|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() من أحكام السفر وآدابه الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل السفر بين الطاعة والمعصية الحمد لله؛ خلق البشر ليعبدوه، ورزقهم ليشكروه ولا يكفروه، نحمده على عظيم نعمه، ونشكره على تتابع مننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خزائن السماوات والأرض بيده، وكل شيء هالك إلا وجهه {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ} [النحل:96] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بشر أمته وأنذرهم، وما من خير إلا دلهم عليه، ولا شر إلا حذرهم منه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه فلا تعصوه، اتقوه في أنفسكم ورعاياكم، واتقوه في حلكم وترحالكم؛ فإنه سبحانه على كل شيء رقيب، وبكل شيء عليم، ولا تخفى عليه خافية من أقوالكم وأعمالكم ومقاصدكم {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54] {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} [طه:7-8] أيها الناس: للنفوس البشرية إقبالها وإدبارها، ولها ضروراتها وحاجاتها، وقد راعى الإسلام ما في النفس البشرية من حب للشهوات؛ فأباح من الشهوات ما ينفعها وينشطها، وحرم عليها ما يضرها ويوبقها، وما من شهوة محرمة في دين الله تعالى إلا ويغني عنها ما هو خير وأنفع منها. إن الإسلام وإن كان دين الجد والعمل، ويربي أتباعه على الاقتصاد في اللهو والعبث، ويوجههم إلى الآخرة عوضا عن الدنيا وملاذاتها؛ فإنه كذلك أباح لهم من لذائذ الدنيا ما يكون عونا على الطاعة، وسببا لاجتناب المحرم. وتكون هذه اللذات المباحة عبادات يؤجر عليها صاحبها إذا أحسن فيها النية؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ![]() ولما قال حنظلة الأسيدي رضي الله عنه: (يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات) رواه مسلم. ولما أراد عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يأخذ نفسه بالجد، ويفرغها للعمل الصالح؛ رغبة في الآخرة، وإعراضا عن الدنيا؛ تعقبه النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته تلك فقال عليه الصلاة والسلام: يا عبد الله، ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا) رواه الشيخان. فأخذ النفس بالجد دائما قد يؤدي إلى الملل والسأم، ومن ثم ترك كل العمل، وقد نقل عن علي رضي الله عنه قوله: (أجـمُّوا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان). وكذلك الزيادة في اللهو والترويح، والانغماس في الملذات ولو كانت مباحة سبب لموت القلب، والإقبال على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والخيار في ذلك الموازنة بين حقوق الآخرة، وحظوظ النفس من الدنيا. وللناس في الترويح والسعة مذاهب يتبعونها، وطرائق يسلكونها: من اتخاذ المزارع والضيعات، والخروج إلى المتنزهات والاستراحات، في أنواع من اللهو المباح وغير المباح. ومن أشهر أنواع الترويح والتنفيس عن النفس البشرية : السفر من بلده إلى بلاد أخرى، إما لأنها مسقط رأسه، وبلد آبائه وأجداده، وإما لميزات أخرى دعته إليها، وجعلته يقدمها على غيرها. وغالب البشر يُقَدِّمون السفر كنوع من أنواع التنفيس على غيره من أنواع الترفيه والترويح، ويجعلونه تاجها ورأسها، ولا بدَّ منه في كل عام عند أكثر الناس ممن يطيقونه ويجدون نفقاته. والسفر إما أن يكون سفر طاعة، وإما أن يكون سفر معصية، والمباح منه يؤول بالنية والعمل إلى أحدهما ولا بد. ومن سفر الطاعة: السفر للجهاد أو الرباط، أو طلب العلم، أو صلة الرحم، أو زيارة الإخوان في الله تعالى. ومن سفر المعصية: السفر للسرقة، أو قطع الطريق، أو الزنا، أو القمار، أو الخمر، أو غير ذلك من أنواع المحرمات. والسفر للترويح والترفيه هو من المباحات التي تؤول إلى الطاعة أو إلى المعصية. فإن سافر إلى بلد يقام فيها دين الله تعالى، ويحكم فيه بين أهلها بشريعته، وأحكام الإسلام فيها ظاهرة، والدين فيها عزيز، مع قيامه في نفسه وأهله ورفقته بما أمر الله تعالى من فعل المأمورات، واجتناب المحظورات، فهذا سفر مباح لا ضير على العبد فيه، ولا فيما أنفقه من نفقات عليه. فإن اقترن بذلك نية صالحة من قصد إدخال السرور على أهله وولده، وجَعْلهم تحت علمه وبصره، وحفظهم من الفراغ ورفقة السوء في بلده، أو أراد بسفره نشاط نفسه وأهله على طاعة الله تعالى، والتفكر في عجائب خلقه وقدرته؛ كان سفره سفر طاعة، وله من الأجر فيه على حسب نيته، ونفقته فيه مخلوفة عليه إن شاء الله تعالى. وأما إن كانت وجهة سفره إلى بلاد كافرة، الكفر فيها عزيز، والإسلام فيها ضعيف، وحرمات الله تعالى تنتهك فيها جهارا نهارا ولا نكير، فهذا سفر معصية لا خير فيه، وإثمه أكبر من نفعه. وهكذا إن سافر إلى بلاد تتسمى بالإسلام وليس الإسلام فيها ظاهرا، بل الظاهر فيها الكفر والفسوق والعصيان.ولم يرخص العلماء في السفر إليها إلا لضرورة لا بد منها، أو حاجة ملحة، بشرط أن يكون عند هذا المسافر ومن معه من رفقته علم يدفع به الشبهات، وأن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات. فإن خشي على نفسه من الزيغ والضلال، أو كان ضعيفا أمام الشهوات، فالسلامة لا يعدلها شيء، ولعل ضرورته أو حاجته تندفع بغير هذا السفر، ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ومن ترك شيئا لله تعالى عوضه الله تعالى خيرا منه. إن السفر إلى بلاد تعج بأنواع الكفر والفسوق لمما يضر المسلم في دينه، فكيف إذا اصطحب معه أهله وولده، وهم أمانة في عنقه، وأضرار ذلك كثيرة، وآثامه عظيمة: فمن اختار بلادا كافرة موطنا لسياحته، ومقرا لإجازته فقد أجاز لنفسه الإقامة بين ظهراني المشركين بلا ضرورة ولا حاجة، فيخشى عليه من براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين). فإن وقعت له مشكلة اضطرته إلى محاكمهم فقد تحاكم إلى الطاغوت بلا اختيار منه، وقد كان في عافية من ذلك. ولو لم يكن في السفر من الحرج والإثم إلى بلاد يظهر فيها الكفر والفجور، ويعلن الناس به إلا أن هذا المسافر المسلم يرى المنكر فلا ينكره، فضلا عن أن يغيره ويزيله؛ لكان كافيا في صرفه عنه، والاستعاضة بما هو خير منه. وكم يمر به في يومه وليلته من منكرات يأثم بحضورها وعدم إنكارها؟ ولازمٌ على من حضر منكرا أن ينكره، فإن لم يستطع وجب عليه أن يفارق مكانه. بل إن إدمانه على مشاهدة المنكرات يكون سببا في تغير قلبه، ورقة دينه؛ فإن سلم هو من أكثر ذلك لعزلته في مسكنه أو منتجعه؛ لم يسلم من معه من أهل وولد ورفقة، وآثامهم على رقبته. وإن تغير أخلاق كثير من نساء المجتمع وفتياته فيما يتعلق بالحجاب الشرعي حتى استبدل باللثام والنقاب واللباس الضيق، والتوسع في كشف الوجه، وإظهار الزينة، في أنواع من الغرور والاستعراض ما هو إلا من بلاء السفر والإعلام، فالمرأة الرحَّالة مع أهلها شرقا وغربا قد ألفت نزع الحجاب في غير بلدها، مع اختلاطها بالرجال، وبنزعها لحجابها نزع حياؤها، فثقل عليها أن تعيده كما كان إذا عادت إلى بلدها!! وكل هذه الآثام يتحملها وليها، مع بقاء إثمها عليها. نسأل الله تعالى أن يخفف عنا وعن المسلمين. ومن أعظم ما يكون سببا للإعجاب بالكفار ومذاهبهم وأخلاقهم وطرائق عيشهم مثل هذه الأسفار المشئومة؛ حتى صارت المجاهرة بمديحهم علانية في الصحف وغيرها مع نهاية كل صيف، فكل كاتب معجب بهم، أقام صيفه في أحضانهم، يعود إلى بلده لينفث جهالاته وضلالاته على الناس، مدحا للكفار، وإعجابا بهم، وشتما في بلده وأهله وبغضا لهم، وهو يأكل من خيرهم، ويتفيأ ظلالهم، فما أجحده وما أنكره {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17]. وما علم هذا المسكين المعجب بما لا يُعجب العقلاء من بني آدم أن الكفر أعظم الذنوب، وأن المتلبس به مهما كانت أخلاقه عالية، وابتسامته عريضة، وتعامله حسنا؛ فإن ذلك لا يقربه عند الله تعالى طرفة عين، بل هو ممقوت عند الله تعالى، وإن عمل صالحا في الدنيا عجلت له حسنته فيها؛ حتى لا يبقى له شيء عند الله تعالى يحاججه به ، فيوافي يوم القيامة حين يوافي ولا حسنة له، وقد استحق النار خالدا فيها مخلدا إن مات على كفره، فمن يُعْجَب بمن كانت هذه حاله ومنزلته عند الله تعالى، وتلك نهايته في الدار الآخرة؟ والله لا يُعْجَب به، ولا يُثني عليه، ولا يرضى بحاله إلا مريض القلب، مغموص عليه في النفاق، أو جاهل أخرق لا يدري ما يقول. وكل الذين ينادون بالمشاريع التغريبية في بلاد المسلمين ما هم إلا ضحايا لهذه الأسفار المحرمة حتى لُوثت عقولهم بالشبهات، وتملكهم حبُ الشهوات، فهي التي تسيرهم في دعواتهم التخريبية في بلاد المسلمين، نسأل الله تعالى لنا ولهم الهداية، وأن يكفي المسلمين شرور دعواتهم ومشاريعهم. وإذا كانت هذه بعض أضرار السفر لبلاد الكفر والفجور فكيف يسوغ لعاقل أن يورد نفسه ومن يحب من أهله وولده هذه المهالك في الدين من أجل متعة عابرة، ولذة زائلة؟! هذا إن سلم هو وأهله وولده من الوقوع في كبائر الذنوب، وعظائم الموبقات، وقلّ من الناس من يسلم؛ لغلبة الشهوة، وقوة الدافع، وغياب الرادع، إلا من عصمه الله تعالى، وقليل ما هم. وكم نقل كثير من المسافرين أمراضا جنسية لأهلهم ومجتمعهم لا عافية منها إلا باجتناب ما حرم الله تعالى من الخبائث، والاكتفاء بالحلال الطيب. ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واجتنبوا ما حرم الله تعالى عليكم، وراقبوه في كل أحوالكم، واستعيضوا بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث؛ فإن فيه الخير والبركة، وإن الحرام لا يُشبع منه، وعاقبته شقاء في الدنيا، وعذاب في الآخرة، واحفظوا أنفسكم ورعياكم من أهل وولد من موجبات غضب الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحريم:6]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [النور:52]. أيها المسلمون: خلق الله تعالى الخلق لعبادته، وواجب على من رضي بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا؛ أن يراقب الله تعالى في كل أحواله، وأن يصدر عن شريعته، وليس له أن يقدم هواه وهوى أهله وولده على أمر الله تعالى؛ فإن ذلك سبب الزيغ والضلال {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]. وقد جعل الله تعالى في الترويح الحلال، والسفر المباح؛ مندوحة وغنى للمؤمن عن كل سفر محرم. ومن عجيب أمر بعض المسافرين أنهم ينفقون مالا عظيما في أسفارهم، لا ينفقون عشره في مجالات الخير، ونفع الناس، والصدقة على الفقراء. وأعجب من ذلك أن واحدهم يزعم محبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو في كل سنة يقطع آلاف الأميال في سفر محرم، ويُصَبِّر نفسه على الرهق والعسر والزحام في المطارات وغيرها، ومكة والمدينة قريبتان منه، فيغيب عنهما سنة وسنتين، بل عشرا وعشرين، ولربما أنكر على ولده أو قرابته كثرة العمرة وزيارة المدينة، بحجة الزحام والحر ونحو ذلك، وهو لم يمنعه تكلف صعاب أعظم، ومسافات أطول، ونفقات أكثر من سفره المحرم، فأي حرمان وخذلان لمن كان هذا حاله؟ نسأل الله تعالى السلامة والهداية. ومن أبى مع ذلك كله إلا أن يختار السفر المحرم، ولم يقدر على كبح جماح شهوته، فعليه أن يتقي الله تعالى في سفره، وأن يراقب أهله وولده، وأن يدعو إلى الإسلام من خالطه من أهل الكفر، أو إلى الطاعة من رآه من المسلمين على معصية؛ لعله بذلك أن يُكفِّر بعض سيئات سفره. وأما تركه لأهله وولده يسرحون ويمرحون كيف شاءوا، ويأتون من المنكرات ما أرادوا؛ فذلك من تضييع الأمانة، وخيانة الديانة، وهم متعلقون في رقبته يوم القيامة لا محالة، وكلكم راع ومسئول عن رعيته. كما يجب عليه أن يلزم زوجه وبناته بالحجاب الشرعي حتى لو كانوا في بلاد لا يلتزمه أهلها؛ إذ إن الوقوع في المحرم -وهو السفر إلى تلك البلاد- لا يسوغ المحرمات الأخرى. ويجب عليه أن يلزم رفقته بإقامة الصلاة في وقتها، فكم تنسى الصلاة في بلاد لا تُرى فيها المساجد إلا قليلا، ولا يُعلن بالنداء للصلاة فيها، فلعل من حافظ على دينه أن يرزقه الله تعالى وأهله وولده خشية وصلاحا في قلوبهم، تجعلهم يستغنون عما حرم الله تعالى عليهم بما أحل لهم، فيُعتقون من أَسر هذه المعاصي والآثام. ولا يحل لمسلم أن يبدي إعجابه بأحوال الكفار، وما هم عليه من حسن المعيشة والحال دون أن يقرن ذلك بالتحذير من كفرهم، وبيان سوء عاقبتهم؛ لئلا يغتر بمديحه ضعاف القلب والإيمان. والثناء على الكفار ومدحهم بإطلاق سبب لمحبتهم ومودتهم، ومحبة مناهجهم وطرائق عيشهم؛ والله تعالى يقول: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]. كما أنه سبب لتوليهم والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. وهو كذلك سبب لتقليدهم، والتشبه بهم فيما أُعجب به منهم؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (من تشبه بقوم فهو منهم). والواجب عليه إبراز قبائحهم، وإظهار معايبهم، وانتقاد طرائق عيشهم؛ تحذيرا لنفسه وأهله وللمسلمين من سلوك مسلكهم، وانتهاج نهجهم؛ لأنهم أهلُ النار إن لقوا الله تعالى على كفرهم، وأهلُ النار لا يمدحون بإطلاق، بل هم أهل المذمة والقدح، نسأل الله تعالى العافية من حالهم. وصلوا وسلموا....
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() من أحكام السفر وآدابه(2) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل بعض أحكام السفر الحمد لله رب العالمين؛ هدانا صراطا مستقيما، وشرع لنا دينا قويما {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأنعام:161] نحمده على تتابع نعمه، وترادف آلائه ومننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بالله تعالى، وأتقاهم له، أعلى الله تعالى ذكره في العالمين، وجعله حجة على البشر إلى يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أولي البر والهدى، وأصحاب الفضل والتقى، ومن تبعهم وسار على نهجهم واقتفى. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعملوا صالحا لغدكم؛ فإنكم مفارقون دنياكم إلى أخراكم، ومرتحلون عن قصوركم إلى قبوركم، ومسئولون عن أعمالكم؛ فأعدوا للسؤال جوابا، ولا يغرنكم الشيطان بالدنيا، فإنها لا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:5-6]. أيها الناس: إذا وسع الله تعالى على عباده في الرزق، وفتح عليهم أبواب الدنيا؛ فإنهم يُفْتَنون بها، ويتفننون في متعها وملذاتها؛ حتى تتحول الوسائل عندهم إلى غايات، والكماليات إلى ضرورات. وفي هذا العصر بلغت الرفاهية بالواجدين أوجها، وانتهت بهم إلى كمالها، في مآكلهم ومشاربهم ومراكبهم، وفي مساكنهم وملابسهم ومراقدهم، وفي حلهم وترحالهم. وأضحت المتعة والرفاهية فنا من الفنون، وتجارة من التجارات؛ تدرس في المعاهد والجامعات، وتُخص بالتدريبات والدورات، ويتداعى لمشاريعها التجار والأغنياء: فجامعات تمنح شهادات عليا في صنع الطعام، وأخرى في أنواع الرياضات، وغيرها في السفر والسياحة حتى غدت هذه الوسائل والكمالات فنونا يُنفق عليها طائل الأموال، وتُفنى في تعلمها وصناعتها الأعمار؛ وذلك للترفيه عن الأغنياء وإسعادهم، على حساب الفقراء وتعاستهم. هذا غير وسائل الترفيه المحرم من الرقص والتمثيل والغناء وأنواع الصناعات السينمائية والمسرحية والفكاهية التي ينفق عليها ما يفوق موازنات دول كاملة. والسفر من أقدم ما عرف الإنسان من وسائل الرفاهية والترويح عن النفس وإجمامها، وقد عرفه الإنسان منذ القدم، وفيه من المنافع ما لا يخفى، كما أنه ينطوي على مخاطر وأضرار لا تُنكر، وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنه قطعة من العذاب؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه فإذا قضى نَهْمَته فليعجل إلى أهله) متفق عليه. والشريعة الغراء قد جاءت بأحكام وآداب للمسافر قبل سفره وأثناءه وبعده، يؤجر من تمسك بها، ويحرم خيرا كثيرا من فرط فيها. وواجب على المسلم وهو يريد سفرا قريبا أو بعيدا أن يستشعر ما منَّ الله تعالى به عليه من عظيم النعم، وجزيل العطاء؛ فهو يسافر لمجرد النزهة والرفاهية، وآخرون غيره يسافرون بلا اختيار منهم، بل الجأتهم إلى سفرهم الضرورة أو الحاجة: فمنهم من يسافرون فرارا من الخوف والجوع، قد استبيحت أوطانهم، واحتلت ديارهم، ورفع أمنهم، واستحرَّ القتل فيهم، فالقادر منهم يفرُّ من بلده مهاجرا أو لاجئا قد خلَّف داره وأرضه وضيعته وراءه، لا يلوي على شيء إلا نجاة نفسه وأهله وولده. وآخرون يَهْجُرون أوطانهم، ويفارقون أهلهم وأولادهم؛ ضربا في الأرض، وطلبا للرزق، قد شحت مواردهم في بلادهم، فبحثوا عن فضل الله تعالى في غيرها. وآخرون قد أخذت الأمراض من أجسادهم حظها، فأطالت نهارهم، وأسهرت ليلهم، وحالت بينهم وبين لذة الطعام والشراب والنكاح، كلما سمعوا بطبيب شدَّوا رحالهم إليه، وإذا وصف لهم دواء جَدُّوا في تحصيله، يسافرون حين يسافرون لا للرفاهية والمتعة، وإنما للصحة والعافية التي لا يعرف قدرها كثير منا. كل أولئك يسافرون حين يسافرون مكرهين، تحت سياط الضرورات والحاجات، فواجب على من أنعم الله تعالى عليه بالأمن والرزق والعافية أن يعرف فضل الله تعالى عليه إذ أعطاه وحرم غيره، وعافاه وابتلى سواه، فهو حين يسافر إنما يسافر لمتعة نفسه وأهله وولده، فليشكر الله تعالى على نعمه؛ فإن الشكر يزيدها، وإن كفرها يرفعها {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. ومن دلائل شكر نعم الله تعالى عليه أن يتقي الله تعالى في سفره، فلا يقصد بلادا الكفر فيها عزيز، والإيمان فيها ضعيف، وقد عجَّت بأنواع الشبه والانحرافات، وطفحت بعظائم المعاصي والموبقات، ومهما عظمت ميزاتها، واخضرت أرضها، وحسنت أجواؤها، فإن إعلان المعاصي فيها، مع عدم قدرته هو على إنكارها يلغي كل حسنة فيها، ويُحرِّم عليه البقاء فيها، وإذا كان المسلم مأمورا بمفارقة مجلس فيه منكر لا يستطيع تغييره ولو في وليمة يجب عليه حضورها فكيف إذا يسافر بأهله وولده إلى بلاد المنكرات والموبقات؟! ويكره للمرء أن يسافر وحده، ولا يسافر الاثنان، بل لا بد من ثلاثة وهم الجماعة؛ اتباعا للسنة، وإبعادا للوحشة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. والسنة أن يؤمروا أحدهم في سفرهم، والأولى أن يختاروا أحكمهم وأعلمهم، وأكثرهم دراية بالسفر وحاجاته؛ جمعا للقلوب، وقطعا للاختلاف؛ فإن الاختلاف والتباغض في السفر لا يطاق، ويزيد من عذابه ومشقته، وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) رواه أبو داود. فإذا استوى على مركوبه أتى بما ورد من الذكر والدعاء مستحضرا نعمة الله تعالى عليه بما يسر له من المراكب، وسخر له من وسائل النقل التي حرمها غيره ممن لا يطيقون ثمنها، وهذا الدعاء الذي يقوله فيه نفعه وصلاحه لأنه يسأل الله تعالى أن يحفظه ويعينه في سفره، وأن لا يفجعه في نفسه أو أهله أو ماله، وحري به أن يستجاب له ما دام ممتثلا أوامر الله تعالى، مطبقا للسنة، روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل، وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)رواه مسلم. وجاء في حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكون، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال) رواه مسلم والسنة إذا علا شرفا من الأرض أن يكبر الله تعالى، وهكذا إذا أقلعت به الطائرة، وإذا هبط واديا أن يسبح الله تعالى، وهكذا إذا هبطت به الطائرة؛ لما روى جابر رضي الله عنه فقال: (كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا) رواه البخاري. وروى أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد أكمة أو نشزا قال: اللهم لك الشرف على كل شرف، ولك الحمد على كل حمد). وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أريد أن أسافر فأوصني، قال: عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف، فلما أن ولى الرجل، قال عليه الصلاة والسلام: اللهم اطو له الأرض وهون عليه السفر) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ولما كان المسافر إذا علا نشزا من الأرض، أو حلَّق في الهواء رأى من خلق الله تعالى ما رأى من جبال وبحار وغابات وعمران وغيره، وقد يعظم ذلك في نفسه ناسب أن يكبر الله تعالى، فيقر بأنه سبحانه أكبر مما يرى من عجائب خلقه. وأيضا فإن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس؛ لما فيه من استشعار الكبرياء فشُرع لمن تلبس به أن يذكر كبرياء الله تعالى وأنه أكبر من كل شيء فيكبره ليشكر له ذلك، فيزيده من فضله. وأما تسبيحه حال انخفاضه وهبوطه فهو تنزيه لله تعالى عن كل انخفاض وسفول. وإذا انبلج عليه السَحَرُ وهو في سفره قال ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر يقول:سَمِع سامعٌ بحمد الله وحُسْن بلائه علينا، ربَّنَا صاحبْنَا وأَفْضِلْ علينا، عائذا بالله من النار)رواه مسلم. ومعناه: ليسمع سامع، ويشهد شاهد بحمدنا لربنا على نعمته، ثم يطلب حفظه وإعانته، ويتعوذ من النار. فإذا نزل منزلا فاستعاذ بالله تعالى فإنه سبحانه يعيذه من شرور ذلك المكان وآفاته؛ كما قالت خولة السلمية رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) رواه مسلم. ويشرع للمسافر أن يكثر من الدعاء لنفسه وأهله وولده والمسلمين؛ لأن دعوة المسافر مرجوة الإجابة؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد ودعوة المسافر ودعوة المظلوم) رواه أبو داود وصححه ابن حبان. وعلى المسافر أن يتقي الله تعالى في سفره، فيلزم طاعته، ويجتنب معصيته، ويعتز بدينه، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحفظ سمعه وبصره وجوارحه مما حرم الله تعالى عليه، فإنه إن كان غائبا عن أعين من يخافهم أو يستحي منهم فإن الله تعالى مطلع عليه، عالم بأقواله وأفعاله {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ مِنَ القَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء:110] وفي أخرى {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:54] وفي ثالثة {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] والملائكة الكرام يحصون عليه أفعاله وأقواله {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12]. وليحفظ أهله وولده؛ فإنهم رعيته، وأمانة الله تعالى عنده، والله تعالى قد أمرنا بأداء الأمانات، وبحفظ الأهل مما يوجب عذابه سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحريم:6]. أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب. وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم... الخطبة الثانية الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. أيها المسلمون: يشرع للمسافر إذا قفل من سفره أن يكبر الله تعالى ويهلله ويحمده؛ كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من الجيوش أو السرايا أو الحج أو العمرة إذا أوفى على ثنية أو فَدْفَدٍ كبر ثلاثا، ثم قال: لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) رواه الشيخان. وهو منهي عن مفاجأة أهله ليلا بمجيئه؛ لئلا يقع بصره على ما يكره من شعث امرأته أو ولده، أو عدم نظافة منزله، أو عدم تهيئة فراشه؛ فإن من عادة المرأة تبسطها في بيتها إذا غاب زوجها، واستعدادها له إذا علمت بمقدمه، وهذا مما يؤلف بين الزوجين. ووقوع عين الزوج على ما يكره من بيته أو زوجه أو ولده قد يؤدي إلى النفرة بينهما؛ والشارع الحكيم قد سدَّ منافذ الشقاق بين الزوجين، ودعا إلى ما يؤلف بينهما. عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلا، وكان يأتيهم غدوة أو عشية)رواه الشيخان. وعن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم) وفي لفظ قال جابر رضي الله عنه:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل فقال: أمهلوا حتى ندخل ليلا، أي: عشاء؛ كي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)رواه الشيخان. ومن أعلم أهله بوقت وصوله فإن النهي لا يتناوله، ومن نعم الله تعالى على الناس ما يسر لهم من وسائل الاتصال التي تزيل كثيرا من الحرج في ذلك. والسنة إذا عاد من سفره فبلغ بلده أن يبدأ بالمسجد قبل بيته فيصلي فيه ركعتين؛ لما روى كعب بن مالك رضي الله عنه فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين) وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فلما قدمنا المدينة قال لي: ادخل المسجد فصل ركعتين)رواه الشيخان. ومن السنة أن يولم بعد عودته وليمة تسمى النقيعة، وهي وليمة يقيمها العائد من السفر، ويدعو الناس إليها، روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نحر جزورا أو بقرة) وفي رواية قال جابر رضي الله عنه: فلما قدم صِرارا-وهو موضع بظاهر المدينة- أمر ببقرة فذبحت فأكلوا منها)رواه الشيخان. وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يصوم أول قدومه من السفر لأجل الذين يغشونه للسلام عليه والتهنئة بالقدوم. أيها الإخوة: كانت تلك بعض أحكام السفر وآدابه، من أخذ بها كان ممتثلا للسنة، مأجورا في أسفاره، مع ما يحصل له من الأنس والمتعة المباحة، ومن أعرض عنها استهانة بها فقد حرم نفسه خيرا كثيرا، ومن تركها جهلا فقد قصر في تعلم ما ينفعه، ولا سيما إذا كانت أسفاره كثيرة. فاعرفوا -عباد الله- ما ينفعكم، وتعلموا الضروري من أمور دينكم، والتزموا سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام في كل شئونكم. وصلوا وسلموا على نبيكم.....
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() من أحكام السفر وآدابه(3) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل مخاطر السفر والوقاية منها الحمد لله الحفيظ العليم؛ امتَنَّ على عبادِه بالنِّعَم والخَيْرات، ودرأ عنهم السوء والمكروهات، وهداهم إلى ما ينفعهم في الحال والمآل، ورَزَقَهم الأمْن والعافية والمال، نحمده على ما أعطانا، ونشكره على ما أولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ تفرَّد بربوبيته وأُلُوهيَّته عن الأنْداد والشُّرَكاء، وفي أسمائه وصفاته عن النُّظَراء والأمثال، فتبارَك اسمُه، وتعالى جدُّه، ولا إله غيره، سبحانه وبحمْده، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى للعالَمين نبيًّا ورسولاً، وبعثَه إلينا بشيرًا ونذيرًا؛ فعرَّفنا الطريق إلى ربِّنا، وعلَّمَنا ما ينفعنا وما يضرنا، صلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه؛ أعْلَى الله تعالى ذِكْرَهم، ورفع قدْرهم، وترضَّى عنهم، وجعلهم خيار أتْباع خاتم رسله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين. أما بعدُ: فأُوصي نفْسي وإيَّاكم - أيها المسلمون - بتَقْوى الله - عزَّ وجلَّ - في السِّرِّ والعَلَن، والحضر والسفر، وفي حال الضَّعْف والقوة، والفقر والغِنى، والمرض والصِّحَّة، والخوف والأمن؛ فإننا فقراء إلى الله تعالى، محتاجون إليه في كلِّ شؤوننا وأحوالنا، عاجزون عن تدبير أُمُورنا، فلا حول لنا ولا قوة إلا بربِّنا - جلَّ في علاه -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 15 - 17]. أيها الناس: من عظيم فضل الله تعالى، وامتداد نعَمه على عباده: أن سخَّر لهم الأرض وما عليها، فهم يسيرون فيها حيث شاؤوا بأمر الله تعالى وتقديره؛ {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22]، وهيَّأ - سبحانه - لهم منَ المراكب ما ينقلهم في أسفارهم في بَرِّهم؛ {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، وفي بحرهم: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32]. وفي عصرنا هذا فُتح للبَشَر في المراكب ما لَم يفتحْ للسابقين منهم، في سرعة سَيْرِها، وراحة مركبها، حتى بلغ الإنسان بها عنان السماء، وارْتقى إلى الفضاء، وقطع من الفيافي والقفار في ساعات معدودة ما عزَّ على السابقين طيُّه في أَشْهر وسنوات، وهي المراكب الحديثة التي أشار الله تعالى إليها عقب ذكْره - جل وعلا - ما عهده أهل الخطاب بالقرآن من الخيل والبغال والحمير؛ فقال - سبحانه -: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، وهي السيارات والطائرات والقطارات، وما يستجِدُّ من المراكب إلى آخِر الزَّمان. وهذه الوسائل الحديثة التي قرَّبت المسافات، وخفَّفَتْ أعباء السفَر ومشقته، شجعتْ بني آدم على كثْرة الأسفار، والارْتِحال بين البُلْدان لأغْراض شتَّى، ومن طبع الإنسان محبته التجديد في حياته، والترويح عن نفسه وأهله وولده، واكتشاف ما لا يعلم من عجائب خلْق الله تعالى، فكان ذلك من أهمِّ أغراض السفَر ومقاصده. والسفر قطعة من العذاب؛ كما جاء في الحديث الصحيح، ومن عذابه ما يحتف به من مخاطر الطريق، واشتداد الغُربة، وقلة المعين والنصير، وطمع المُجرمين في المسافرين والغُرَباء، وكل هذه المخاطر تحيط بالمسافر منذ ذهابه إلى إيابه. ومع وسائل المواصلات الحديثة زادتْ مخاطر الطريق على ما كان معهودًا من قبل، بسقوط الطائرات، وغرق البواخر، فيهلك مَن كان فيها. وأكثر من ذلك حوادث السيارات التي باتَتْ تحصد الأرواح، وتفني الأُسَر، وتفجع الناس، وتزْداد الحوادث، ويكثر الموت بها في المناسبات والإجازات بكثْرة المتنقلين والمسافرين، وازدحام الطرق، واستعجال السائقين، والانخداع بإتقان صنعة المراكب وسرعتها، واستقامة الطرق واتساعها، حتى أفاد القائمون على المرور والطوارئ ومغاسل الموتى: "إنَّ الناس لو علموا كم تحصد السيارات من الأرواح لهابوا سفرًا بها"، ولكنها حكمة الله تعالى في خلْقه؛ فلا يرى أكثرهم الجنائز يؤتى بها إلى المقابر، ولا المصابين إلى الإسعاف، ولا يشهدون من تلك الحوادث المفجعة إلا ما وافقوه في طرقهم، وهو قليلٌ بالنِّسبة لما لم يشاهدوه، ولم يعلموا عنه شيئًا، فتوجل قلوبهم، وتتحرَّك ألسنتهم بالاسْتِرجاع والدعاء، ولا يتَّعظون إلا قليلاً ثم ينسون، ويسيرون كما سار غيرهم، ولا حافظ إلا ربنا - جلَّ جلاله - ولا يقع شيء إلا بأمره. إنَّ الحافظ هو الله تعالى؛ كما قال - سبحانه -: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21]، وقال يعقوب - عليه السلام - لما فَقَدَ يوسف، وخشي أن يفقدَ أخاه معه: {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]. وقد أوكل - عز وجل - بالعباد ملائكة؛ يحفظونهم من المخاطر والمفاجآت؛ كما قال - سبحانه -: {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61]، وفي آية أخرى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11]. ولا أحد يحفظ من الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42]، وفي آية أخرى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17]، وفي آية ثالثة: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الفتح: 11]. وأولى الناس بحفْظ الله تعالى ورعايته في حلهم وتَرْحالهم، وفي حال الأمْن والخوف: هم من حفظوا أوامر الله تعالى ففعلوها، وحفظوا نواهيه فاجْتَنَبوها؛ كما جاء في الحديث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن عباس - رضي الله عنهما -: ((يا غلام، إنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احفظ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ))؛ رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وفي حفظ الأوامر قولُ الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9]، وقد جاءت في القرآن ثلاث مرات مما يدل على أهميتها، وفي حفظ النواهي قولُ الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]، وتكَرَّرَتْ في القرآن مرَّتَين. والسفر مظنَّة تضييع الأوامر والنواهي؛ لغياب الرقيب من الناس، وكثْرة الانشغال والانصراف إلى اللهو والترويح. إنَّ الإنسان في بلده تُقيِّده - عما لا ينبغي فعلُه - قيودٌ كثيرة، يتَحَرَّر منها في سفره، فلا يبقى إلا مراقبة الله تعالى، فظهور حفظ العبد لله تعالى وأوامره ونواهيه في السفر أكثر من ظهوره في الحضر؛ لتحرُّر العبد من القيود، وغياب الرقيب من البشَر، فكان السفر امتحانًا للعبد في صِدْقه مع الله تعالى، ومراقبته له، وحفظه لأوامره ونواهيه، بحفظ بصره عما حرَّم الله تعالى، وحفظ سمعه عن سماعه، وحفظ رجليه عن الذهاب إليه، وحفظ سائر جوارحه عن الحرام؛ وقد روى أبو مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حَفِظَ ما بين فُقْمَيْهِ وَفَرْجَهُ دخل الجَنَّةَ))؛ رواه أحمد، ورواه البخاري عن سَهْلِ بن سَعْد - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن يَضْمَنْ لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ له الْجَنَّةَ)). وإذا حفظ العبد ربه حفظه الله تعالى؛ ((احْفَظ الله يَحْفَظْكَ))، وحفْظ الله تعالى للعبْد يكون في دينه ودنياه؛ فيحفظ عليه دينه، ويعينه على نفْسه وشيطانه، فيعبد الله تعالى في سفره كما يعبده في حضره، ويقيم دينه حال غيبته عمن يعرفونه كما يقيمه في حضرتهم، وإذا نازعتْه نفسه على ارتكاب شهوة مُحَرَّمة في حال ضعف، كان من حفظ الله تعالى له صرفه عنها، أو عدم قُدرته عليها، ويُعينه الله تعالى على حفْظ سمعه وبصره، وسائر جوارحه عن المحرَّمات، فلا يأسره شيء منها وإن أسر غيره، ويحفظه الله تعالى في نفسه من كوارث السفَر ومخاطره، ويحفظ ماله من الضياع والسرقة، ويحفظ أهله وولده فلا يفجع فيهم، ويحفظ الله تعالى عليهم دينهم وأخلاقهم بصلاح والدهم ودعائه، ومراعاته أوامر الله تعالى في نفسه وأهل بيته؛ لأنه قد حظي بمعيَّة الله تعالى له في سفره. ومَن كان الله تعالى معه فلن يخشى أحدًا، ولن ينال عدوٌّ منه شيئًا، وقد قال الله تعالى لموسى وهارون - عليهما السلام - وهما يُواجهان أطْغى الطغاة، وأقسى الجبابرة: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه - في سفر الهجرة، وقد أطبق المشركون عليهما من كل جانب، قال: ((ما ظَنُّكَ يا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا))؛ رواه الشيخان. ألا فاتقوا الله ربكم في حلِّكم وتَرْحالكم، واحْفَظُوا دينكم في إقامتكم وأسْفاركم؛ فحاجتكم إلى دينكم أعظم من حاجتكم إلى طعامكم وشرابكم وأنفسكم، واعْلَموا أنَّكُم مفتقرون إلى ربكم رغمًا عنكم؛ فإن قبلتم فقركم له، وسلّمتم الأمر إليه، وأسلمتم له قلوبكم وأعمالكم - أغناكم وحفظكم في أنفسكم وأهْلكم وأولادكم، وإلا كان الهلاكُ والشقاءُ في الدنيا والآخرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20 - 21]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهُداهم إلى يوم الدِّين. أما بعدُ: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]. أيها المسلمون: أكثرُ الناس يحرصون على الأسباب المادِّية لاتِّقاء الحوادث والفواجع، ولا سيما في الأسْفار، ولكنهم يهملون الأسباب الشرعيَّة، وهي أهم وأولى بالرعاية والمحافَظة من الأسباب المادية، والجمع بينهما سببٌ لحِفْظ العباد ووقايتهم. ومن الأسباب الشرعية لحفظ المسافرين ووقايتهم من مفاجآت الطريق، ومخاطر السفر: حسن توديع القرابة للمسافر بالدُّعاء الوارد في حديث قزعة بن يحيى البصري - رحمه الله تعالى - قال: قال لي ابن عمر: "هَلُمَّ أُوَدِّعْكَ كما وَدَّعَنِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَسْتَوْدِعُ الله دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيم عَمَلِك"؛ رواه أبو داود، ورواه ابن حبان عن مُجَاهد - رحمه الله تعالى - قال: "خَرَجْتُ إِلَى العِرَاقِ أَنَا وَرَجُلٌ مَعِي، فَشَيَّعَنَا عَبْدالله بن عمر، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُفَارِقَنَا قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مَعِي شَيْءٌ أُعْطِيكُمَا، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((إِذَا اسْتُوْدِعَ اللهُ شَيْئًا حَفِظَهُ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُ الله دِينَكُمَا وَأَمَانَتَكُمَا وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكُمَا)). وهذا التوديع العظيم فيه دعاء بحفْظ المودع في أموره الدينية والدنيوية، ولا يحسن بالمودعين للمسافرين الغفلة عنه. وإن سافر دون أهله وولده فما أشدَّ حاجته إلى حفظهم حال غيبته عنهم، فَيُوْدِعُهُم الله تعالى وهو خير حفيظ؛ قال أبو هريرة - رضي الله عنه - لِرَجُلٍ: "أُوَدِّعُكَ كما وَدَّعَنِي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسْتَوْدَعْتُكَ الله الذي لاَ يُضَيِّعُ وَدَائِعَهُ))؛ رواه أحمد. والمحافظة على دعاء السفر مع فهم معانيه واليقين بما فيه سببٌ شرعي لحفْظ المسافر؛ فقد جاء فيه التعوُّذ بالله تعالى من ((وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ في الْمَالِ وَالْأَهْلِ))، وفي هذا استعاذة من المشَقَّة والتعَب، ومما يورث الهم والحزن، ومن أيِّ سوء يصيب الأهل والمال. وينبغي للمسافر ألاَّ يُفَرِّط في أدعية الصباح والمساء، والنوم وأدبار الصلوات التي قد يشغله عنها شاغل، وهو في حال سفره أشد حاجة إليها من حال إقامته؛ لكثْرة ما يحيط به من مفاجآت السفر ومخاطره، ومن قرأ آية الكرسي لا يزال عليه من الله تعالى حافظ ولا يقربه شيطان. ومن الأدعية النافعة لحفْظ النفس والولد: ما جاء عن عُثْمَانَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن قال في أَوَّلِ يَوْمِهِ أو في أَوَّلِ لَيْلَتِهِ: بِسْمِ الله الذي لاَ يَضُرُّ مع اسْمِهِ شيء في الأَرْضِ وَلاَ في السَّمَاءِ وهو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، لم يَضُرَّهُ شيء في ذلك الْيَوْمِ أو في تِلْكَ اللَّيْلَةِ))؛ رواه أحمد. وعموم الدعاء ينفع العبد، فيرد القدر، ويدفع البلاء، ولا سيما الأدعية التي فيها تعوُّذ من البلاء؛ كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان من دُعَاءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ))؛ رواه مسلم. وبر الوالدين، ووصل الأرحام، والإحسان إلى العباد، وإعانة المحتاجين بمال أو مشورة أو شفاعة أو غيره - أسبابٌ شرعيَّة لحفْظ العبد في نفسه وأهله وولده؛ كما ورد في الحديث: أنَّ جبريل جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبعثة فخافه، وقال لخديجة - رضي الله عنها -: ((لقد خَشِيتُ على نَفْسِي))، فقالت خَدِيجة - رضي الله عنها -: "كَلَّا والله، ما يُخْزِيكَ الله أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ على نَوَائِبِ الْحَقِّ"؛ رواه الشيخان. والناس يغفلون عن الصدقة، وهي من أهم أسباب الحفْظ؛ كما جاء في حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطفئ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ في الْعُمُرِ))؛ رواه الطبراني بسند حسن. وفي حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ عن مِيتَةِ السُّوءِ))؛ رواه التِّرمذي، وقال: حسن غريب. فحَري بالمسلم أن يأخذ بهذه الأسباب الشرعية مع عنايته بالأسباب المادية؛ ليحفظه الله تعالى في حضره وسفره، ويحفظه في أهله وماله وولده؛ {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، صلوا وسلموا على نبيكم.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() من أحكام السفر وآدابه(4) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل صلاة المسافرين الحمد لله ربِّ العالمين، هَدَى مَن شاء من عباده لدينه القويم، وسَلَكَ بهم صراطَه المستقيم، نحمده على ما هدى، ونشكره على ما أعطى، ونسأله الفوزَ في الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خَلَقَ عبادَه ليعبدوه، وأغدق عليهم من رزقِه ليشكروه، وقليلٌ من عباده الشكور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أنصحُ الناس للناس وأتقاهم لله - تعالى - لا خيرَ إلا دلَّنا عليه، ولا شرَّ إلا حذَّرنا منه، ترَكَنا على بيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واعملوا في دنياكم ما يكون زادًا لكم في أُخراكم؛ فإن الأمر عظيم، والسفرَ بعيد، ولا بد للسفر من زادٍ، ولا زاد لسفر الآخرة إلا الإيمانُ والعمل الصالح؛ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. أيها الناس: جعل الله - تعالى - السَّيْرَ في الأرض، ومشاهدةَ ما فيها من عجائب الخلْق، والوقوفَ على أطلال السابقين، وآثارِ الغابرين - تذكرةً للقلوب، وموعظةً للنفوس، وعِبرةً بما مضى من القرون؛ {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11]، وفي الآية الأخرى: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ} [النمل: 69]، وفيما يتعلق بعجائب المخلوقات في الأرض يقول الله - تعالى -: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ} [العنكبوت: 20]. وللناس في أسفارهم أغراضٌ متنوعة، فمنها أغراضٌ مشروعة، ومنها أغراض غير مشروعة، ومنها ما يكون حتمًا لا بدَّ للإنسان منه، ومنها أسفار للنزهة والترويح عن النفس، والمؤمن يعبد الله - تعالى - في حلِّه وترحاله، ولا ينفكُّ عن عبوديته لخالقه - سبحانه - بحال؛ ولذا فإن الشارع الحكيم خصَّ السفرَ بأحكامٍ تناسب حال المسافر، فقابَلَ مشقَّةَ السفر وعَنَتَه، وغربة المسافر وشغله، بالتخفيف عنه، فخفَّف عنه في فرائض العبادات، في عَددها وصِفتها، ووضع عنه بعضَ النوافل، وكتب له أجْرَها مع أنه لم يعملْها؛ لأن السفر قد منَعَه منها، فعومل فيها كأنه قد عمِلها؛ تخفيفًا من الله - تعالى - على عباده، ومراعاةً لأحوالهم؛ ولئلا يكون انقطاعُهم عن النوافل سببًا لعزوف بعضهم عن السفر مع حاجتهم إليه. روى أبو موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مَرِضَ العبدُ أو سافر، كُتب له مثلُ ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا))؛ رواه البخاري. إن الصلاة أمرُها عظيم، وشأنُها كبير، تُلازِم المؤمنَ ما لازَمَه عقلُه، فلم توضَعْ عنه في سفرٍ ولا مرض، ولا خوفٍ ولا غير ذلك؛ بل يؤديها على كل حال، إلا أن الله - تعالى - قد خفَّف عن العبد، فشرع له التيمُّم إذا كان الماءُ يضرُّه، كما أباح له الجمْع في مرضٍ إذا شقَّ عليه أن يأتيَ بالصلاة في وقتها، وخفَّف عنه في حضور الجماعة، وخفف عن المسافر فزاد مدةَ المسح على الخفَّين إلى ثلاثة أيام بلياليها؛ لما يَلحق المسافرَ من مشقةٍ في كثرة نزع جواربه وخفافه، روى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم - يعني: في المسح على الخفين"؛ رواه مسلم. ويبدأ المسافر حسابَ المدة من أول مرة مَسَحَ على جواربه، وليس من مجرد اللبس، ولا من أول حَدَثٍ، إلا إذا أصابتْه الجنابةُ، أو حاضتِ المرأة، فيلزم الغسلُ، ولا مسْح حينئذٍ. وخُفف عن المسافر في الصلاة المفروضة، فشُرع له قصْر الرُّباعيَّة إلى ركعتين، وأصلُ ذلك قول الله - تعالى -: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، وجاء في حديث عائشةَ - رضي الله عنها - أنها قالت: "فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقرَّتْ صلاةُ السفر، وزِيدَ في صلاة الحضر"؛ الشيخان. وجاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صحبتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يزيد في السفر عن ركعتين"؛ رواه الشيخان، ولو أتمَّ المسافرُ صحَّتْ صلاتُه، لكنه خالَفَ السُّنة، وقد نهى ابنُ عمر - رضي الله عنهما - عن ذلك نهيًا شديدًا، وقيل للإمام أحمدَ - رحمه الله تعالى -: "للرجل أن يصلي في السفر أربعًا؟ قال: لا، ما يعجبني ذلك؛ السنةُ ركعتان". ولا يقصر الصلاةَ في بيته ثم يسافر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصر إلا لمَّا باشَرَ السفر؛ ولأنه قد يَعرِض له ما يمنعه من السفر، ولو باشر السفر وقصر، ثم عرض له ما يقتضي رجوعَه، فإنه لا يعيد صلاته، ولو رجع من أول الطريق أو فاتته الطائرة؛ لأنه أدَّى الصلاة كما أمَرَ الله - تعالى - ولا يضره ما عرض له فأرجَعَه، ومن لم يتأكَّد حجزه، فلا يقصر ولا يجمع؛ لاحتمال ألاّ يسافر. وإذا دخل عليه الوقت وهو مقيم، ثم سافر، فصلى الصلاة في السفر، فيقصرها، قال ابن المنذر - رحمه الله تعالى -: "أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم أن له قصرَها". وإذا صلَّى المسافر خلف المقيم، فإنه يصلي أربعًا مطلقًا، حتى ولو لم يدركْ معه إلا التشهُّد؛ لأنه مأمور أن يأتمَّ بإمامه، سئل ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ما بال الرجل المسافر يصلي ركعتين، ومع الإمام أربعًا؟ فقال: تلك هي السنة"؛ رواه مسلم، وإذا صلَّى المسافر بمقيمِينَ، فإنه يقصر، وهم يتمُّون بعد سلامه. وإذا دخل المسافر مع إمامٍ لا يدري هل يتمُّ أو يقصر، فينوي نيةَ الإمام، إن قصرَ قصر معه، وإن أتمَّ أتم معه. ولما كان السفر محلَّ تخفيفٍ على المصلي، فإن من السنة تقصيرَ القراءة في صلاة السفر وعدم إطالتها، وقد ثبت عن عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يخفِّفون القراءة في أسفارهم، فيقرؤون في صلاة الفجر بقصار المفصَّل، ويتأكَّد التخفيف في المطارات، وصالات القطارات، وموانئ السفن؛ لئلا تفوت الرحلةُ على المسافرين. وتسقط السننُ الرواتب عن المسافر، فلا يأتي بها، إلا راتبة الفجر، ويأتي الوتر، ويتأكَّد في حقِّه المحافظةُ عليهما في السفر؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وله أن يأتي ببقية النوافل من قيامِ ليلٍ، وصلاة ضحى، ونفلٍ مطلَق، وله أن يتنفل وهو جالس في السيارة، أو الطائرة، أو القطار، أو غير ذلك، ولا يضرُّه عدمُ استقبال القبلة، وهذا التشريع من الفرص العظيمة للمسافرين أن يقطعوا أسفارهم بالنوافل، ولا سيما أنَّ دعوة المسافر مجابة. ومن التخفيف في السفر مشروعيةُ الجمْع فيه؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سَيْرٍ، ويجمع بين المغرب والعشاء"؛ رواه الشيخان. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - أن الجمع بين الصلاتين في السفر سنَّةٌ عند الحاجة إليه، مباحٌ عند عدم الحاجة إليه، وجاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجَلَه السيرُ في السفر، يؤخِّر المغرب؛ حتى يجمع بينها وبين العشاء"؛ رواه الشيخان. ويفعل المسافر في الجمع تقديمًا وتأخيرًا ما كان أرفقَ به؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدَّم الجمع وأخَّره، فدلَّ ذلك على جواز الصورتين؛ ولأن الجمع رخصة للمسافر، والرخصةُ تقتضي فعْلَ الأرفق به، وأكثرُ العلماء يمنعون جمْعَ العصر مع الجمعة لمن صلى الجمعة في سفره، أما لو صلاها ظهرًا، فيجمعها مع العصر. ويشرع الأذانُ للمسافر ولو كان وحده، وإذا جمع فيؤذِّن أذانًا واحدًا، ويقيم لكل صلاة، والأذكار التي بعد الصلاة الأُولى عند الجمع تسقط، وتبقى أذكار الثانية، لكن إذا كان الذِّكر بعد الأُولى أكثرَ من الذِّكر بعد الثانية، فيأتي به، كما لو جمع بين المغرب والعشاء، فيأتي بأذكار المغرب بعد صلاة العشاء. وإذا جمع المسافر بين المغرب والعشاء، فله أن يوتر، ولا يحتاج إلى الانتظار حتى يدخل وقت صلاة العشاء. ولا يُشترط في الجمع نيةٌ، فلو صلى الظهر، ثم بدا له أن يجمع معها العصر، جاز له ذلك، لكن إن أراد جمع تأخير، فينوي ذلك من وقت الأولى؛ لأنه لا يجوز له أن يؤخِّر الصلاة عن وقتها بلا عذر. وإذا جمع في السفر، ثم عاد إلى بلده ولم يدخل وقتُ الصلاة، أو لم يصلُّوا بعدُ، فلا يلزمه إعادةُ الصلاة، فإن أراد الصلاة معهم، كانت الثانية له نافلة. ومن صلى المغرب في المطار بعد دخول وقتها، ثم أقلعتْ به الطائرة، فرأى الشمس، فصلاتُه صحيحة ولا يعيد. وعلى المسافر أن يجتهد في تحرِّي القِبْلة، بسؤال أهل البلد، أو تعيينها بالأجهزة الحديثة، أو بالنجوم لمن يعرف ذلك، فإن أخطأ مع تحرِّيه وحرْصه، فلا شيء عليه، وصلاتُه صحيحة، ولو اجتهد اثنانِ في تحديد القبلة مع معرفتهما، ويقين كل واحد منهما أن الصواب معه، فيصلي كلُّ واحدٍ للجهة التي يتيقنها، ولا يجوز لأحدهما أن يتبع الآخر مع يقينه بخطئه. ومن عجَزَ عن تحديد القبلة، أو عجز عن الصلاة إليها، كما لو كان في الطائرة، وهي في حالة إقلاع أو هبوط، ووقتُ الصلاة سيخرج، صلى إلى غير القبلة، فإن استطاع القيام، صلَّى قائمًا في مقعده، ويومئ للركوع والسجود، فإن منع من القيام، صلى جالسًا. أسأل الله - تعالى - أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن يوفقنا للعمل بما علِمنا، إنه سميع مجيب. وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله.الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتَّقوا الله - تعالى – وأطيعوه؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 123]. أيها المسلمون: من رحمة الله - تعالى - بعباده المؤمنين أنه - سبحانه - أباح لهم السفر؛ لما فيه من تحصيل مصالحهم، ثم خفَّف عنهم فيه؛ لمظِنَّة ما يلحقهم في أسفارهم من مشقةٍ، وقد قال - سبحانه وتعالى -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]، وفي آية أخرى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وفي ثالثة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وواجبٌ على العباد أن يشكروا الله - تعالى - على هذه النِّعمةِ العظيمة، وأن يقوموا بدِينه في إقامتهم وفي أسفارهم، وأن يراقبوه - سبحانه - أينما كانوا؛ فإن أعيُن الناس إن غابتْ عنهم فعينُ الله - تعالى - ترقبهم، وهو يعلم سرَّهم وعلانيتهم؛ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54]. إن مِن الناس مَن لا يستشعرون ذلك، فإذا حطُّوا رحالهم في غير بلادهم، أضاعوا الفرائض، وارتكبوا المحرَّمات، فطرحتْ نساؤهم وبناتُهم حجابَهن أو تخففن منه، كأنهن لا يحتجبن تعبُّدًا لله - تعالى - وإنما لأجْل الناس، ولا يُنكِر عليهن أولياؤهن ذلك، وهم مسؤولون عنهن أمام الله - تعالى - فكلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته. ومن الناس من يتهاونون بالصلاة في أسفارهم، فيؤخِّرونها عن وقتها، ومنهم من يترك بعض فروضها، فيصلي تارة ويترك تارة، والتهاون بالصلاة فيه وعيدٌ شديد؛ {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وفي سورة أخرى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5]، ويدخل في هذا الوعيدِ الشديد مَن يؤخرون الصلاةَ عن وقتها، ولا عُذرَ لأحد في ذلك، ولا يصحُّ أن يُحتج على تأخير الصلاة بالسفر ومشقَّتِه والاشتغالِ به؛ لأن الله - تعالى - قد خفَّف عن المسافر، فشرع له القصر والجمْع بحسب مصلحته، كما شرع له تخفيف الصلاة، وأجاز له أن يصليَ على حاله إن خشي فوات الوقت، ولو اختلتْ بعضُ شروط الصلاة وأركانها، فما عذرُ المكلَّف أمام الله - تعالى - إن ضيَّع فريضته بحجة السفر وقد خفف الله - تعالى - عنه؟! وهل مِن شُكر الله - تعالى - على هذا التخفيف أن يقابل المسافرُ هذه النعمةَ بإضاعة الفرائض، وارتكاب النواهي؟! ألاَ فاتَّقوا الله ربَّكم في إقامتكم وسفركم، وأقيموا له دينكم، وحافظوا على فرائضكم، وانتهوا عما حرَّم عليكم؛ فإنكم محاسبون على أعمالكم؛ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقَّة: 18]، وصلوا وسلموا على نبيكم.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() من أحكام السفر وآدابه(5) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل صوم المسافرين الحمد لله العليم الحكيم؛ شرع الشرائع لمصالح العباد، وجزاهم عليها يوم المعاد، وفرض عليهم صوم رمضان، وخفف عنهم بالقضاء والإطعام، نحمده على ما فرض وأوجب، ونشكره على ما وضع وخفف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الحكمة الباهرة فيما خلق وشرع، وله الحجة البالغة فيما قضى وحكم ï´؟ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ï´¾ [الأنعام: 149] وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ عظَّم شأن الصيام، وبين ما فيه من الفضل والثواب، وأمر برعاية حرمة رمضان، وبحفظ الصيام عن الآثام، وإعمار الليل بالقرآن والقيام، وأَرْغَمَ أنفَ عبد أدرك رمضان فلم ينل الغفران، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وخذوا من دنياكم لآخرتكم، وتزودوا في يومكم لغدكم، واعملوا في حياتكم ما يسركم يوم عرضكم ï´؟ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ï´¾ [الحاقة: 18]. أيها الناس: الإخلاص في العبادة، وتجريد المتابعة، وتحمل المشقة؛ أسباب لاستيفاء الأجر، ومضاعفة الثواب، وقبول الأعمال؛ ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها في نسكها: إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك. وحين يقدم رمضان على قوم يطول فيه نهارهم، ويقصر ليلهم، ويشتد حرهم؛ فإن لهم من الأجر بقدر نصبهم وعطشهم وتعبهم في ذات الله تعالى متى ما حققوا ركني العبادة: الإخلاص والمتابعة. وليس صوم هؤلاء كصوم من قصر نهارهم، وطال ليلهم، وأبردت أرضهم، وطاب هواؤهم. وقد تواتر النقل عن السلف بأسفهم حال موتهم على ظمأ الهواجر؛ لما يرجونه من عظيم الأجر عليها. وكثير من القادرين يفرون من البلاد الحارة في الصيف إلى بلاد باردة، فيكون الصوم عليهم أخف ممن عالجوا حرارة بلدانهم، ولا يقدح ذلك في صيام العبد، ولا ينقص أجر الصوم؛ لأن التبرد حال الصيام بالسباحة أو بالمكيفات أو بالسفر إلى بلاد باردة مشروع، ولا يشرع حال الصوم قصد الشمس أو البلاد الحارة لزيادة العطش أو التعب؛ لأن رجلا نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»؛ رواه البخاري. ولما كان رمضان يوافق شدة الحر كثر فيه السفر، والصوم في السفر له أحكام، والسفر مظنة المشقة، فخفف الله تعالى عن المسافر بالفطر والقضاء ï´؟ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ï´¾ [البقرة: 185] وثبت في الحديث أن الله تعالى وضع الصوم عن المسافر. وهذا الحكم الشرعي المحكم معلق بالسفر؛ سواء كان سفرا بعيدًا، أم قريبًا، وسواء كان مرهقا أم مريحا، وبأي وسيلة كانت السفر، وإلى أي وجهة كانت، فما دام أنه سفر تعد له عدة السفر شرعت فيه الرخصة بالفطر والقضاء. وكثير من المسافرين يريدون الصيام في السفر، ولا يحبون الفطر فيه، والمسافرون لهم أحوال: فمن المسافرين في رمضان من لا يضرهم الصوم حال السفر، ولا يشق عليهم، ويثقل عليهم القضاء بعد ذلك، فيشرع لهؤلاء الصوم، وقد يكون الأفضل في حقهم؛ لإبراء ذممهم، ولدرء المشقة عنهم. وعلى هذه الصورة تحمل أحاديث صيام النبي عليه الصلاة والسلام في السفر، ورخصته في ذلك، ومنها «أنَّ حَمزَةَ الأَسلَميِّ رضي الله عنه قَالَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَأَصُومُ في السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثيرَ الصِّيامِ، فقَالَ: إنْ شِئْتَ فَصُمْ وإنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» رواه الشيخان. وَعَنْ ابنِ عَباسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ:«صَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في السَّفَرِ وَأَفْطَر، فَمَنْ شَاءَ صَامَ ومَنْ شَاءَ أَفْطَر» رواه الشيخان.وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:«كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَم يَعِبِ الصَّائِمُ على المُفْطِرِ ولا المُفْطِرُ عَلى الصَّائِمِ» متفق عليه. وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: وكانوا يَرَوْنَ أَنَّه مَنْ وَجدَ قُوَّة فصام فَحَسَن، وَمَنْ وَجدَ ضَعفًا فَأفْطَرَ فَحَسَن» رواه مسلم. ومن المسافرين من يضره الصوم في السفر لمرضه أو ضعفه فيحرم عليه أن يصوم؛ لئلا يضر نفسه. ومن الناس من يشق عليه الصوم في السفر ولا يضره فهذا يكره في حقه أن يترك رخصة الله تعالى له والمشقة تلحقه، والله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب تؤتى عزائمه. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ»رواه مسلم، وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَصَامَ بَعْضٌ، وَأَفْطَرَ بَعْضٌ فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ وَعَمِلُوا، وَضَعُفَ الصُّوَّامُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:«ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ»رواه الشيخان. وأما صيام التطوع في السفر فالقاعدة أن المسافر يكتب له ما كان يصوم مقيما ما دام أن السفر منعه من صيامه، ويشرع له الصوم إذا لم يضره أو يشق عليه، وكان الشعبي يصوم عاشوراء في السفر ويفطر في رمضان، ويقول: عاشوراء يفوت، ورمضان له عدة من أيام أخر. وإذا كان الصوم في السفر يُفوِّت مصلحة على المسافر أو على المسلمين وجب عليه الفطر؛ لحديث أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ:«سافَرْنا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكَّةَ ونَحْنُ صِيامٌ، فنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّكُم قدْ دَنَوتُم من عَدُوِّكُم والفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فكانَتْ رُخصَةً، فمِنَّا مَنْ صَامَ ومنَّا مَنْ أَفطَر، ثُم نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فقَالَ: إِنَّكُم مُصَبِّحُو عدُوِّكُم والفِطرُ أَقْوَى لكم فأفْطِرُوا، وكَانَت عَزْمَةً فَأَفْطَرنَا...» رواه مسلم. وفي حديث جابر رضي الله عنه فَقِيلَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ:«إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ»؛ رواه مسلم. ولا يفطر من نوى السفر بمجرد النية؛ لأنه لا يكون مسافرا بالنية، ولا يُبيت الفطر من الليل، بل يُبيت الصوم، فإذا ركب رحله وباشر السفر حلَّ له الفطر. ولو نوى الصوم وهو مسافر وأمسك، ثم تعب في سفره وبدا له أن يفطر جاز له ذلك. ولو رجع إلى بلده أثناء النهار فليس عليه أن يمسك؛ لأنه أفطر بعذر صحيح. والأَصْلُ أَنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ في إِمْسَاكِهِ في الصِّيامِ وَإِفْطَارِهِ، وَأَوْقَاتِ صَلاتِهِ حُكْمَ الأَرْضِ الَّتي هُوَ عَلَيْهَا، أَو الجوِّ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ، فَمَنْ غَرَبَتْ عَلَيهِ الشَّمْسُ وَهُوَ في المطَارِ فأفطر وصَلَّى المغْرِبَ، ثُم أَقْلَعَتْ بِه الطَّائِرَةُ باتِّجاهِ الغَرْبِ فَرَأَى الشَّمْسَ فَلا يَلْزَمُهُ الإِمْسَاكُ، وَصَلاتُهُ وصِيَامُهُ صَحِيحَانِ؛ لأَنهُ وَقْتَ الإِفْطَارِ والصَّلاةِ لَهُ حُكْمُ الأَرْضِ الَّتي هُوَ عَلَيْهَا. وَإِنْ أَقْلَعَتْ بهِ الطَّائِرَةُ قَبْلَ الغُرُوبِ بِدَقَائِقَ، وَاسْتَمَرَّ مَعَهُ النَّهَارُ فَلا يَجُوزُ لَهُ الفِطْرُ ولا الصَّلاةُ حَتَّى تَغْرُبَ شَمْسُ الجوِّ الَّذي يَسِيرُ فيهِ، ولَوْ مَرَّ بِسَماءِ بَلَدٍ أَهْلُهَا قَدْ أَفْطَرُوا وَصَلُّوا المغْرِبَ، وَهُوَ في سَمائِهَا يَرَى الشَّمْسَ فَلا يَحلُّ لَهُ الفِطْرُ ولا الصَّلاةُ إِلَّا بَعْدَ غُرُوبها. وإذا تنقل الصائم بين بلدين أو أكثر أثناء رمضان فيعتد في نهاية رمضان وفي العيد بالبلد التي هو فيها، ويعيد مع أهلها؛ فإن كان صام تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين يوما ففعله صحيح، ولا قضاء عليه، وإن كان صام ثمانية وعشرين يوما قضى يوما بعد العيد. وإذا تهيأت له العمرة في رمضان، ووصل مكة في النهار صائما، وكان بين أن يتم صومه ويرجئ عمرته إلى الليل، أو يفطر ويبادر بالعمرة، فالأفضل أن يفطر ويباشر العمرة؛ أخذا برخصة السفر، واتباعا للسنة في المبادرة بالنسك. تلكم كانت جملة من أحكام المسافر في رمضان، وأن رخصة الله تعالى له هي الفطر والقضاء، وهي رحمة من الله تعالى لعباده المؤمنين؛ لئلا تحول العبادة بينهم وبين أسفارهم ومصالحهم؛ وليقوموا بفرائض الله تعالى عليهم ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ï´¾ [البقرة: 183، 184]. بارك الله لي ولكم في القرآن الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأحسنوا استقبال الشهر الكريم بالتوبة إلى الله تعالى من الذنوب، والإقبال عليه بالطاعات، ومجاهدة النفس واصطبارها على ذلك؛ فإن رمضان أيام معدودة، يربح فيها العاملون، ويخسر فيها العابثون ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [آل عمران: 200]. أيها المسلمون: لنجدد قبالة هذا الشهر الكريم عهدنا مع الله تعالى، بلزوم التوبة وكثرة الاستغفار، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، والمحافظة على الفرائض، وتعويد النفس على لزوم المساجد، والتبكير إلى الجمع والجماعات، وكثرة قراءة القرآن. وفي الاستغفار سر عجيب في قوة قلب العبد وبدنه على الطاعة، فلنكثر منه في هذه الأيام ونحن ننتظر الشهر الكريم، قال العبد الصالح نبي الله تعالى هود عليه السلام يدعو قومه ï´؟ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ï´¾ [هود: 52]. عباد الله: ولنطهر قلوبنا من غشها وبلابلها وأحقادها وحسدها، ولنجعلها صافية نقية على إخواننا المسلمين؛ فنصل القرابة التي قطعنا، ولتمتد أيدينا بمصافحة من جفانا؛ إذ لا يليق أبدا أن يدخل علينا الشهر الكريم وفي قلوبنا شيء على إخواننا، ولنعلم جميعا أن رفع أعمالنا مرهون بسلامة قلوبنا، وقد جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: « تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا امْرًَا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»رواه مسلم. فليتخيل كل من بينه وبين مؤمن شحناء من قريب أو جار أو صديق أو زميل عمل، أنه يصوم نهار رمضان، ويصلي التراويح، ويقرأ القرآن، ويمد موائد الإفطار، ويبذل الصدقة والإحسان، ثم في كل اثنين وخميس من رمضان ترفع أعمال الناس إلى الله تعالى، وعمله موقوف عن الرفع حتى يصطلح مع أخيه ويزيل ما بينه وبينه من شحناء. والله لو أن راتب الموظف أوقف، أو أوقفت أرباح التاجر، أو كراء المؤجر، شهرا أو شهرين من أجل خصومة وقعت بينه وبين أخيه، لأزالها مهما عظمت أسبابها، فكيف يليق بمؤمن أن يبقي في قلبه شحناء على قريب أو جار أو زميل أو صديق أدت إلى التهاجر والتقاطع أشهرا عدة وربما سنوات، توقف خلالها عرض العمل الصالح على الله تعالى؟! وقد جاء في الأحاديث أن الصيام سبب لإزالة ما في القلب من الغش والغل والشحناء والبغضاء، فليكن صيامنا مزيلا لضغائن قلوبنا، ولنصلح ما بيننا وبين إخواننا. وإذا حقق العبد التوبة فقد أصلح ما بينه وبين الله تعالى، وإذا صالح إخوانه وواصلهم فقد أصلح ما بينه وبين الخلق، فيكون متهيئا لرمضان تهيئا حسنا، فحري به أن يصون الصيام، ويحسن القيام، ويكثر الإحسان، فترفع أعماله إلى الله تعالى وهو على أحسن حال.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |