسلم أنَّ الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كلَّف الله - عزَّ وجلَّ - بها رسولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - هي دعوةٌ عالميَّة، وواجبٌ عظيم كلَّف الله به جميعَ المسلمين والمسلمات، كلٌّ حسَب قُدرته وفي حُدود مَسؤوليَّاته، وهما فرضُ كفايةٍ - كما سبق الحديث عن ذلك - إذا قام به البعض سقَط عن الآخَرين، ولكنْ إذا ترَكُوه جميعًا أَثِمُوا، ويَأثَمُ الذي يستطيعُ أنْ يُغيِّر المنكر ولا يفعل ذلك دون أنْ يكون له عُذرٌ شرعي في التَّرك، وعلى قدْر الإيمان بفرضيَّة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والالتزام بأدائهما وبذْل الجهْد في تبليغهما يكونُ العبد من أتْباع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حقيقةً لا ادِّعاء، وذلك على المنهج الذي سلَكَه نبيُّ الهدى - صلَّى الله عليه وسلَّم - المنصوص عليه في كتاب الله - عزَّ وجلَّ - والثابت في سنَّته وفي سِيرته العطرة قولاً وفعلاً وتقريرًا. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |